الأب في طريقه إلى الموت بكرامة

السيد برنيم لا يحب الانتظار مثل الآخرين

داليا شمس

Tout s‘est bien passé!

“كل شيء سار بشكل جيد”، بهذه الجملة البسيطة ينتهي فيلم المخرج فرانسوا أوزون الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، وعُرض في مهرجان الجونة مؤخرًا خارج المسابقة الرسمية، وفيه تروي المؤلفة الفرنسية إيمانويل برنيم الأيام الأخيرة في حياة والدها الذي طلب منها مساعدته على الرحيل مبكرًا. جاءت العبارة (وهي عنوان الفيلم) على لسان الممثلة صوفي مارسو إحدى بطلات العمل لتطمئن أختها أن أباهما قد رحل في سلام، دون ألم، وأن عملية القتل الرحيم التي أرادها لنفسه مرت على خير. ومن هنا كان عنوان الفيلم الذي يبدأ بمكالمة تليفونية وينتهي بأخرى. الأولى تفهم من خلالها مارسو- الابنة الكاتبة- أن والدها قد نُقل إلى المستشفى إثر جلطة دماغية، والثانية تتلقاها من مندوبة الجمعية السويسرية التي تساعد من يرغب “على الموت بكرامة” إذا ما استدعت حالته الطبية ذلك، وما بينهما تمر عدة أشهر مليئة بالمشاعر والتناقضات والعلاقات المربكة أحيانًا. ينتظر خلال هذه المدة السيد برنيم (الممثل السبعيني القدير أندريه دوسولييه) مساعدة ابنته، لأنه لا يريد أن يحيا قعيدًا وبائسًا، بل يفضل أن يذهب في هدوء. والهدوء هو سمت الفيلم بصورة عامة. مشاعر ناعمة وعميقة تنقلها الكاميرا دون استعراض. يبرع الأب في تجسيد دور البطل المضاد الذي لا يأبه بكون القوانين الفرنسية لا تعطي الأفراد الحق في إنهاء حياتهم على هذا النحو، بل تسمح فقط بالموت الطبيعي في الحالات المتأخرة من مرض عضال، يترك ابنته إذن كي تتدبر أمرها كيفما اتفق، حتى لو تعرضت للمساءلة، المهم أن تُنفذ ما يريد، فهو كما تصفه “لا يمكن أن يُرفض له طلب”.

طبيعة الأب النرجسية هي على الأغلب ما يحركه، فهو يرفض أن يرى نفسه على هذه الصورة، وهو الذي كان دومًا البورجوازي الأنيق الذي يهوى اقتناء لوحات الفن التشكيلي ويتردد على المعارض والمزادات، يكرر “لم أعد أنا”، ومن ثَم “ساعديني أن أضع حدًّا لهذا التدهور”. حتى وهو على فراش المرض ولا يقوى على الحركة فقد ظل الأب المشاكس، الطريف، المراوغ، الأناني، النزق، الذي يطالب بحقه في الموت لكنه يعشق الحياة ويتصرف أحيانًا بخبث الأطفال. يؤدي تمرينات العلاج الطبيعي المرهقة ويحقق تحسنًا ملحوظًا، فيعطينا انطباعًا أنه قد يغير رأيه، ثم فجأة يصر على إنهاء أجله في أقرب فرصة. يفاصل مع ابنتيه من أجل تسريع مهمتهما، بعد أن اتفقوا أن ترافقاه إلى برن بسويسرا حتى يتناول الدواء الذي سيعجل بالنهاية، يوقع كل الأوراق والإقرارات التي طلبتها الجمعية السويسرية المتخصصة في سرية تامة، لكنه يسرب الخبر إلى بعض أفراد العائلة وإلى صديقه السابق لكي يعطل التنفيذ.. في خضم الأحداث نكتشف أنه مِثلي، وأن الشخص الذي كان يتردد عليه للزيارة من وقت إلى آخر، ما هو إلا عشيقه، تعرف البنتان بوجوده وكذلك زوجته النحاتة الشهيرة المصابة بمرض الباركنسون، لكن الموضوع يمر مرور الكرام، وذلك كعادة المخرج في أفلامه حين يأتي الحديث عن المثلية الجنسية وتعاطي المخدرات. بالنسبة له هي أمور مثل غيرها، مجرد تفصيلة، وغالبًا لا يطيل الوقوف عندها.

فرانسوا أوزون في افتتاح عرض فيلمه الأخير بمهرجان كان، بصحبة صوفي مارسو وأندريه دوسولييه

فرانسوا أوزون، 53 سنة، يتكلم كثيرًا عن الموت والحداد، يتناولهما في كثير من أعماله العشرين، وبخاصة تلك المأخوذة عن نصوص أدبية، دون أن يتخذ منحى تراجيديًّا كئيبًّا، فالفيلم تختلط فيه الدموع بالابتسامات والضحكات. صاحبة النص الأصلي المؤلفة، إيمانويل برنيم، هي صديقة مقربة للمخرج؛ إذ شاركته كتابة أربعة من أهم أفلامه، إلا أنها ماتت بالسرطان عام 2017، قبل أن تنهي مشروعهما. وكانت قد استلهمت قصة كتابها، الذي صدر تحت العنوان نفسه عام 2013 لدى دار نشر جاليمار، من تجربتها الذاتية مع والدها في أيامه وأسابيعه الأخيرة.

بطبيعة الحال يحاول العجوز أن يؤجل الموت قليلاً حتى يحضر الحفل الموسيقي الذي سيعزف فيه حفيده الأثير على آلة الأبوا، وهو كذلك يستمتع بالسهرة كما يستمتع بالأكل حين يذهب بصحبة ابنته وزوجها إلى مطعمه المفضل، يأكل بشهية وشراهة، يمازح النادل الذي يعرف ما يحب ويقدم له ما لذ وطاب، كل هذا الحب للحياة ويصر على الرحيل!

يسأل ابنته حين يكتشف أن المساعدة على الانتحار مكلفة للغاية “وماذا يفعل الفقراء؟”، فترد بتلقائية: “ينتظرون الموت!”، أما هو فلا يقوى على الانتظار والذبول والموت البطيء. يأخذ البُعد المطلوب من الواقع، مثلما يفعل المخرج الذي نجح من خلال أفلام سابقة في تناول اللحظات والشهور الأخيرة من حياة أبطاله، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر شريطه “ما تبقى من الوقت” (Le temps qui reste, 2005). 

مراقبة كل أطراف الحكاية عندما يكون المتبقي من الوقت ليس بالكثير يثير شغفه وحب استطلاع العديد من المبدعين، فهي لحظات درامية عالية، تمتحن قدرتنا على الاستمرار والتكيف، وتطرح العديد من التساؤلات حول الحق في تعجيل النهاية حين يكون التأجيل معناه المزيد من تعذيب الجسد وهلهلة الروح. 

الديانات السماوية الثلاث ترفض الموت الرحيم ومساعدة المرضى على الانتحار ودعمهم للعلاجات المخففة، ومن ثَم الأمر ليس مطروحًا في مجتمعاتنا، لكن ذلك لم يمنع كاتبًا مرموقًا مثل الدكتور محمد المخزنجي أن يتطرق للموضوع مؤخرًا في إحدى قصصه القصيرة “حلاق سيبيريا”، من مجموعته الأخيرة “رق الحبيب” دار الشروق، 2021، إذ طرح علاقة ابن- طبيب أورام- بوالده المصاب بالسرطان. يقول المريض إنه يفضل “رقصة استسلام الخلية الطيبة عند الوداع”، ويوصي بشيء واحد “علاجات تلطيفية حتى النهاية، أدوية حزمة الراحة حتى الراحة النهائية (..) هذا التلطيف الطبي مختلف تمامًا عما يسمونه القتل الرحيم الذي هو في حقيقته نوع من الانتحار أرفضه دينيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا، وما أوصيك به وأرجوه منك (…) هو الحق في الموت الطبيعي”. تختلف التسميات والمصطلحات ما بين موت رحيم ومساعدة على الانتحار، وعلاجات مخففة أو تلطيفية، وتبقى شجاعة الأفول واحدة والرغبة في الرحيل حين لا يقوى الشخص على تحمل الألم، فدور الطب ليس محاربة الموت، بل تحسين شروط الحياة، والموت جزء من الحياة.