قصة الاضطرابات النفسية

لكي لا نصل إلى الإنتحار

سعاد أبوغازي

هل كان مصير مصمم الأزياء البريطاني ألكسندر ماكوين سيختلف، لو تمتع أصدقاؤه وأسرته وزملاؤه بالحد الأدنى من المعرفة بالاضطرابات النفسية، أو أشار عليه أحدهم أن يستشير أخصائيًّا، دون أن يُشعره أن عبقريته ستنقص؟

 لي ألكسندر ماكوين أصغر الأطفال الستة في عائلة بريطانية غير ميسورة، أصيب والده بانهيار عصبي في فترة أعقبت ميلاد “لي” عام 1969، ومكث لفترة في مستشفى “كين هيل” للأمراض النفسية في جنوب لندن. لم يكن “لي” تلميذًا متميزًا إلا في الرسم، ترك المدرسة وهو في السادسة عشرة، كان أصدقاؤه وأرباب العمل يرون فيه شخصًا ذا مظهر “همجي”، يضحك كثيرًا، هزليًا، بذيئًا، لا يحترم الناس، مزعجًا، كثيرًا ما يقاطع الآخرين، ولا يتردد في إبداء آراء تعكس شعوره بالعظمة والتفوق حتى على معلميه في مجال الأزياء. كان مشروع تخرجه من كلية سانت مارتينز للفنون والتصميم مستوحى من جرائم قتل النساء على يد جاك السفاح. كان موهوبًا ليس فقط في التصميم بل في إقناع الموهوبين بالعمل معه دون الحصول على أجر، بل إن بعضهم كان يدفع من أجل أن يكون جزءًا من عمله المتفرد في حقبة التسعينيات المتفجرة والمتعطشة للتغيير.

وفي عام 1992 أطلق مجموعة بعنوان “اغتصاب الأراضي الجبلية”، جعلته عنوانا عريضًا في كل الصحف البريطانية تقريبًا، وجلبت عليه السخط أيضًا، لأنه جعل عارضاته يسرن على الممشى وكأنهن تعرضن لاعتداء جنسي، كان الجمهور يشعر أن هذه الأزياء ملتقطة من مسرح جريمة، فخرج غاضبًا، وكان “لي” غاضبًا أيضًا من ذكريات لا زالت تؤرقه، عن زوج أخته الذي حاول خنقها عندما كان “لي” في الثامنة من عمره، كانت أزياؤه عموما تعبر عن مشاعر الخوف والذعر والخوف. وعندما هاجمته الصحافة بعنف قال في حوار تليفزيوني وهو يدير ظهره للكاميرا، إنه ليس ضد النساء، لكنه حاول من خلال مجموعته بيان ما يأخذه الرجل من المرأة في جريمة الاغتصاب. في الليلة نفسها التي عرض فيها المجموعة، اعترف لشريكه بأنه قد تعرض لاعتداء من زوج شقيقته، بكى، لكنه اتخذ قرارًا بألا يتحدث عما جرى له مرة أخرى، سحب ذكريات الاعتداء من جديد متألمًا وحده، ولم يخبره شريكه حينها بضرورة طلب المساعدة، كما لم يعرف كيف يتصرف في هذه الحالة. شركاء “لي” المتعاقبون كانوا في حالة شجار دائم معه، أحدهم قال إنه قرر تركه؛ لأنه لا يمكن لأي علاقة أن تنجح في التعامل مع شخص لديه مثل هذا الماضي!

في أوقات الصعود السريع لـ “طفل الموضة الشقي”، الذي حاز جائزة “مصمم العام” في بريطانيا أربع مرات، كان عليه أن يصمم 10 مجموعات أزياء في العام، وفي الفترة الأخيرة من حياته، قبل انتحاره، وصلت المجموعات التي يطلقها في العام الواحد لـ 14، وفي المقابل لم يتلق المساعدة فيما يتعلق بالضغط الذي يتعرض له ويعمل من خلاله، والمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه منذ أن كان في سن صغيرة، وبعدها لم يتلق أي دعم من المحيطين بعد أن بدأ في تعاطي المخدرات، كان مشهورًا جدًا وغنيًّا جدًا ولم يمده ذلك إلا بالأموال التي كان يدفعها يوميًّا للحصول على الكوكايين، الذي زاد من شعوره بالخواء، فجاءت العدوانية والغضب والشعور بالارتياب. قال واحد من شركائه عن تلك الفترة: كان من الواضح إنه شخص مضطرب، لكن تلك الظلمة في داخله أنتجت إبداعًا مذهلاً وعبقرية فنية!

“لي” كان يعاني بالأساس من عدم قبول مظهره كشخص بدين، فأجرى جراحة سحب للشحوم، لكن فيما بعد قال إن تلك العملية الجراحية كانت خطأ، فلم يكن راضيًا أيضًا عن مظهره الجديد كشخص نحيل، كان يرى أن العملية قد أفقدته الاتصال مع ذاته القديمة، لم يعد ما كان عليه. كان منهكًا، وكذلك العاملون معه، تساقطوا الواحد تلو الآخر، بسبب الضغط وتقلباته المزاجية العنيفة.

وبعد تأكد إصابته بفيروس نقص المناعة المكتسبة، الإيدز”، أصابه الاكتئاب الشديد، والشعور بأنه محاصر في مهنته كعبقري من عمالقة صناعة الموضة في العالم، لم يكن قادرًا على ترك المهنة التي صنعت شهرته، والتي تجلب له الأموال التي يشتري بها “الكوكايين”، كان وحيدًا أيضًا، علاقاته الإنسانية في وضع مضطرب على الدوام، تنتهي بصراخ وشجار ولكمات. قال يومًا لصديق إنه يسمع أصواتًا تلاحقه أينما ذهب “سئمت من كل هذا”، ثم أخبره ببساطه إنه سيقتل نفسه يوما ما سآتي إلى المنزل داخل كيس جثث. هذا الصديق لم يعرف على وجه الدقة كيف يجيب على هذه الاستغاثات، فصمت. وانتحر “ألكسندر ماكوين” عن عمر 40 عاما فقط، في 11 فبراير 2010، عشية دفن جثمان والدته، شنق نفسه تاركًا رسالة تقولاعتنوا بكلابي، أنا آسف.. أحبكم. ملاحظة: الدفن في الكنيسة“. المعلومات مستمدة من الفيلم الوثائقي McQueen إنتاج 2018.

لا يمكن إعادة ألكسندر ماكوين للحياة، لكن من خلال المعرفة والاستعداد لتقديم الدعم يمكن أن يتجنب الملايين حول العالم المصير نفسه، أو الحياة مع المعاناة النفسية دون مساندة، ومن هنا تأتي أهمية وجود مصادر تساعد المهتمين من غير المتخصصين والمقربين من المضطربين نفسيًّا في فهم طبيعة ما يمر به أحبائهم، والمرور من شق في حائط سميك اسمه الطب النفسي، تمكننا من فك الرموز التي يتداولها الأطباء فيما بينهم كتعويذة لو كُشف سرها فقد الأطباء قيمتهم وسلطتهم على مرضاهم.

أقواس مدينة هذه المرة من كتاب نبيل القط، استشاري الطب النفسي “حكايات التعب والشفاء.. دليل الصحة النفسية”، وهو واحد من الكتابات التي تسهم في تبسيط المعرفة الطبية النفسية المتخصصة وتقديمها من خلال قصص حقيقية، محاولةً للخروج من دائرة الاستشارات المقدمة لحالات فردية، إلى المعرفة التي يمكن أن يستخدمها الجميع، في إطار لا يقتصر على الاستشارات الجنسية و/أو الزوجية، بل يشمل الأنواع المختلفة للاضطرابات النفسية، دون تعميم أو وصف حالة “الشعب” في لحظة ما بأنه “مكتئب” فتُصرف له وصفة طبية جماعية، وفي لحظة أخرى بأنه تخلص من أمراضه وأصبح مقبلاً على الحياة ولم يعد بحاجة إلى أطباء نفسيين، فمن الواضح أنه لا وجود لمثل هذه التوصيفات بالأساس.

لو أعدنا تتبع مسار حكاية “ألكسندر ماكوين” يمكن ملاحظة أن بعض المحيطين به كانوا مدركين أن هناك شيئًا ما خطأ، وأن هناك اضطرابًا، لكن هؤلاء وجدوا للاضطراب وجهًا إيجابيًّا، وهو أن هذا الفنان عبقري، واستمرار اضطرابه يعني استمرار عبقريته، وهذه العبقرية لا تعمل منفردة، فلا بد لها من مساعدين ومستفيدين، ولم يكن هناك داعٍ إذن للمضي في طلب المساندة، أو لو كان يريد هذا العبقري طلب المساعدة فليفعل هذا منفردًا، وكأن الاضطراب النفسي مسؤولية الطبيب ومريضه، وحدهما يدبران شؤونهما الخاصة، لكن هذا الكتاب يقدم توجيهات للأهل والأصدقاء كجزء من عملية ملاحظة الاضطراب من البداية أو مساندة الطبيب والمريض في أثناء عملية العلاج، ونكتشف أن الشفاء عملاً جماعيًّا لا يكتمل إلا بمساندة الجميع.

الأقواس  من كتاب “حكايات التعب و الشفاء”، وعنوانه الفرعي: دليل الصحة النفسية ..وفيه يقدم الطبيب النفسي المعروف نبيل القط ؛تعريفات وحكايات من عالم الاضطرابات النفسية ،تشرح ما يخفف معاناة واحد من كل أربعة يعيشون حولك.الكتاب كما تقول كلمة الغلاف الخلفي”دليل للجميع؛ للمتخصصين وغير المتخصصين”.الكتاب صادر عن دار المحروسة.

القوس الأول: علامة سامح

إهداء

إلى سامح الذي دلني على الطريق ثم مضى في ثمانينات القرن الماضي. كان سامح زميلنا في كلية طب المنصورة ومن أوائل الدفعة، يعطينا مذكراته التي يكتب فيها المحاضرات ويلخص الكتب، كان خفيف الظل، له جسد ضخم، وتحبه الشلة كلها، لكنه فجأة بدأ يتصرف بشكل غريب؛ كان يغضب منّا بلا سبب واضح، ويختفي بالأيام ثم يأتي إلى الكلية بملابس متسخة ورائحة قذرة، فوجئنا به في إحدى المرات يصرخ في زميل لنا ونحن في مدرج الجامعة، ألقى بكامل جسده عليه وضربه بقوة. وبدأ يدخل في جدالات مثل مَّن خلق الله؟ وأين يذهب الهواء بعد أن يخرج من الرئتين.. إلخ، وبدأنا نهرب من مناقشاته، كما سخر بعض الزملاء منه، وسبوه في بعض الأحيان، وبدأ يقضي أوقاته في الكلية وحيدًا، وينجح بصعوبة شديدة، وتراجع ترتيبه، عندما زرته ومعي بعض الأصدقاء قدم لنا عدسًا مخلوطًا باللبن، وكان طعمه مقرفًا، وسألنا “إيه رأيكم في البيرة؟”.

مؤلف الكتاب؛الدكتور نبيل القط إستشاري الأمراض النفسية

وفي عام 1986 تحديدًا، جاء إلى الكلية وفي عينيه خوف شديد، وكنت أول من لاحظ جرحًا على يده يشبه جروح المنتحرين، اتفقت مع زميل لي أن نسحبه إلى زيارة طبيب نفسي، لكنه رفض وغضب منا، وتهرب منا لعدة أسابيع، وعرفنا من جاره، الذي كان زميلاً لنا، أن والده أتى وأخذه إلى السعودية لأداء العمرة، وظل يسقي زميلنا لمدة شهر من العسل الجبلي الذي أحضره خصيصًا من هناك، عاد بعدها سامح إلى الكلية وقد تحسنت حالته، إلا أنه عاد لتصرفاته الغريبة تدريجيًّا، حتى اعتدى مرة أخرى على أحد الزملاء في المدرج أثناء المحاضرة وحوِّل إلى التحقيق. وزارني أبوه في البيت وطلب مني أن أساعده بأي شكل، واتفقت مع أحد الأساتذة المسؤولين وقتها لإيقاف التحقيق في واقعة الضرب إذا وافق سامح على الذهاب معي إلى طبيب نفسي، وأعطانا الأستاذ رقم الطبيب أحمد ضبيع الذي نجح في إقناع سامح بتجربة الأدوية النفسية، التزم سامح العلاج وبدأت حياته تنتظم حتى تخرج، ونجح أحمد ضبيع في إقناعي بحضور جلسات العلاج النفسي الجمعي في عيادته، ومن هنا بدأت علاقتي بالطب النفسي.

أما سامح فكان غياب أبويه للعمل في السعودية سببًا في عدم انتظامه في تناول الأدوية، واستمرت حالته في التأرجح بين الانتظام والانتكاس، كنت أسمع أخباره من زملائنا محاولاته المتكررة للإقدام على الانتحار، وعندما كانت تسوء حالته بشدة وتبدأ مشكلاته في الظهور كان أبوه يعود إلى مصر لكي يدخله أحد المستشفيات النفسية ويعود بعدها من حيث جاء، ومنذ عشر سنوات سمعت أن سامح وجد ميتًا في سكن الأطباء بأحد المستشفيات في المنصورة”.

القوس الثاني: الإضطرابات النفسية

“عندما يصاب أحدنا باضطراب نفسي فإن ذلك الاضطراب، قد يأتي في شكل تغيرات في التفكير أو المشاعر أو السلوك أو العلاقات، أو مزيج من كل ذلك، ما قد يسبب ضغوطًا و/أو مشكلات للمريض. وترتبط الاضطرابات النفسية بتغيرات كيميائية في المخ قد تحدث لأسباب وراثية أو تغيرات بيولوجية أو ضغوط بيئية محيطة أو إصابات أو عدوى، وقد تحدث من دون سبب محدد.

في 2001، نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرها الأهم حول انتشار الاضطرابات النفسية، الذي جاء فيه أن هناك ما يزيد على 450 مليون إنسان يعانون من الاضطرابات النفسية، ما يجعلها سببًا رئيسيًّا للإعاقات النفسية في العالم، إلى جانب الأمراض العضوية والجسدية المسببة للإعاقات.

كما أشار التقرير إلى أن فردًا من بين كل أربعة أفراد سيعاني من اضطراب نفسي ما في حياته.

وفي عام 2014 نشر باحثون أستراليون (zachary steel et al 2014) دراسة تحليلية أجروها على 174 مسحًا على الصحة النفسية أجريت في 63 دولة عبر العالم في الفترة من 1980 إلى 20131، للتعرف على مدى انتشار الاضطرابات النفسية في العالم، وتوصل الباحثون إلى أن 29.2% من الناس عانوا من اضطراب نفسي في العام السابق لعام المسح.

كما رصدوا اختلافًا في نسبة انتشار نوع الاضطراب النفسي تبعًا للجنس. وأوضحت الدراسة أن الإناث يعانين من الاكتئاب أكثر من الذكور، بنسبة 7.3 للإناث مقابل 4% للذكور، وكذلك يصيب القلق 8.7% من الإناث مقابل 4.3 % من الذكور، في حين سجل الذكور معدلات أعلى في اضطراب تعاطي المواد المخدرة بنسبة 7.5% مقابل 2 % للإناث.

كما أجرت منظمة الصحة العالمية مسحًا آخر على 26 بلدًا حول العالم لاستكشاف أي الاضطرابات النفسية الأكثر انتشارًا، وجاء اضطراب القلق كأكثر الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الناس حول العالم، وتليه الاضطرابات الوجدانية، وهي الاضطرابات التي تصيب المزاج، ثم اضطرابات التعاطي، واضطرابات السيطرة على الاندفاعية، واضطراب الفصام.

ووفقًا لدراسة مصرية موّلتها منظمة الصحة العالمية عام 2004، وشملت خمس محافظات، فإن 17% من البالغين يعانون من اضطرابات نفسية موزعة بين الاضطرابات المزاجية (6.4%) واضطراب التوتر (4.9%) والاضطرابات الجسدية ذات المنشأ النفسي (0.6%) والاضطرابات الذهانية (0.3%).

وفي عام 2017، أجرت وزارة الصحة المصرية المسح القومي للصحة النفسية، وشمل 22 ألف أسرة موزعة في المحافظات الحضرية بنسبة 45%، والمحافظات الريفية بنسبة 55%. وانتهى المسح إلى وجود الاضطرابات النفسية في 25% من المفحوصين، وكان أكثر الاضطرابات النفسية انتشارًا هو الاكتئاب بنسبة بلغت 43.7% وتليه اضطرابات تعاطي المواد المخدرة بنسبة بلغت 30.1%.

القوس الثالث: كيف تكتشف إنك مضطرب نفسياً؟

 

“يمكنك أن تعرف إذا كنت مصابًا بمرض السكر أم لا بتحليل نسبة السكر في الدم، والأمر نفسه ينطبق على الأنيميا، وغالبية الأمراض العضوية الأخرى، الأمر الذي تفتقده الاضطرابات النفسية، إذ لا يمكننا الكشف عن وجود اضطراب نفسي معين باستخدام الفحوصات والتحاليل المعملية، مثلما يحدث في الأمراض العضوية، وهذا أحد أسباب تسميتها اضطرابًا لا مرضًا، والاضطرابات النفسية ما زالت في طور التشكل، ولذلك مع كل مراجعة تصنيفية جديدة تحدث باستمرار إضافة أو إزالة أو ضم أو فصل اضطرابات بعضها عن بعض، وذلك نتيجة لحداثة هذا العلم من جهة، ولدقة وصعوبة أبحاث المخ من جهة أخرى. لذلك نعتمد كمختصين تمام الاعتماد على ما يخبرنا به الناس، للتعرف على ما يعانونه من الاضطرابات النفسية وتشخيصها، إضافة إلى ما يتبين لنا من خلال مظهرهم، كلامهم، أفكارهم، سلوكهم، وهو ما تُعرفه بـ “أعراض الاضطراب النفسي” أو مجموعة العلامات التي إذا اجتمعت في شخص ما أمكن تشخيصه اضطرابًا نفسيًّا معينًا.

تعرف هذه الأعراض ثم تشخص من خلال “المقابلة” مع الشخص المعني أو مع المحيطين به أو المرافقين له، وهي الأداة الرئيسة للتشخيص، لأن الشخص المعني هو المصدر الرئيس للمعلومات إلى جانب المحيطين به أو المرافقين له والقادرين على ملاحظة أعراض أي اضطراب نفسي بحكم قربهم منه.

وتتشابه أعراض الاضطرابات النفسية كثيرًا مع ما نشعر به في حياتنا العادية، أي عندما لا نعاني أي اضطراب نفسي، على سبيل المثال، جميعنا مرّ أو شعر بالحزن سواء بسبب الفقد أو بلا سبب واضح ومحدد، وهذا أمر طبيعي ويتكرر يوميًّا، ولكن هذا الحزن يتحول إلى علامة من علامات الاضطراب النفسي إذا أدى إلى معاناة الشخص أو المحيطين به، وترتب عليه الإخلال بممارسات الحياة اليومية وتكيفه في البيئة المحيطة به، وذلك إذا اشتد حزنه أو بقي أو تكرر على نحو مفرط.

وأعتاد الأطباء النفسيون تقسيم أعراض الاضطرابات النفسية إلى أقسام عدة، نذكر منها: الأعراض السلوكية التي تمكن ملاحظتها ظاهريًّا، والأعراض المعرفية المرتبطة بالتفكير: أي مساره وشكله ومحتواه، والأعراض الحسية المرتبطة بالحواس وما تترجمه من معانِ وأحاسيس، والأعراض الجسدية ذات المنشأ النفسي، وأعراض اضطراب الحكم التي تشير إلى عدة القدرة على الاستبصار بالأمور وأسبابها وأبعادها وتأثيراتها السلبية والإيجابية، أو عدم التمييز بين الصواب والخطأ، وأعراض اضطراب الانتباه وهو اضطراب في توجيه النشاط العقلي نحو هدف محدد، وأعراض اضطراب الذاكرة وحفظ المعلومات في الذهن، وأعراض اضطراب الاهتداء إلى معرفة الزمان والمكان والأشخاص”.

القوس الرابع: وهل يصاب الأطفال بالإضطرابات النفسية؟

“يعاني الأطفال من الاضطرابات النفسية مثل الكبار، ولكنهم يعبرون عن معاناتهم بطريقة مختلفة أو صعبة الفهم، وقد تختلط تلك المعاناة مع معاناتهم من الأمراض العضوية، ولذلك يعتقد كثير من الأسر أن الأطفال لا يعانون من الاضطرابات النفسية مثل الكبار، ومن ثَم، لا يذهب الأهل بالطفل للفحص النفسي إلا عندما تتفاقم المشكلة أو تفشل الحلول التقليدية من طب عضوي أو عقاب أو تدليل أو “تكبير الدماغ”. ومن ناحية أخرى، يسود الظن بأن الأطفال لا يتحملون مسؤوليات ولا يواجهون مشكلات وتعقيدات الحياة اليومية، ومن ثَم ليست لديهم مشكلات تترتب عليها إصابتهم باضطراب نفسي على عكس الكبار، وهو اعتقاد خاطئ”.

القوس الخامس: حكاية قمر الذهاني الذي أنقذني من الغرق

قمر الذهاني الذي أنقذني من الغرق.
كان قمر راعي ماشية في قريتي، كنت أحبه كثيرًا لحنانه واهتمامه بنا ولعبه معنا كأطفال، حتى إنه في إحدى المرات قفز ورائي إلى الماء حين كنت أغرق ولم يكن هناك غيره يتابعني وينقذني، لكنني كنت أحيانًا أخاف من قمر لأنه كان يتكلم مع نفسه باستمرار، كأنه يكلم أشخاصًا غير مرئيين وبطريقة غير مفهومة، وأحيانًا يغضب ويشتم دون سبب، وكان الناس يقولون إنه “مخاوي” أي على علاقة بالجن أو مسحور، ولكنه عندما أشعل النار في بيته بينما زوجته وأطفاله نيام، أدخله أبي مصحة نفسية حيث شُخص اضطراب ذهاني، وعولج بجلسات الصدمات الكهربية والحقن المضادة للذهان، واستمرت حياته كما هي يرعى المواشي ويلعب مع أطفال القرية ويحميهم..

الذهان إذن هو اضطراب نفسي شديد، والشخص المصاب به يعاني من اضطراب وخلل في الوظائف النفسية الرئيسة؛ مثل الإدراك الحسي، والتفكير الواقعي والمنطقي والوجدان والسلوك، ويشير عمومًا إلى الخلل في التمييز بين الواقع والخيال، مثل قمر الذي كان يتحدث مع أشخاص غير موجودين أو يقوم بأفعال غير منطقية وربما مؤذية مثل إشعال النيران.

ويعتقد التطوريون أن الذهان بشكل عام هو آلية تكيف لجأ إليها البشر في مراحل التغيرات العنيفة والخطيرة؛ حين يكون الخيال ملجأ للحماية والبحث عن حلول إبداعية ولتخفيف ضغط الواقع الصعب وقد يصل هذا الخيال إلى درجة الهلاوس أحيانًا، كما أن التواصل مع الأرواح والآلهة كان منتشرًا ولا زال في كثير من الثقافات لطمأنة الناس وحمايتهم وخلق معنى أكبر لوجودهم القصير والبائس على الأرض، ومع التحول التدريجي إلى الحياة الحديثة بتقسيم العمل وسيطرة النظرة الواقعية للحياة مما اضطر الناس إلى الانفصال عن خيالهم لصالح الانخراط في مهام عملية مثل التعليم والتدريب التقني والعمل والالتزامات الأسرية وغيرها إلا أن البعض فشل في التكيف لأسباب بيولوجية في المخ واستمر في هلاوسه وأعراضه الذهانية الأخرى. ظهر أول تشخيص للفصام بشكله الحديث عام 1887 ليواكب تحول الإنسان إلى النظرة الواقعية للعالم وحاجته إلى الوعي العلمي لممارسة حياته العملية”.

القوس السادس: حكاية سلوى وزوجها

“كأنها خالتي سلوى التي توفيت منذ 30 سنة، دخلت عليّ هذه السيدة-التي سأسميها سلوى، وتبلغ من العمر 60 سنة- العيادة بصحبة زوجها للشكوى من إدمان الزوج للجنس. كانت السيدة تعيش في قرية في المنصورة منذ خروجها من التعليم وزواجها من 40 سنة، ولها ولدان وبنت لكنها انتقلت أخيرًا مع الزوج (75 سنة) والأبناء ليعيشوا في بيت كبير في القاهرة الجديدة. سلوى عاشت عمرها منعزلة اجتماعيًّا، وتحذر أبناءها دائمًا من غدر الناس (أي أنها كانت شخصية لا تشعر بأمان تجاه الآخرين)، ومنذ انتقالها إلى القاهرة الجديدة وهي تشكو أن الزوج ينظر إلى الجارات من وراء الستارة ثم يدخل الحمام ليمارس العادة السرية، وعندما يخرجان معا تظل تنهره “بطل يا راجل” لاعتقادها أنه يرسل إشارات جنسية إلى البنات في الشارع، وصارت مشغولة جدًا بمراقبته لدرجة أنها تمشي خلفه في الشارع لضبطه متلبسًا، وتوقظه من النوم لأنها سمعته ينادي إحداهن في الحلم، وتحولت حياة الأسرة إلى عذاب دائم، ما جعل الزوج يقترح عليها أن تذهب معه إلى طبيب نفسي ليعالجه من (إدمان البص).

وقد شخصت أنها تعاني من اضطراب ضلالي -نوع من الغيرة. وبعد عدة جلسات معها والتصديق على شعورها العميق بعدم الأمان نتيجة للتغير الثقافي الكبير الذي مرت به، ودون مواجهتها مباشرة بأن ما تعاني منه ضلال، اتفق معها على وصف دواء لمساعدتها على النوم، ومضاد اكتئاب لتهدئة قلقها ومزاجها الحزين، ومضاد ذهان بجرعة صغيرة مع زيادة تدريجية للجرعة حسب درجة احتمالها، على أن تخضع مع الزوج لجلسات لعلاج نفسي زواجي. وقد اتضح فيما بعد أن الزوج توقف عن ممارسة الجنس مع سلوى منذ عشر سنوات، وأنه بعد مجيئهم إلى القاهرة كان ينظر كثيرًا إلى السيدات في الشارع لغرابة ملابسهن ولندرة ذلك في قريته، كما أن سلوى كانت تفتقد حياتها الاجتماعية الغنية بالقرية مع انشغال أبنائها بالعمل والدراسة جعلها تركز على زوجها للحصول على شعورها بالأمان وبعد التحسن ومع التوجيه العلاجي وحضور المجموعة العلاجية الخاصة بالسيدات الكبيرات بدأت تعمل علاقات جيدة مع الجيران وتستعيد ثقتها في زوجها ومحيطها الاجتماعي.

والاضطراب الضلالي هو اضطراب ذهاني يكون العرض الرئيس فيه وربما الأوحد هو وجود ضلال (توهم) مع عدم وجود دليل على إصابة عضوية بالمخ، وتستمر الحالة لشهور أو لسنوات. والضلال هو اعتقاد ثابت في فكرة أو مجموعة أفكار تتناقض مع الواقع والمنطق ولا يمكن إرجاعها إلى ثقافة المريض. والمزاج في هذه الحالة يتوافق عادة مع محتوى الضلال، فإذا كان “ضلالاً اضطهاديًّا” شعر المريض بالخوف والحزن (مثل السيدة سلوى)، وإذا كان “ضلال عظمة” كان مزاجه منتشيًا. كما أن شخصية المريض وتفكيره وسلوكه تحافظ على تماسكها ما دامت بعيدة عن موضوع الضلال، ويكون قادرًا على الحفاظ على عمله وربما على حياة اجتماعية مستقرة ما دامت بعيدة عن موضوع الضلال، مثل السيدة سلوى التي لم تتوقف عن تأدية مهامها كست بيت وكأم وجدة وكانت تستقبل أهلها بكل الحفاوة والكرم وتشكر في زوجها أمامهم لكنها عندما تخلو إلى زوجها أو أبنائها تبدأ الشكاوى”.

القوس السابع: الاضطراباتالوجدانية و اضطراب المزاج

“يتغير مزاجنا على نحو مستمر ويختلف عبر الفصول كما تتغير الطبيعة وفصولها. وقد لاحظ اليونانيون التفاوت في المزاج ومستويات الطاقة عند الإنسان، كما وثقه المصريون والعرب، كما لوحظ التفاوت المزاجي بين البهجة الشديدة والحزن الشديد في كتابات أدباء وشعراء قدماء مثل أبو نواس ومحدثين مثل صلاح جاهين، وقد اعتاد البشر مثل آلاف السنين هذه التقلبات المزاجية إذ يميلون في بعض الأحيان إلى الانعزال والبعد عن الآخرين والصوم لفترات طويلة كما كان يحدث مع الأنبياء والمتصوفة والفلاسفة، وفي بعض الأحوال يميلون إلى الابتهاج والانطلاق والنشاط الجنسي الزائد. وقد فسر التطوريون ذلك الأمر بأن فترات الهبوط تحدث لحماية الفرد من مزيد من الإجهاد أو لتقليل الخسائر النفسية عند مواجهة ظروف معاكسة وفي حالة النشاط الزائد يكون في أوقات الوفرة وخصوصا في الربيع وبين الفصول وهو الحال عند غالبية الناس. ولكن مع الحياة الحديثة والحاجة إلى مزاج مستقر لا يتعارض مع الالتزامات الحياتية والنشاط اليومي مثل التعليم والعمل والإنتاج أصبح من الضروري السيطرة على تلك التحولات المزاجية.

عندما تزداد تلك التغيرات المزاجية في الشدة وتستمر لفترة طويلة لدرجة تضغط علينا وتؤثر سلبا في حياتنا تعتبر اضطرابا وجدانيًّا، وهي الاضطرابات التي تصيب المزاج على نحو عام بدرجة تؤثر في حياة الإنسان الفكرية والمزاجية والسلوكية، وهي ثاني أكثر الاضطرابات النفسية انتشارًا وقابلية للعلاج بعد اضطرابات القلق، وتصاحبها شكاوى مثل الأرق والإرهاق والآلام الجسدية غير الواضحة المصدر، وتمثل أكثر من 10% من تكاليف الرعاية الصحية الأولية في العالم”.

القوس الثامن: اضطراب الإكتئاب

“نوبات الاكتئاب القصيرة أمر طبيعي إذا استطعنا تجاوزها سريعًا لتعود الحياة إلى مسارها العادي، لكن هناك أوقاتًا يبدأ فيها الاكتئاب بالتدخل في حياتنا وكأنه يمنعها من الدوران، وهنا تصبح مشكلة.

علاج الاكتئاب صار سهلا في ظل تعدد وتنوع أدوية الاكتئاب، والتدخلات النفسية المتعددة، والمعرفية، تحديدًا التي تركز على تعديل الأفكار السلبية واستبدال أفكار أكثر إيجابية وتفاؤلاً بها، كما أن علاج الاكتئاب الموسمي يتم من خلال العلاج بالضوء، وذلك بالتعرض لضوء اصطناعي أقرب لضوء النهار لمدة ساعتين كل صباح. إلا أننا يجب أن ننتبه إلى أن نحو 20% ممن يعانون من الاكتئاب يحاولون الانتحار وأن 15% ممن يدخلون المستشفيات للعلاج من الاكتئاب يقتلون أنفسهم فعلا، لذلك لا بد أن ننتبه”.

القوس التاسع: الإنتحار و إيذاء النفس

“المنتحر هو شخص يعتقد ويشعر أن الموت أفضل له من الحياة، ويفكر أو يخطط لإنهاء حياته أو حاول إنهائها، والانتحار السبب الثاني للموت في العالم في الفئة السنية من 15 إلى 44 عامًا، ويأخذ سنويًّا قرابة الـ 800 ألف نفس في العالم. أما في مجتمعاتنا فالأرقام لا تكون دقيقة، لأن الانتحار مجرّم ومحرم، والمنتحر لا يُصلى عليه لأنه كافر، لذلك تتجنب الأسر الإبلاغ عن انتحار أبنائها للخوف من الوصم.

وتزداد حالات الانتحار في الربيع وتقل في الخريف، كما أن 90% من الذين يحاولون الانتحار يعانون أصلاً من اضطرابات نفسية، وأكثر من نصفهم يعاني من الاكتئاب، وأقل من النصف يعاني من اضطراب تعاطي المخدرات، والباقون يعانون من اضطرابات نفسية أخرى، والـ 5% المتبقية تعاني من مشكلات جسدية خطيرة، مثل الأورام السرطانية والأمراض المزمنة والإيدز. وعلى الرغم من أنه ليس كل منتحر مضطربًا نفسيًّا فإن كل مضطرب نفسي لا بد وأن يُفحص فيما يخص الانتحار، وقد وُجد أيضًا أن الانتحار ذو رابط وراثي يرتبط بانخفاض في نشاط السيروتونين في المخ.
يحدث الانتحار في كل مراحل الاكتئاب، فهو يتزايد مع بداية التعافي من الاكتئاب، كما أن ثلث المنتحرين لديهم تاريخ سابق لمحاولات الانتحار، ويميل المنتحرون للعزلة قبل الانتحار، وواحد من كل 6 يترك معلومات عن انتحاره قبل أن ينتحر. وبعيدًا عن الاضطرابات النفسية، يحدث الانتحار بين المراهقين عندما توجد اضطرابات مع الوالدين أو مشكلات دراسية، ويحدث مع الكبار عندما تكون هناك صعوبات مالية وصحية وتعاطي مخدرات وفقدان للعلاقات الحميمة.

ولحسن الحظ، من بين كل عشرين شخصًا يحاولون الانتحار فإن شخصًا واحدًا فقط ينجح في إنهاء حياته، لكن غالبية الذين يحاولون الانتحار لا يذهبون إلى الاستشارات النفسية ولا يتلقون الدعم المناسب، لذلك يحاولون مرارًا حتى ينجحوا”.