مهرجان الجونة: الخلطة المدهشة للشاشة والبشر والشاطئ

هاني مصطفى

لماذا نحب الشواطيء؟

 الأفق على اتساعه قد يكون سببًا رئيسيًّا يسهم في انسياب شعور داخلي بالحرية لدى أغلب البشر.. إنه الانطلاق الذي يصاحب قشعريرة تلامس القدم العارية مع التحام الأرض الرملية بالمياه المالحة، أو هو البراح عندما تفقد القدرة على التمييز بين المياه الزرقاء في المدى البعيد وبداية السماء. متعة ذوبان ما هو صلب بما هو سائل، وما هو سائل بما هو غازي. تماس كل أشكال المادة أمام إنسان يبدو عملاقًا ومُسيطرًا، وفي الحقيقة هو شديد الضآلة. قد يصدمك شعور التقزم، لكنه كثيرًا ما يزيح عن كاهلك ثقلاً كبيرًا لا يمكن تحمله!

 أو قد ينبع هذا الشعور من ذاكرة داخلية لدى الإنسان تعيده إلى ذاك الزمن السحيق؛ عندما كانت المياه تغطي كل الأرض قبل ملايين السنين، وقت أن كانت كل الكائنات تسبح وتأكل وتتنفس في المياه. وأن اقترابه من تلك المنطقة المماسية الساحلية هو حنين إلى تلك الأزمنة في التاريخ الطبيعي.

البحر الأحمر لم يكن ملجئي عندما كنت صغيرًا. ربما لأن عائلتي سكندرية. لكنني لم أتساءل وقت طفولتي لماذا عليَّ أن أختار بين شاطئ وآخر. لماذا يكون الاختيار الثاني شيئًا مرفوضًا. إنها الفكرة الطفولية التي تجعلك ربما تشجع فريقًا لكرة القدم كالأهلي وتحرِّم عليك أن تشجع فريقًا آخر، ماذا لو أنني أحب الأهلي، وأحب أن أشاهد الزمالك أيضًا! ماذا لو أنني كنت أحب رقص سهير زكى وأيضًا أشاهد نجوى فؤاد. ماذا لو أنني أسمع فريد الأطرش وأحب عبد الحليم حافظ. لكن سرعان ما تبددت حالة الانتماء الرومانسية التافهة. في بداية المراهقة اكتشفت أنني أحب كل أشكال البحار والمدن الساحلية؛ تلك التي بُنيت على مدار قرون، وأصبحت مبانيها تحمل رائحة من سكنوها، أو تلك التي بُنيت منذ سنوات قليلة، ولا تزال بها رائحة الطلاء. وربما في سنوات تالية أحببت كل أشكال التقاء الأرض بتلك المساحة الزرقاء الممتدة بغض النظر عن قدمها أو حداثتها.

مدينة مصنوعة ورائعة

مدينة الجونة الساحلية مدينة “مصنوعة”؛ أنشأها رجل الأعمال المصري سميح ساويرس في بداية التسعينيات، وربما كان الهدف من إنشائها أن تصبح ملاذًا لأبناء الشرائح العليا من المجتمع المصري. حيث يخرجون من اختناق العاصمة وسخفها وغلظتها. بعدها عن القاهرة وانغلاقها على ذاتها من خلال سور ضخم وبوابات وحراسة هو الذي يجعلها تبتعد عن مزاج الطبقات الأقل في التراتبية في المجتمع المصري.

ربما تحمل كلمة مصنوعة معنى سلبيًّا، والحقيقة أيًّا كان المعنى فقد خلقت الجونة لنفسها مساحة خاصة داخل كل من يزورها. تُشعرك المدينة في المرات الأولى التي تزورها فيها أنك تنتمي إلى الطبقات العليا في المجتمع، وخصوصًا عندما تمشى على المارينا، حيث تتحرك بين كل تلك اليخوت التي تتجاوز قيمتها مجمعة مئات الملايين من الدولارات. تُشعرك الجونة وكأنك تمتلك أحدها. ولعل تلك الصفة الزائفة هي ما تعطى للمدينة قيمة خاصة تغدق بها على طالبيها. أليس منطق إنشاء الفنادق يستند إلى الفكرة ذاتها، إذ تدلل إدارة والعاملين في أي فندق أي نزيل باعتباره واحدًا من أبناء الطبقات العليا. كم التدليل فقط هو الفارق بين نجوم الفنادق.

استطاعت الجونة أن تخلق لنفسها جمهورًا من المحبين طيلة عقدين من الزمان أو يزيد. لكن الحقيقة أن هذا العدد تضاعف بشكل كبير بعد أن أقيم مهرجان الجونة السينمائي في دورته الأولى عام ٢٠١٧، ليصبح حدثًا سنويًّا يستقطعه عدد كبير من محبي المدينة للاستمتاع بشيئين في آن واحد، الطبيعة من شمس وبحر، وكثير من الأفلام المهمة العالمية التي لا تعرض بسهولة في دور العرض في القاهرة. ومثل كل عام استطاعت إدارة المهرجان (على رأسها مدير المهرجان انتشال التميمي، والمدير الفني أمير رمسيس، ومديرة العمليات الممثلة بشرى) أن تستقطب عددًا من الأفلام المهمة، التي قد تُعرض لأول مرة على الشاشة، أو تلك التي عرضت مسبقًا في المسابقات الرسمية لمهرجانات الصف الأول في العالم مثل مهرجان فينيسيا وبرلين وكان وصن دانس وسان سباستيان.

من حفل افتتاح الدورة الرابعة

فئتان داخل مهرجان واحد

ينقسم جمهور مهرجانات السينما في العالم إلى فئتين تنفصلان أحيانًا، وتتقاطعان في أحيان أخرى. الأولى تلك التي ترى أن المهرجان هو حفلات افتتاح وختام وما بينهما. بينما الثانية ترى أن المهرجان برنامج وأقسام تعرض فيه أهم الأفلام العالمية وندوات تناقش القضايا المستجدة التي تخص الصناعة. أحيانًا تلتقي الطبقتان في حفلة أو في عرض سينمائي، لكن ليس طول الوقت. لا تستطيع أي إدارة مهرجان أن تُغفل أيًّا من ضيوف هاتين الفئتين.

متعة الاحتفالات داخل المهرجانات وبالأخص السجادة الحمراء صنعت خصيصًا لتخلق جوًّا من الانبهار والنميمة وأحيانًا التذمر. هذا الجدل حول الشكل هو في أساسه هدف من أهداف السجادة الحمراء، ولعله هو الذي يخلق هالة ضوئية على المهرجان نفسه. المهرجان ليس ندوة ثقافية. هو في حد ذاته مجموعة من الأفلام والأنشطة تسهم في إمتاع الجمهور وتطوير رؤيته عن الفن السابع، وأيضًا تُسهم في تقديم العون لصناع هذا الفن. السجادة الحمراء والأزياء اللافتة وهذا البريق المبهر جزء لا يتجزأ من روعة صناعة المهرجانات، إنها أحد روافد الدعاية للمهرجان لجذب المعلنين والداعمين. وكما لرواد المهرجان منتهى الحرية في ارتداء الملابس التي تحلو لهم، فمن باب الحرية أيضًا أن ينتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي ما يرونه من تألق أو ابتذال داخل أروقة المهرجان. كثير منهم حقًّا لا يعرفون شيئًا عن نشاطات المهرجان وقيمته الفنية، فقط هم يرون القليل جدًا من صورته الدعائية المتمثلة في السجادة الحمراء.

لكن ما يميِّز مهرجان الجونة عن غيره من المهرجانات هو أنه يقام في مدينة في الأساس هي مصنوعة بهدف السياحة الشاطئية. لذلك فإنه من المدهش والرائع أن تجد بشكل يومي ثابت طول وقت المهرجان بعضًا من رواد المدينة وهم يبتاعون تذاكر العروض مرتدين ملابسهم الشاطئية. تساءل أحد زملائي مندهشًا أو متذمرًا حول سيدة ترتدي زي البحر وتذهب لمشاهدة فيلم. قلت له: إنها موجودة في بيئتها، لكنك أنت الغريب عن هذه البيئة. لعل صمته كان أبلغ رد!

من فيلم مصارع الثيران الرقيق My Tender Matador للمخرج رودريجو سبولفيدا

من فيلم الإفتتاح الرجل الذي باع ظهره-إخراج: كوثر بن هنية

السياسة تخلق قصصها الحزينة

وكما يخلق المهرجان جدلاً وانتقادات لدى من لم يروا منه سوى أزياء براقة وملابس لافتة، فإن الأفلام التي يعرضها المهرجان أيضًا خلقت جدلاً كبيرًا بين روادها.. وهذا طبيعي.

وبشكل مبدئي يختلف النقاد والحضور على فيلم الافتتاح، إذ عادةً ما تكون قيمة فيلم الافتتاح خاصة بالنسبة للمهرجان والجمهور؛ مثل أن يكون الفيلم ضخم الإنتاج، أو لمخرج مخضرم أو واعد. هذا العام كان فيلم كوثر بن هنية “الرجل الذي باع ظهره” أو بترجمته الحرفية The Man who Sold His Skin “الرجل الذي باع جلده”. لعل اختلاف الترجمتين يستند إلى الدلالة في الثقافة العربية؛ فالظهر له دلالة قوية للغاية. إنه صُلب الرجل وكيانه. استندت صانعة الفيلم على قصة حب رومانسية بين شاب يُدعى سام على وفتاة تدعى عبير. صيغة تقليدية من صيغ الدراما العربية، الفتى الفقير وحبيبته التي لا تستطيع أن تتزوجه فتتزوج شخص أغنى منه يعمل دبلوماسي في سفارة سوريا في بلجيكا. ربما بداية الفيلم ظهرت مفتعلة في مشهد عام ٢٠١١، عندما أعلن الفتى لحبيبته عن حبه على الملأ، وحين أقرن الحب في جملة واحدة مع الثورة الناشئة، وقُبض عليه في اليوم التالي، وعُذِّب من قبل الشرطة السرية، لتصبح أزمته ليست فقد حبيبته بل أيضًا فقدان آدميته.

حبكة الفيلم مبنية على صيغة أقرب إلى الأسطورة الألمانية فاوست التي تناولها العديد من الروائيين والشعراء على مر الأجيال، أشهرهم جوته، وهي العهد الذي يقوم به البطل مع الشيطان بعد أن تشتد أزمته. غير أن الشيطان في هذه الحالة هو فنان تشكيلي بلجيكي غريب الأطوار أراد أن يرسم لوحته الجديدة على ظهر البطل، وتكون تلك اللوحة وشمًا على شكل تأشيرة الشنجن. بشكل مباشر يحيل السيناريو إلى قضية اللاجئين السوريين إلى أوروبا من خلال هذا الرمز التشكيلي. لتتحول الدراما هنا إلى من يمتلك ماذا. هل يمتلك الفنان لوحته أم يمتلك البطل جسده؟ إنها الصيغة نفسها التي طرحها شكسبير سابقًا في تاجر البندقية؛ شايلوك التاجر اليهودي يمتلك رطلاً من اللحم من جسد أنطوني لكنه لا يمتلك دمه.

يفتقد الفيلم إلى الكثير من التلقائية والبراءة التي تميز بها فيلم بن هنية التسجيلي “زينب تكره الثلج”. الذي أخرجته بن هنية عام ٢٠١٦ وهو الفيلم الذي يرصد حياة طفلة صغيرة من تونس تهاجر مع أمها وشقيقها إلى كندا. رصدت هنية تلك الفتاة لأكثر من خمسة أعوام، إذ تنتقل من الطفولة إلى المراهقة، وأيضًا ليس متطورًا من الناحية الإخراجية مثل فيلمه الروائي الأول “على كف عفريت” الذي أخرجته في عام ٢٠١٧، ويتناول عنف الشرطة في تونس تجاه طالبة جامعية من خلال ١٠ مقاطع مصورة في ١٠ لقطات طويلة. وعلى الرغم من المشكلات التي شابت فيلم الافتتاح فإنه لاقى نجاحًا كبيرًا بين الكثير من الحاضرين، فقد حصل على جائزة أفضل فيلم عربي في المهرجان، تضاف إلى الجوائز التي حصدها في قسم آفاق HOrizzonti بمهرجان فينيسيا السينمائي في سبتمبر، ومنها جائزة أفضل ممثل (يحيى مهايني).

من فيلم مصارع الثيران الرقيق للمخرج رودريجو سبولفيدا

كثيرة هذا العام الأفلام المتميزة التي خلقت جدلاً واسعًا؛ ولعل أهمها فيلم مصارع الثيران الرقيق My Tender Matador للمخرج رودريجو سبولفيدا. اكتشفت بسبب هذا الفيلم أن هناك تفاصيل لا يتقبلها الجميع على الرغم من رقتها. كأن يكون بطل الفيلم مثليًّا أو عابرًا للجنس Transvestite.
يخلق السيناريو تعاطفًا كبيرًا مع أزمة هذا البطل. الفيلم يحدث في منتصف الثمانينيات، ويتناول رجل يدعى لوكا يعمل في الدعارة بأحد شوارع تشيلي وقت حكم الديكتاتور بينوشيه. السيناريو يبنى شخصية لوكا بشكل مُركَّب؛ فهو شخص مهمَّش يعاني الوحدة، ويسكن في شارع ضيق من حواري العاصمة سانتياجو الشعبية في بيت آيل للسقوط مثبت بدعامات خشبية من الخارج، ويعيش حياته كما لو أنه سيدة؛ يقف ليلاً عند قاعة سينما تعرض أفلامًا إباحية منتظرًا زبائنه، وفي الصباح يطرِّز الملابس أو المفارش. التحول في تلك الشخصية يحدث عندما يتعرَّف إلى مجموعة من المسلحين الماركسيين، ومن بينهم كارلوس مكسيكي الأصل الذي هرب من المكسيك إلى كوبا، ثم سافر إلى تشيلي. كارلوس يقترب من لوكا بشكل مشاعري كبير لكن السيناريو يرصد دوافع كارلوس من تلك الصداقة. إنه يستغله في البداية لإخفاء أسلحة، ثم لاحقًا لمحاولة اغتيال رجل مهم في الدولة. يعلمنا الفيلم لاحقًا أنها كانت محاولة اغتيال بينوشيه ذاته.. لا شك أن شخصية لوكا ليس لها علاقة بالسياسة على الإطلاق لكن الخط الدرامي الجانبي في السيناريو وُضع بهدف رصد التحول في تلك الشخصية الخاص. وهو أن هناك سيدة زوجة أحد كبار قادة الجيش أرادت أن تقوم بعمل شيء لزوجها بأن تهديه مفرشًا مطرزًا عليه شعار الدولة (رمز نظام بينوشيه بالنسبة للكثيرين) يوافق لوكا في البداية، لكنه لا يستطيع أن ينفذ الشعار على المفرش. لقد تغيَّر لوكا من كونه مهمشًا لأنه متعاطفٌ مع الثورة، بل ويذهب مرتديًا ملابسه النسوية، ومشاركًا في تظاهرات ضد بينوشيه. لا شك أن الفيلم يحمل في بنائه العديد من المعاني الإنسانية العميقة، لكن بعضًا من أصحاب الآراء المحافظة لم يتقبلوا فكرة أن يكون البطل مثليًّا، لماذا يرفض شخص قيمًا إنسانية رفيعة، حتى لو عن علاقة صداقة وربما حب بائسة بين رجلين تقف محاولة محاربة السلطوية والعنصرية على الرغم من روعة أداء الممثل ألفريدو كاسترو؟ عُرض الفيلم في الاختيار الرسمي خارج المسابقة لمهرجان الجونة، وذلك بعد عرضه الأول في قسم أيام فينيسيا في مهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام.

ربما يعرف الكثير من الجمهور كيف استولى بينوشيه على الحكم بانقلاب دموي على الديموقراطية، قتل فيه الآلاف، ومنهم رئيس الجمهورية سلفادور الليندي، الذي قيل إنه انتحر في أثناء اقتحام قصر الرئاسة من الانقلابيين ببندقية كلاشينكوف أهداها إليه فيديل كاسترو رئيس كوبا.

الأفلام التي تناولت الوضع الاجتماعي والسياسي في تشيلي كثيرة؛ سواء تلك التي رصدت صعود الاشتراكية وانتقالها إلى سدة الحكم عن طريق الانتخاب مثلما حدث في فيلم بيت الأرواح للمخرج بيل أوجست، والمأخوذ عن رواية شهيرة بالاسم نفسه للكاتبة التشيلية إيزابيلا الليندي. أو منها من رصد فترة حكم جنرال بينوشيه بعد الانقلاب على الديموقراطية في عام ١٩٧٣. واحد من أهم تلك الأفلام التي تناولت ما حدث في تشيلي في تلك الفترة ولكن بشكل غير مباشر، الفيلم التسجيلي نوستالجيا للضوء للمخرج والكاتب باتريسيو جوزمان. وتأتي قوة هذا الفيلم من أنه يدور حول البحث في صحراء داخل تشيلي بين بعض علماء الفضاء وهم يدرسون من خلال المراصد في تلك الصحراء الواسعة عن النجوم والكون، والسيدات اللائي يبحثن عن بقايا عظام أحبائهم وأقاربهم الذين قتلهم الانقلابيون وجنود بينوشيه.

بعض من الأفلام تعتمد على مضمونها السياسي، لكن السينما ليست سياسة فقط؛ بل صيغة متكاملة تخلط كل شيء: السياسة بالبشر وبجماليات الصورة وبعمق وتفاصيل الصوت. السينما عرضٌ لحكاية خاصة، يستخدم الحكَّاء فيها مُركبًا شديد التعقيد من الأدوات والتقنيات والصيغ، ليدخلنا في عالم ساحر وخيالي مهما كانت واقعيته قاسية.