كيف تصنع فيلمًا مستقلاً بشقة فاضية وصديق وفي

قصة

عمر علام
الرسوم: ايجون شيللي

انكسر ضرسي اليوم في أثناء الإفطار، أخذته بإصبعي ووضعته أمامي على المفرش، لم يلاحظه أحد منهما، ظللت أنظر إلى القطعة البيضاء المدماة الرابضة أمامي بجانب طبق الأرز، وظننت أنها أيضًا تنظر إليّ، تحاول أن تحرك بداخلي شيئا ساكنا منذ زمن طويل، تنبهني أني أتداعى يومًا بعد يوم دون أن ألحظ ذلك، وأن الكلمات تظل بداخلي معلقة، تتخذ مسارًا أبديًّا داخل عقلي تدور فيه وراء بعضها البعض، صفوف طويلة من الكلمات غير المنطوقة، كلمات تشكلت بداخلي وعرفتها وحفظتها دون أن تشعر بملمس لساني وهو ينطقها.

علقت على الشاي وذهبت إلى مكتبي، يجب أن أتخذ قرارًا سريعًا، يجب أن أبدأ في العمل، لا ينبغي أن يستمر الوضع أكثر من ذلك، أمسكت بورقة وقلم وكتبت في منتصف الصفحة “فيلم قصير”، وأسفلها “تأليف: عمر”. ووضعت الورقة أمامي وظللت أنظر إليها في زهو، كنت مختالاً بالفكرة، بالنتيجة، إنه الوهم مرة أخرى يضحك علي ويغمي عيناي بسحره؛ وهم أن تنجز وأنت لم تنه إلا بضعة مشاهد لا يربط بينها شيء.

ذهبت لأصب الشاي، سمعت ضجة تأتي من خلف شباك المطبخ المطل على المنور، كانت أصوات عراك الفئران الحادة والصاخبة، فتحت لهم الشباك كي يدخلوا من البرد، وأخذت كوب الشاي وخرجت، رجعت للمكتب مرة أخرى، عندما جلست على الكرسي شعرت بطعم الدم في فمي مكان الضرس المكسور، لعقته بلساني وبلعت ريقي، وشربت بضعة رشفات سريعة من الشاي. 

فكرت في الماضي الذي صار بعيدًا، وفي المحاولات السابقة التي أنجزتها على مدار أربعة سنين تقريبا، تجارب سطحية ومشاهد سخيفة وحوارات لا توصل إلى شيء، أمسكت الورقة مرة أخرى، شطبت على اسمي ثم على “فيلم قصير” ووضعت خطًا ينصف الصفحة وبدأت الكتابة.

أفقت من حمى الكتابة حين وصلت السطر الخامس دون أن أشعر، وجدت أني أكتب عن نفسي، كلمات كثيرة تتراص بجانب بعضها مكونة نصا في نصف صفحة لا يتكلم إلا عن الثقة في الناس في محاولة –لا أدري إن كانت جادة- لمعرفة كيف يثق الإنسان في إنسان آخر.
كنت أعرف حينها أني لا أستطيع أن أثق في أي شخص، ولا أعرف كيف وصلت إلى هنا، ولكني أفقت وأنا لا أحمل بداخلي أي ثقة لأي شخص مهما بلغت درجة حبي له، ولا أعرف أيضًا هل فقدتها مع ما فقدته على مدار سنين عمري أم هي أصلا لم تكن موجودة في داخلي منذ صغري.
أمسكت بالورقة مرة أخرى وقرأت ملاحظاتي حول الفكرة التي كنت أود الكتابة عنها، عنونت الصفحة بعنوان مؤقت “كيف تصنع فيلمًا مستقلاً بشقة فاضية”، ثم شطبت على “فاضية” واستبدلتها بـ”فارغة”، هكذا أفضل، لنبدأ الكتابة الآن.

دونت بعض المشاهد التي جاءت في رأسي، وحاولت أن أفكر في افتتاحية ملفتة، مهضومة بصريًّا وفي نفس الوقت تحمل فكرة ما، كل ما كنت أحاول أن أفعله في أثناء التفكير في أي مشهد أن يتضمن فكرة ما، يتضمن شيء يمكن أن يقال حينما يحاول المشاهد فهم الفيلم، كنت أحمل نفسي زيادة عن اللازم، وأضغطها وأدفعني في الاتجاه الخاطئ، الاتجاه الذي يمكن أن ينقلب رأسًا على عقب وينتج عملاً عقيمًا باردًا لا يحرك في المشاهد شيئًا.

ورغم خوفي من الوقوع في فخ الحوارات المباشرة زيادة عن اللزوم، أو الأحداث غير المبررة، فقد حاولت وبصدق هذه المرة أن أفكر في حوارات حقيقية، صادقة، أسمعها يوميًّا في المواصلات وفي السوق حين أشتري احتياجات المنزل وحتى في فرن العيش.

لم أكن راضيًّا عن النتيجة النهائية للمشاهد، فنزعت عن القصة ثوبها الذي لا ينتمي لي، كل المشاهد التي كتبتها تقليدًا لأفلامي المفضلة أو تأثرا بها، بدأت كتابة جديدة مرة أخرى، وزنقت شخصيتي الرئيسية –التي هي شخصيتي بالطبع- وحدها في شقة فارغة تدور فيها الأحداث.

وأعترف هنا أني دائمًا أكتب منطلقًا من نفسي، لأنني الشخصية الوحيدة التي أستطيع أن أعبر عنها بصدق، يمكنني أن أضعها في أحداث متخيلة تماما كالقصص التي أكتبها من فترة لأخرى ولكن أفعالي في هذه الأحداث ستكون حقيقية، يمكنني أن أقول إني أكتب لأكتشف نفسي أكثر، وأعترف أيضًا أني أغرق فيها أحيانًا كثيرة، مثل الذي يدخل غرفة ويغلق عليه الباب لفترة طويلة منقطعا عن الخارج، وهذا ما أفعله بالتأكيد غالبية الوقت الذي أقضيه في منزلي.

كالمثال الفائت وضعت شخصيتي الرئيسية في شقة فارغة وحده، هو في شقة وأنا في غرفة، نفس المكان المغلق المغرق في الذاتية ولكن هنا بمساحة أكبر، ووضعته مدفوعا برغبته في التفرغ للكتابة، وأظنها أيضًا رغبة موجودة في عقلي الباطن.

كان بداخلي رغبة لا أفهمها تدفعني إلى تعذيب هذه الشخصية، تحفيزها لعمل شيء ما كنت لا أدركه بعد، فوضعت لها صديقًا في نفس الشقة، سأبحث لاحقًا عن السبب والمبرر لوجوده، المهم الآن أن أفكر في سريان الأحداث، ماذا سيفعلان معًا. توجد عدة احتمالات يمكن أن نضعها هنا، يمكن أن يكون صديقه هذا مثلي الجنس، ويحبه ولكنه لم يعترف له خوفًا مما سيحدث، أو خوفًا من فراقه، يمكنه أن يكون مثقفا ويفتح عينه على دروب أخرى للتفكير في الأمور، يمكنه أن يقنعه بالتوقف عن الكسل والالتفات لحياته، وأن يغير من نفسه ويحاول أن يكون اجتماعيًّا أكثر، محاولاً لاكتساب الثقة والشعور بها نحو الآخرين، يمكننا أن نكتشف في نهاية الفيلم أن صديقه هو مجرد وهم آخر في حياته، وأن صديقه هو نفسه مثل فيلم “نادي القتال”، إلا أنني أشعر أن هذه الفكرة مبتذلة، يمكنها أن تكون منطقية أكثر إذا جعلت شخصية صديقه انعكاسًا لشخصيته، ولا أجمعهما في كادر واحد إلا إذا كانوا أمام مرآة، ولكن لا، ستكون هذه الفكرة في غاية الصعوبة عند التنفيذ، المهم هنا يجب على صديقه أن يحركه إلى فعل شيء ما، هنا سيتحرك الفيلم ويجري في اتجاهه المأمول.

ولكن لماذا وضعت من الأساس شخصية الصديق ولماذا أصبحت وهما في النهاية، ربما يكون تحليلاً سخيفًا إذا أرجعت السبب إلى قدرتي المنعدمة على تكوين صداقات أو الاحتفاظ بالأصدقاء، وحيرتي حين يطلب مني عقلي -مدفوعًا بالخوف أو راغبًا في الشعور بقليل من الاطمئنان- أن أشير لشخص واحد في حياتي يمكنني أن أعتبره صديقًا حقيقيًّا لي، ولكنني أيضًا أكون متحيرًا في أوقات كثيرة: هذه الوحدة الشديدة التي أشعر بها في داخلي تملأني وتأكلني يوما بعد يوم، هل سيبددها صديق حقيقي فعلاً؟ أم هي أيضًا أفكار متوهمة يسردها لي عقلي ليعلقني بأمل كاذب أتعكز عليه وقت شعوري بالضعف والخذلان!

شعرت برغبتي في كتابة فيلم كانت بعد المشاهدة الثانية لفيلم “المنزل الذي بناه جاك” للارس فون ترير، حينها فكرت، يجب أن يمتلأ فيلمي باللوحات والإحالات لأعمال فنية أخرى تزيد من عمقه، لن يتكلم الفيلم عني فقط، سيتحدث عن كل الناس، عن البشرية كلها، وحينما قال لي صديقي، صديقي الخيالي، أن هذا لن يجدي نفعًا إذا حاولت اختلاقه فقط لإضافة العمق إلى عملك، وصفعني كفًّا أفاقني من غيبوبتي وجعلني ألملم مشاهدي التي دونتها في عقلي الأيام السابقة وأضعها بجانب بعضها البعض في محاولة لمعرفة الرابط بينهم، ثم أفرزهم لأعرف عم سأكتب تحديدًا.

أدركت أخيرًا أني حين أفكر في الكتابة في أي مرة من المرات السابقة، لا يبدأ الموضوع أبدًا من بدايته، بل يبدأ من مشهد في المنتصف، أو مشهد في النهاية، أدونه، ثم يأتي غيره فأدونه، وهكذا، ثم أحاول أن أعرف طبيعة اتصال هذه المشاهد ببعضها، وهذه أيضًا محاولة لفهم نفسي أكثر، وهذا ما أفعله الآن، كل ما دونته عن فيلمي عبارة عن مشاهد، أعرف مصدر معظمها، وبعض منها لا أعرف من أتى به إلى هنا، ولكنني أحاول.
نظرت إليه بجانبي فوجدته ينظر إلى الأوراق التي أمامي ويبتسم، لم أكن أعرف فيم يفكر، هل يسخر مني أو من طريقتي في الكتابة؟ قلت له مداريا ارتباكي:

-فيه إيه؟

نظر إليَّ

-بتكتب يعني!

-آه.. بدأت.

-طب احك لي.

-أما أخلص بس.

-طب قول الفكرة حتى.

-بكتب عن واحد بيحاول يكتب فيلم.

-زي شارلي كوفمان يعني؟

ارتبكت قليلاً

-شبهه أيوه.. بس دي قصة مش فيلم.

تركني وخرج، برد كوب الشاي بجانبي دون أن أكمله، أبعدته لآخر المكتب خوفًا من أن يسقط على الأوراق، وأمسكت الورقة التي كنت أكتب فيها، ظللت أكتب قرابة النصف ساعة دون توقف، ثم قررت أن أرتاح قليلاً لآخذ أنفاسي، أخذت كوب الشاي وذهبت إلى المطبخ، رأيت أكوامًا من الفئران منتشرة في كل مكان، على الأرض وفوق الحوض والثلاجة والبوتاجاز، مشيت على أصابعي حتى وصلت إلى الحوض، وضعت الكوب وخرجت راجعًا إلى غرفتي مرة أخرى.

قرأت آخر ورقة كتبتها منذ قليل، صدمت حين رأيت الكلمات المكتوبة، وجدتهما يمارسان الجنس بحميمية، لم أكن أعرف أن الوضع تطور هكذا سريعًا وخرج من يدي، يتوجب عليَّ الآن أن أدخل إلى النص كي أستطيع السيطرة على سريان الأحداث. كانا أمامي يلاحظانني لكن لا يوقفهما وجودي، انتظرتهما حتى انتهيا وقذفا، ثم بدأت الكلام

-أشعر بالإهمال والوحدة الشديدة، وأنكما اصبحتما لا تعيراني اهتمامًا في أكثر اللحظات التي أكون فيها في حاجة إليكما، وحتى الآن في اللحظة التي قررت فيها أن أثبت نفسي وأكتب فيلمي الأول بعد انقطاع كبير عن الكتابة، أفسدتما عليَّ هذه اللحظة وغيرتما مجرى الأحداث، أشعر أن القصة تتحرك دون إرادتي.

نظر إليَّ بغضب

-ماذا تريد؟

ترددت قليلاً

-أريد التحكم في حياتي الخاصة.

-لك ذلك، ولكن ستتحمل العواقب.

-ماذا تقصد؟

نظر إلى الآخر ثم إليَّ

-أنت تعرف جيدًا ماذا أقصد.

-لا أريد أن أكون وحدي أيضًا.

-لكل شيء ثمن.

قالها، ثم اختفيا هما الاثنان، لم أكن أصدق ما يحدث، أصابتني رعشة هزت جسدي وقلبي، ظللت أدور في الشقة باحثًا عنهما ولكن بلا فائدة، لم يكن لهما أي أثر، خطر لي أن أنزل إلى الشارع لأبحث عنهما، ولكني كنت أخاف النزول وحدي، لم يعد أمامي الآن إلا أن أجلس في غرفتي وأنتظر. الأوراق الفارغة أمامي تنظر إلى في خيبة أمل، شعرت بهزات عنيفة في الأرض وفي الجدران فخرجت سريعًا إلى الصالة، وجدت شقًّا طوليًّا يتكون في الحائط أمامي ويزداد مع الوقت، وتحت قدمي تجري الفئران مذعورة في كل مكان، أصوات صراخ تأتي من شباك الشارع، وأشخاص يدقون باب الشقة من الخارج بعنف وأخاف أن أفتح. كنت فقط واقفًا في مكاني أنتظر ظهور أحد منهما ليخبرني ماذا عليَّ أن أفعل، عيناي تدور بسرعة بداخل مقلتيها، وجفني لم يستطع أن يرمش حتى ابتعدت عن وجهي الكاميرا ذاهبة ناحية الشرخ في الحائط، ارتفعت فجأة من خلفي موسيقى أعرفها جيدًا، وهدأت الإضاءة من حولي حتى حل الظلام، ونزلت كلمة “النهاية”.