وداع الأوجه

الآتي ليس مجازًا شعريًّا

حسين فوزي
اللوحات: روني هورن

الكل هنا يدخن سجائر اللف. مقابل اتشاحهم من البرد بالكوفيات وموديلات زارا، بدا تافها ببنطلون بويفريند وهودي أبيض. مقابل وجوههم التي شكلت خرائط ممتلئة المعالم، بدا وجهه نضرًا زيادة عن اللزوم، بلا تفاصيل. بعد انتهاء الندوة، سلم على كل من قُدِّم إليهم ليلتها. قرأ لمعظمهم وسمع عنهم جميعًا في السابق، وتأتي مقابلتهم لتزوِّج الأوجه بالأسماء. وصلتْ سيارة أوبر فركبها وانطلق نحو شارع ٩، إلى أقرب محطة مترو.
سأله السائق: ممكن بس لو حضرتك تتابع معايا الطريق علشان أنا ماعرفش أي حاجة عن المعادي؟
أجابه بابتسامة: لأ.. الأفضل تمشي على اللوكشين، ما تقلقش دا نفس المكان اللي جيت منه.

كانت السيارة المطوقة بالأشجار العالية والمتريِّضين بالكلاب، تسير ببطء في الشوارع الضيقة. أسند رأسه إلى الزجاج وهو يستعيد كل المناقشات السوفستيكيتد التي دخل فيها ليلتها. كشطت الصدأ عن مناطق في ذهنه نسى وجودها أساسًا.
وعد السائق بتقييم من خمس نجوم، شكره وخرج، قطع تذكرة ثلاث مناطق، سينتقل من جنوب القاهرة إلى شمالها في شبرا، ومن هناك يأخذ المواصلة التي ستعيده للمنزل.

كان قطار المترو قديمًا بمقاعد متقابلة، ونوافذ مُستَّرة بستائر خشبية متآكلة تُسحَب لأسفل. طوال الطريق كان يستمع على الرِّيبِيتْ لأغنية هوت نيجا لبوبي شيموردا، وفي كل مرة لم يستطع التحكم في رأسه عن خبط الهواء عندما يقول: Mitch caught a body about a week ago.

هي الجملة ذاتها التي استُخدِمَتْ ضده في محاكمته التي انتهت على قضائه سبع سنوات في الحبس بتهمة الحيازة غير القانونية للسلاح، واستُخدمتْ الأغنية كاعتراف بالتآمر على القتل والاتجار في المخدرات ضد آخرين من عصابته GS9.

عندما انتهى من الرقص على دليل الإدانة، فتح عينيه ليجد الوجوه الغلبانة، المركبة على أجسام دحداحة، تنظر إليه في استغراب من اندماجه فائق الحد في الرقص برأسه وهو يطوحها في الاتجاهات الأربعة. مُحرَجًا نقل نظره للخارج ليجد أنه وصل إلى محطة رمسيس، أخذ عدته وهرول ليغير مساره من المرج إلى شبرا.

نزل إلى الشارع في محطة كلية الزراعة. أخبره تطبيق سويفل أن الحافلة تبعد عنه بعشر دقائق. ضاعت منه دقائق الانتظار في متابعة شجار بين زوج أفريقي بلغة غريبة عليه، بدت غير أرضية، كتعويذات سحرية. فصل بينهما مخبر طلب إثبات شخصية من الولد الذي امتلأ وجهه بخربشات من أظافر الفتاة التي انتهزت فرصة انشغاله وركضت بعيدًا.

جلسَ بجوار النافذة في العربة. أخرج هاتفه من جيبه، أرسل طلبات الصداقة لكل معارفه الجدد، ووافق على طلبات من أرسلوا إليه على فيسبوك. قلب في الرسائل إلى أن توقف عند فتاة تحدّثه بشكل شبه يومي، كانت الرسالة تقول: أخبار القمر إيه؟

كان الرابط بينهما واهيًا، واعتبرها على قدر ضخم من السذاجة واصطناع الرقة. لكنه اليوم اكتفى من المحادثات الذكية. فسلَّى نفسه لبعض الوقت بمشاركاتها له بصورها المفلترة، وأظافرها المعمولة حديثًا، والبوت الذي طلبته أونلاين ووصلها ذلك النهار. كان مستحيلًا أن يحبها، مذعورًا من جرح مشاعرها، مخافةً من أن تطور اللعبة المشتركة بينهما لشيء أكبر، أمسك نفسه عن التمادي وأخذ يبني حوائط الصد. لذلك عندما بدأت تتحدث عن دراما أصدقائها وزحمة أفكارها، عوضًا عن ممارسة النفاق الذي أجاده كنوع من التأقلم الاجتماعي، لم يلبس قناع المهتم سائلاً عن مزيد من التفاصيل، بل رد: ربنا يولي من يصلح. ثم أغلق داتا هاتفه.

بدأ يقرأ على ضوء باهت نسخة مترجمة حديثًا من نيران شاحبة. لكن نظره كان يجري على الكلمات دون استيعاب أو فهم جراء جرعات الإسبرسو المتلاحقة التي عبها. كان مخه يقظًا للدرجة التي لا تتيح له القدرة على التركيز.

أعاد الكتاب لحقيبته، وضع سماعتيه، واشتغلتْ على الشافل أغنيات متنوعة موسيقيًّا، بين تيارات الروك البديلة، والبوست بانك، والهيب هوب. أخذ يعيد أغنية باوند ٢ لكانييه ويست التي وافقت المود بشكل كبير. يبدأ بجانب بذيء وشهواني من الحب في الفيرس الثاني والأخير من الأغنية: نفسي أنكحك جامد على الحوض، بعدها ممكن نجيب حاجة نشربها. ثم بعد الكثير من الكلمات التي نزلت على أذنيه كماء مثلج، ينتهي في مزيج وصل إليه من الزهق والتطهير: إحنا الجوز تعبنا، وجيسس بيعيط على حالنا.

كان دائمًا يترجم كلمات الأغاني بتلك الطريقة في وعيه، باعتبارها نكتة باطنية، لا تخص أحدًا سواه. ولكن لمَ استخدم كلمة نكح تحديدًا؟ ومع ترددات الأغاني المنتقلة عبر موصلات السماعتين، انشغل في مراقبة الطريق الذي يتراجع للخلف بينما هو يتقدم للأمام دون حركة. كان يدخل في أحلام تستمر لساعات بينما في الوقت الواقعي كانت تكافئ رفة جفن. يبدأ الحلم دومًا بأنه في قطار العواصم، يسافر دون وجهة محددة وقد استنزفته المناقشات الصاخبة مع مجاوريه من الركاب. يحاول أن يقبض على الحلم بتفاصيل صغيرة حتى تنفلت منه. شكَّل زجاج النافذة، الذي أراح رأسه عليه، إيقاعًا ثابتًا من اهتزازات على خده المتورِّد. وأخذت الخطوط البيضاء على الأسفلت تلتحم مع سرعة الطريق. اتحدت الألوان المنعكسة على الزجاج من الأنوار المتربة للمحلات. تكتلت كل معالم الطريق وانطوت على نفسها كما طوى هو النيران الشاحبة منذ قليل. وفي الخلفية تناهت إلى سمعه الأصوات المجردة للخناقة الأفريقية التي شهدها قبل وصول الحافلة على هيئة منطوقات عديمة الشكل والمعنى، تمامًا مثل افتقار ذاته للتكوين والصياغة. ورغم ذهنه النشط إلى حد التوتر، كان بدنه متعبًا، فلا معنى للمقاومة؛ ضربته الذكرى دون أية مثيرات مباشرة.

حفرة خلَّفَها القمر

قَبِلَ دعوة مودي فهمي بقضاء ليلة في بيت خاله الخاوي والواقع وسط مزارع الإبراهيمية على ضواحي الزقازيق. كان يفصلهم أسبوع عن بداية سنتهم الدراسية الأولى في الجامعة. وداع للاضطرابات الهرمونية وترحيب بفترة جديدة ظنوها حافلة بالنضج وتحمل المسؤولية في تحول عنيف غير ممهد.

كان جالسًا على كنبة متهالكة ومريحة يتابع شريط زفاف قديم وجدوه وسط أكوام التراب في وسَعِ البيت، يشاهده بنصف خلايا مخه التي لا تزال شغالة بعد تلف النصف الآخر، بينما الباقي دخلوا في محادثات طويلة عن تريكَّات ليج أوف ليجيندز ومسلسلات الأنمي المفضلة لهم. في الخلفية صوت مولد الكهرباء يمزق صمت ليل المزارع. انتصب مودي وقال له: أدهم، ما تيجي نطلع نتمشى شوية نشوف فيه حد فاتح ولا لأ علشان محتاج سجاير ونشتري أزايز ماية. أنارا الطريق بكشاف الهاتف، فما من فوتون ضوء بالخارج، والشوارع طينية غير مسفلتة. كان يفكر في أثناء تمشيتهما في أغنية كانييه ويست التي ستشتغل بالمصادفة في أثناء عودته من ندوة مزدحمة ستقام في المعادي بعد ثلاث سنوات من اللحظة الآنية. كان اللحن، المُسَمبَل من أغنية بوب خمسيناتي، يتردد بداخله وهو يترجم الكلمات: نفسي أنكحك جامد على الحوض، بعدها ممكن نروح نجيب حاجة نشربها. وبدت كلمة نكح موافقة تمامًا لوقعها الإنجليزي، عملية ميكانيكية تفتقر للحب والشِعْر. ولكن النكح لا يشتمل، بالنسبة إليه، على المتعة، بل على العكس فهي تعتبر المتعة في تلك الحالة شرًا ودنسًا، وهو المناقض لكلمة Fuck العاكسة لشهوة غرضها الوحيد هو الاستمتاع. فكر في استبدال النكح بالنيك لكن الثانية كان وقعها يميل للاستخفاف أكثر من أي شيء آخر. قال لنفسه: طب إيه رأيك نخليها أريد أن تبًا إياكِ بقوة على الحوض؟ لم يستطع مغالبة نفسه وانفلتت منه ضحكة.
علامَ تشغيل الدماغ والمجهود أصلاً؟ عرف الأغنية للمرة الأولى، قبل امتحانات ٣ ثانوي بفترة بسيطة، عن طريق قناة One Music اللبنانية، التي عرضت فيديو الأغنية الفاحش دون قطع أو تشويش. ترك وقتها كتبه ومذاكرته وسُحِل مع الفيديو. سيء جدًا لدرجة أنه حلو.

الفكرة بسيطة: كانييه على موتوسيكل، الكاميرا تصوره من جانبه الأيسر، بينما في الخلفية استخدام مبتذل للجرين سكرين يحاكي أفلام الخيال العلمي الرخيصة المنتمية للسبعينيات، تعرض كثبان وأراضٍ خضراء ومناظر طبيعية شديدة العمومية. ثم دون مقدمات نرى كيم كارديشيان بجسمها البلاستيكي جالسة أمامه. وجهان متلاصقان، وشعرها يتطاير في اتجاه يستحيل فيزيائيًّا أن يتحرك فيه الهواء.

طوال تلك الفترة إذن كان يحاول إضفاء المعاني على أنشودة حب لكيم كارداشيان. لكن أليس ذلك هو أم الوجودية التي قرأ عنها منذ سنين في كتاب لهايديجر لم يعد إليه قط من بعدها؟ القلق الفلسفي من العدم الذي ينتج عنه هوس ملح بإضفاء المعاني على كل شيء.
قطع مودي شريط أفكاره: أنت عارف إن المكان دا مليان إخوان؟
هزأ ورد: أنا ما شفتش جنس مخلوق هنا غيرنا علشان أقول إنه إخوان.
تدريجيًّا، أخذ الطريق الطيني في الارتفاع، وتحول الطين إلى الرمل. بينما البيوت الخشبية على جانبي سيرهما لا تزال عند المستوى الأصلي الذي ارتفعا عنه. كل شيء جاوزه الزمن هنا، محاكاة شرقاوية لقبائل آميش.وشعر بنغزة قوية في صدره عندما قال الآخر: من كام يوم كنت في كافيه جاليري مع الشباب وقابلت حور، قالت لنا إنكم سبتوا بعض برغم إنكم كنتم قريبين جدا يوم حفلة الساقية، إيه اللي حصل؟
ومضت في خياله صورة خاطفة لوجهها، الماسكرا تسيح عليه من البكاء، وجبهة رأسها مغطاة بشظايا زجاجية، فمثل رقصته المستقبلية بخبط الرأس في الهواء، كانت تضرب وجهها بعنف في زجاج الطاولة، إلى أسفل. عرف لماذا أخبرتْه بأمر انفصالهما، ولذَاتِه المتضخمة لم يكن ليعطها ما تريد، لذلك حافظ على حياد ملامحه في العتمة: الطرق اتفرقت، الشخصيات اتغيرت، مرحلة وخلصت مش أكتر.
ابتسم مودي ابتسامة بدت مريبة جدًّا في ضوء كشاف الموبايل: أنا هنا لو أنت حابب تتكلم في أي وقت. التوتْ مشاعره ناحيتها إلى سخرية ثقيلة الدم احتفظ بها لنفسه. كتم غيظه المُباغِت وركل حجرًا للأمام، فتدحرج عائدًا على المنحدر لأسفل، عندما رأى بقعة ضوئية قوية شكلت مستطيلاً على الأرض خارجة من مستودع على نفس مستوى البيوت، التي كونت حزامًا طويلا لا ينتهي على الطريق من الصفين. ألقى مودي السلام، وطلب من البائع، الذي لم يتبينا منه حتى الآن سوى ظهره، علبتي مارلبورو وخمس زجاجات مياه من فئة اللتر ونصف. رد مَنْ بالداخل بلكنة ثقيلة أنه ما من أحد يدخن المارلبورو هنا: مافيش غير كليوباترا، تمشي معاك؟ رد مودي: عادي قشطة.
رأى أدهم السحنة بوضوح عندما التفت البائع، مع أن الضوء كان يأتي من خلفه. وجه سمين ضخم امتلأ بحفر متسعة تبقبق منها سوائل شفافة، طيات من السمن أخفت العنق، وتجاويف فارغة مكان الأعين. لم يكن دخانًا ما صدر من فم وجه البائع المشوه عندما أطلق صرخته الحادة، بل تمثيل حقيقي لموجات الصوت. منتهزًا الفرصة المتزامنة مع رغبته المفاجئة والملحة في الرحيل، امتطى أدهم شريط الصوت مروضًا أمواجه إلى أن امتدت على هيئة خط معتدل. لم يعرف الصوت السير المعوج أو الانحراف، فطريقه مستقيم ومستمر. كان يقابل الحوائط أحيانًا، فيعلو الصوت تلقائيًّا، تتضخَّم الموجة فتكسر السدود والحواجز، أو ينخفض الصوت ويهدأ عندما يحتاج لعبور كوالين الأبواب. هكذا كانت رحلة عودته للبيت، تاركًا خلفه مودي الذي تساءل إلى أين ذهب صديقه الذي ابتعد عنه ببصره للحظة ليعود ويكتشف أنه ذاب في الهواء الطلق، دون وداع لشلته في البيت المهجور وسط المزارع، دون موسيقى خلفية في ذهنه. رماه الصوت على السرير في غرفته وانسحب. في الصباح استيقظ على صداع مميت، وعندما فتح عينيه انزلق ألمه عليهما.

محاورة

أنزله سويفل في مكان يبعد عن بيته مسافة ثلث الساعة سيرًا. أخبره جوجل أسيستانت بانتصاف الليل، ثم ماتت بطارية هاتفه وانغلق. كان لا يزال يلوك ذكرى امتطاء شريط الصوت. عندما وصل للطرف الأخير من حبل ماضيه، شعر بتسارع مميت لضربات قلبه بلا قدرة على التنفس. انحنى واضعًا يده على صدره محاولاً تنظيم إيقاع دخول وخروج الهواء، شهيق.. زفير، ١.. ٢، شهيق.. زفير، ١.. ٢. هبت رائحة جوارب غضة، وسمع صوتًا خشنًا: أنت كويس؟ رد وهو لا يزال منحنيًا رغم انضباط إيقاع تنفسه: التغيُّرات المناخية المفاجئة بتدمر نظامك التنفسي، التدخين كمان مابيساعدش.
اعتدل في وقفته بعد أن هدأت نبضاته، وتلفت حوله ليشكر الشبح اللطيف على اهتمامه، فلم يجد أحدًا، فقط الهواء يصطدم بجنبات الشارع محدثًا قنابل سمعية اغتصبتْ أذنيه. استكمل السير حتى وصل لمحيط جامعته، الشوارع عظام أسمنتية. خراسانات وكباري، بلا هيئة. أراد كثيرًا أن يكتب عن الزقازيق، لكنه عجزَ بسبب افتقار الموجودات هنا للتاريخ. فمحلات المطاعم والكافيهات هنا تنفتح لأشهر ثم تعلن إفلاسها وتُهجر، لتفتح أماكنها مطاعم وكافيهات أخرى. لا ذكريات لتُثبَّت فيها. كما أن طفولته كلها اختزلت في بيت بِيعَ منذ زمن بمال لا قيمة له الآن بعد التعويم. لا محفزات للحنين هنا. سيطرت عليه زرقة وحزن، لا يرتقيان للكآبة، بسبب مصابيح المساء العالية، بل كانا أقرب للشعور السخامي الذي فرغه في مستهلات مراهقته بكتابة قصائد يشعر بالكسوف كلما عاد لقراءتها.
تذكر أن فلوسه أوشكت على النفاد، فاقترب من ماكينة السحب الموجودة بجوار بوابة كلية الآداب، والتي تنشر لمَعَات خضراء مبهرة. وضع الكارت الذي يُحوَّل عليه مصروفه الشهري، فهو لا يزال، رغم كل شيء، طفلًا وعالة، بقدرة منعدمة على تحمل مسؤولية نفقاته. بمجرد أن خرجت الأوراق من فئة المئات، سمع صوت صرير ينبعث من هيكل سيارة خلفه ثم اصطدامًا مدمرًا.
نظر خلفه، لا أثر. حدق بقوة، حتى رأى كيانًا ضخمًا، لا يتبين منه رأسًا أو رقبة، حتى إن جذعه اخترق طبقات الغلاف الجوي، إلى الأعلى. لم يكن الكيان مصمتًا، بدليل أنه كان يتحرك ناحيته. كان خوفه أقوى من ميوله للبقاء، فتسمرت قدماه وهو يرى الكيان يقترب شيئًا فشيئًا وقد خلقت خطواته دويًّا. بدا أن الأسفلت يموه من أسفله. وقف أمامه بالضبط، وهو بالكاد يطول حِجْرَه. مد له كفه التي وسعت كل شيء حي وقال من أعلى السحب: أنا ملاك، كنت جاي هنا بجمع حساب كام حد واتأخرت ففاتتني المواصلات للجنة، قل لي يا دودو.
سلَّم له يده التي ثقِّلت بالنسبة لضخامته مثقال ذرة، وصرخ حتى يصله صوته: وأنا أدهم حمدي.

استمر الملاك يضم ويرخي يده بلين كما لو أنه يحاول الاحتفاظ بحفنة من الرمال في كفه: أنا عارف. صدفة غريبة حصلت واترفع عنك الحجاب علشان كدا أنت قادر تتواصل معايا، ودا من حسن حظي طبعًا لأني مش مستحمل أفضل لوحدي وملايكة الوردية الليلية لسة ماجتش حتى.
هز رأسه بلا قول، فاستأنف: الأفضل تتكلم معايا في ميجافون علشان زورك مايتعبكش. فتح حقيبته التي تشبه حقائب جُباة الضرائب ومحصلي الوصولات، المثبتة عند وسطه. أخرج منها مكبر الصوت وأعطاه له بيده الخالية دون أن يفلت يده الأصلية: خليك ماسك في ايدي لأنك صغير أوي وأخاف أدوس عليك من غير قصد.
فرغت جميع الطرقات. الأمر الذي كان غريبًا ولم يعهده في مدينة ضيقة ومزدحمة السكان كتلك. تمشيًا دون كلام في الطريق لمنزله. بدا الصمت شديد الأكواردنيس، فحاول فتح موضوع: هي الملايكة عندها مشاعر؟
رد عليه: آه طبعًا، لكن أغلبها بيتمحور حوالين الأسى وخيبة الأمل، فبنقضي وقت فراغنا كله نتعبِّد لأننا مانعرفش حاجة عن الحب. بعد ما الواحد منا بيتخلق، بيعدي على مكنة بتخيط ما بين فخاده، فبنتكاثر ذاتيًّا.
قال الآدمي في الميجافون: كنت فاكر إنكم مجبولين على الطاعة.
رد: لأ، إحنا عندنا حرية إرادة لأننا برا الزمن.
استفسر في براءة الهُبْل: وإحنا أكيد أحرار برضه؟
أجابه: إطلاقًا، كل نقطة بتعدي عليها بتمشي بالتوازي مع نقطة تانية على خط الزمن، كل الأحداث بتزامن بعضها ومافيش حاجة بتسبق حاجة، أنا حتى لسه امبارح كان عندي مأمورية في ٢٦٦٦.
سأل: والدنيا اختلفت لأنهي درجة؟
قال: ولا أي حاجة، مافيش اختلافات جنونية، ماعملوش عربيات بتطير. الزمن دا مجرد لعبة، أنا ممكن أجيبهولك دلوقت أفرجك عليه شوية.
وبالفعل، جرد المكان من الزمان، فثبتتْ الأبخرة في الجو وتجمدت ذرات التراب في الطقس. شكل من الزمن زوحليقة عزم أدهم على التزحلق عليها. مسد عليه، روضه، مارس بخط الزمن ألعابًا بهلوانية متمرسة في فرح ومرح.
بعد أن فرغ من الزحلقة، تاق بقوة للتدخين، ولكنه شعر بأن شرب سيجارة أمام الملاك ستُعَد قلة أدبٍ منه. بدد الفكرة عن رأسه ونفَّس: لما البيت بيكون فاضي عليا بحس إني شيزوفرينيك، بسمع صوت طقطقة رجل أختي على خشب الباركيه.
قال الملاك: بس قاعدة بياناتك بتقول إن ماعندكش إخوات بنات.
رد عليه: بالظبط، لكن الخيالات دي بتكون قوية ومش جاية من جوايا، فاهم حاجة؟ الأصوات بتكون واضحة لما بتيجي في الضلمة وأنا بحاول أنام تسألني يومي كان عامل إزاي وإذا كنت اتبسطت أو لأ. ساعتها بنوَّر أنوار البيت كلها وبشغل أغاني على أعلى صوت وأشوف حد أكلمه لحد ما أروح في النوم. وتنهد ثم استأنف: علشان كدا ماعدتش طايق البيت خالص الفترة دي لأنه فاضي والكل مشغول.
وصلا إلى أسفل العمارة التي بها منزله: دلوقت أنا هطلع أطبع شوية ورق وآخد دش سخن وأغير هدومي، وأسيب موبايلي يشحن شوية. بعدها هعدي على ناس صحابي بيلعبوا ليج أوف ليجيندز في سايبر ستار، ٣ دقايق من هنا، هروح آخدهم علشان نذاكر شوية لحد الصبح. يومي هيكون طويل بكرا، عندي كويز وتسليمات ومحاضرة ومعمل، والبيت مكان مرعب بالنسبة لي على إني أعمل فيه أي حاجة.
ثم أخيرًا قال مودعًا: آسف إني مش هقدر أعزمك على حاجة تشربها، بس بيتنا أضيق من إن تخشه ملايكة، وحتى لو كان سقفه عالي كفاية، الأسانسير مش هيقضيك.
لم يعقب الملاك، بل هام مبتعدًا. الآن وقد ولاه ظهره، بدا ما بان من كيانه يصغر كلما بعد. حاول اكتشاف تفاصيل جديدة فيه. لكنه كلما اكتشف ملمحًا جديدًا كان يمعن في الاختفاء، وقد أمطرت دموعه في محيط من حوله، شاطحًا بجذعه دون اهتمام مكسرًا خصائص المدينة التي صنعها خيال الكاتب.
إن كان حدث ذلك في ماضٍ قريب، كان ليعتبره إحدى هلوسات الزاناكس الذي كان يداوي به اكتئابه المشخص ذاتيًّا. لكن أيام التداوي بدت بعيدة جدا الآن. كحلم قطار العواصم وذكرى السهرة الإبراهيمية. ترك كل شيء طعمًا كالغثاء على طرف لسانه، إذ غدا البشر أزمنة.

عادي. رمى وراء ظهره وطلع.

 

تتمَّة

الحمد لله، وجد كانييه ويست الرب ورُمِم عطب روحه. ساعده اكتشاف الرب وولادته من جديد، في تصريحاته على تويتر، على تهدئة نوبات غضبه التي يحفزها مرضه بالبايبولار. أصدر بعدها عدة ألبومات ذات طابع إنجيلي ملتزم ومتحفظ دون شتائم أو تباهي بالممتلكات الدنيوية. التباهي ارتكز، في استحياء، على أنه أصبح بين اليدين الرحيمتين الناعمتين لجيسس، الذي ولا بد أن دموع شحتفته من الحزن على حاله هو وكيم، التي انفصلتْ عن كانييه علانيةً، استحالت لدموع الفرح. أيًّا كان، لم تمر الأمور بشكل جيد في الامتحان المصغر من مادة النمذجة والمحاكاة. مخه راح مع تفاصيل محاورته مع الملاك، محاولاً اكتشاف تفاصيل جديدة في كل مرة، يحاول أن يضيف التفاصيل الصغيرة الجديدة على الصورة الكاملة التي صنعتها قصة المقابلة، بلا نفع، فتتهاوى الذكرى بكليتها. أخذ يحاول مرة وراء مرة في تشييد قصة كاملة لليوم ليجد شيئًا يحكي عنه مع أصحابه، إلى أن أعلن دكتور المادة أزوفَ الوقت.
شعر بخواء وفراغ رهيب يسحب كل مسببات السعادة من خلايا جسده. رغب في حركة أو دراما. ذهب إلى المقهى بعد انتهاء اليوم الدراسي، فكر في أن يكتب لذات الأظافر والصور المفلترة بانتهاء ما بينهما بعد لعب طويل بقلبها، مثلما قال الرابر في تشبيه سهل وكسلان، كما لو أن مشاعرها بنك الحظ.
كتب لها: أوكاي، أتمنى ماتخديش اللي هقوله دا بشكل شخصي بس أنا زهقت ومافيش حاجات مشتركة بينا كتير، أنا تعبت من جو الإيموز اللي أنتِ عايشة فيه والزمن تخطاه من ٢٠٠٧، ومن صور تقطيع الشرايين بالعرض اللي بتبعتيها لي كل كام يوم، ومن أغاني الشو-جيز البضان اللي أنتِ مقتنعة إني بحبها أو حتى تصورك إن حبك لهاروكي موراكامي هيقربك مني. أتمنى تتجاوزي كل مشاعرك ناحيتي. بالتوفيق في حياتك.
ارتسمت على وجهه ابتسامة منتظرًا ردها، لأنه يموت في رد الفعل.بعدها بعشر دقائق، كتبتْ: أدهم، يا حبيبي، ليه تعمل كدا وتخلي شكلك وحش؟ أنا كبيرة كفاية لأني أكون مامتك. مين قال إن عندي مشاعر ليك؟ أنا أولريدي مصاحبة، وبكلمك لأن صاحبي عنده حاجات مهمة كتير في حياته ومش فاضي يمسك الموبايل، فأنت بتسليني وبتعرف تضحكني. كيوت بوي، أنت جبت منين التصور إني بائسة في حياتي لدرجة إني هحب طالب جامعي أصغر مني بسبع سنين.

بدا أن إهانة الرفض لا تكفي، وقد انقلبت النكتة عليه الآن، لأنها استكملت تعنيفها: أنا بجد محبطة، أنا كنت فاكرة إن الكتب وكل الهباب اللي في دماغك دا هيخليك شخص عاقل ويكبرك عن سنك، وبعدين الثقة دي كلها مش متناسبة خالص مع حد لسه بياخد مصروف. شكرًا إنك فكرتني بقد إيه الناس ممكن تكون مرعبة.
تناهى إلى سمعه وهو يقرأ رسائلها أصوات الكلمات الملغزة للشجار الأفريقي أمام محطة كلية الزراعة بشبرا، كلحن خلفي للحدث الافتراضي. ثم بعد أن تأكدتْ من قراءته لرسائلها بالكامل، بلَّكَتْه. التزم بالنظر إلى الأرض في أثناء عودته للمنزل سيرًا، كأنه يبحث عن شيء ضائع تحته. بعدما وصل وهو يفرغ حقيبته، وجد الميجافون الملائكي ملقى على المكتب، احتفظ به في الدرج على أمل أن يأتي الملاك ويستعيده. صدق حدسه، فبعدها بساعتين، أغلق عينيه المتعبتين من تتبع الأرقام والمعادلات، محاولا رج شيزوفرينيته بعيدًا عن أحلامه، ثم فتحهما ليجد ملاك الأمس، لكن تلك المرة على أصغر. عرفه من تضاريس جذعه التي أخذ يقلبها جيدا في أفكاره طوال اليوم، وبان له أخيرًا وجهه، الذي استعار تقاطيعه من ملامح أدهم.
أخبره الملاك أنه قضى ليلة البارحة في حضرة أحد شيوخ الطرق في الإبراهيمية، كانت أمسية جميلة، ثم في الصباح انشغل بجمع الحسنات، أنهى عمله وقرر أن يأتي ليزوره ويسترجع مكبر الصوت، وربما يسهر معه بما أن البيت فاضي: بصراحة أنا حبيت الكلام معاك.ساعتها، شعر بالسعادة، كمداعبات الفوربلاي الجافة، تلمس فخذه دون ولوج، وقال بحنك فشخَه فرط الانبساط: نورتنا!