جويس منصور والقاهرة: الحياة المبكرة للسيدة الغريبة

محسن البلاسي

أنت لا تعرف وجهي الليلي

عيناي مثل الخيول المهووسة بالفضاء

فمي مبهرج بدم غير معروف

جلدي 

أصابعي لافتة الإعلانات لؤلؤية بالبهجة 

سوف توجه رموشك نحو أذني

نحو شفرات  كتفاي 

نحو أرض جسدي المفتوحة

خطوات ضلوعي  تتقلص في التفكير 

أن صوتك يمكن أن يملأ حلقي

أن تبتسم عيناك

أنت لا تعرف شحوب كتفاي  

الليل

حين  تشعل  الهلاوس  الكوابيس

تحتج على الصمت

وتعانق  جدران الواقع الناعمة  نفسها

أنت لا تعرف أن عطور أيامي

تموت على لساني

حين يأتي الأشرار بسكاكين عائمة

حين يبقى حبي المتكبر وحده

حين أغوص في وحل الليل

چويس منصور

عمل فني لچويس منصور بعنوان: كائن شرير ‎‎_

الكلمات تنزلق تحت قلمها مثل الثعابين تحت أصابع السحرة: كل سطر ينضح بقطرة من السم

في خضم كل استفزازاتها ، ينسج الثلج الأبيض لطفولتها المصرية والإنجليزية حجابًا من النقاء ، يتجول به في أراضي البشر

لكن أحلامك لا يجب أن توضع في الساحات العامة 

لا تخبرون  أحلامكم أبدًا لمن لا يحبونكم 

جويس منصور

عليكم أن تحبونها  حتى تدخلون في نيرانها

لذلك دعونا نحبها

جابرييل رولين

ادخلوا معنا كهوف جويس منصور

قبل أمسية شعر سريالي : چويس منصور ونانو فالوريتي وتيد چونس ، باريس 1975 بعدسة : ماريون كالتر

 لأنني أصر وأعلم بأن كهوف سيرة چويس منصور لا تزال مخفية بين ثنايا شعرها الأسود النفاث، بالتأرجح والركض، نائمة بين خنثوية الرغبة في إعادة الميلاد والفناء والألم والموت والمصادفة الموضوعية والفكاهة الدموية. حتى الموت ضعيف أمام خلود هذه الرغبة المشبعة بانزلاق الحواس إلى ما هو خارج كل رقابة ذاتية أو جماعية واعية.. نسيج عنكبوتها الأسود يعاود الميلاد داخل كل صندوق أسود لحياتنا الجنسية اللاواعية. سأنبش في وجار المخفي، وستنتظرنا دائما آكلة اللحوم اللغوية بالعديد من القصص المؤذية والحارقة لخصيان الخيال الفقير.. كتبت أنهارًا من القصائد قليل منها معروف لنا عربيًّا والآخر متناثر في أركان الأرض ينتظر التنقيب؛ 16 مجموعة شعرية وقصائد متفرقة ومفقودة، ومسرحيات، وقصص قصيرة وحكايات لم تُرو بعد.. قدمنا قرابين الرغبة لورثة الإطاحة بالأصنام التي تسمى الآلهة كي ننفذ إلى عالمها السري. وارتدينا جواهر الشهوة العنيفة كي نصل إلى أول الخطوط لسطوعها في القاهرة ورحيلها إلى باريس حيث الحكايات الخفية.. ارقصوا معنا ستحملكم رياح المتعة السرية لنطارد الأحلام التي لا يذكرها مجتمعنا الصنمي، عن چويس والذئاب التي أحاطتها وتوجتها ملكة للرغبة.
عن حورس شنودة وماري كاڤاديا، ولاحقًا عن تيد چونس وهنري ميشو وچان بونوا. سنبدأ من القاهرة.. ولاحقًا في ملف آخر سنصفعكم بسيل من حكايات باريس التي لم تُحكَ بعد بمساعدة ساكني وجار السوريالية الحية والقريبين من دوائر چويس. عبر نصوص مفقودة حصلنا عليها سنسير معها على أشواك التمزق بين القاهرة وباريس حتى ابتلعها السرطان في باريس في 27 أغسطس عام 1986.
قبل أن نبدأ الرحلة يجب أن نحفر في بعض الأمور؛ كان السبب الرئيسي في وجود أعمال متناثرة وغير مكتشفة من أعمال چويس أنها بعد موت أندريه بريتون في عام 1966 تعرضت لحملة ممنهجة من النقاد المحافظين حول العالم لتجاهل منجزها الشعري الفريد، كما تعرضت للنبذ بالطبع من قبل المؤسسات الرسمية الأدبية، سواء في فرنسا أو في الولايات المتحدة والطبع في مصر. وأيضًا تجاهلت الحركات النسوية چويس لأنها لم تتقرب منهم يومًا، ويقال إنه حين طلب منها الكتابة في مجلة نسوية كان ردها “لا أعرف ما الذي تتحدث عنه”! وكانت ترجمة قصائدها دائمًا تحتاج إلى إعادة اكتساب عملية الخلق الأصلية من أجل فهم العالم الباطني لچويس منصور.
هيا نكتشف المخفي من حياة چويس في أنفاق المجتمع السوريالي الدولي لاكتشاف لغة أجسادكم الخام، الحيوانية المليئة بالعرق والدم والمني وعصارات الأوجه الخفية لايروس وساد ورعب الانسكاب في الشيخوخة الجسدية وافرازاتها لنستحضر الجانب القوطي والسحري لچويس هذه فقط بداية الرحلة، والطبع قبل بدء هذه الرحلة يجب توجيه الشكر، لمن ساعد في كشف الجوانب المخفية من سيرة چويس. كل الشكر لماري فرانسين منصور، والبروفيسور فيليب داجين، والصديق العزيز مارك كوبر والسوريالي العظيم البروفيسور بيير باتيو الذي لم يبخل بأي مجهود لمساعدتي على الحفر في دروب حياة چويس في أوساط السورياليين في مرحلتها الباريسية، والتي سننشرها لاحقًا..

“ذات مرة/ كان هناك ملك اسمه ميداس/ بعشرة أصابع مذنبة/ بعشرة أصابع قادرة/ وحاملة للذهب/ يتحدث فرويد عن الملك الأسطوري العظيم يقول/ كل ما ألمسه يصبح/ قذارة/ في الهند يقال إن الجشع/ أعشاش في فتحة الشرج/ وكان لدى ميداس آذان الحمار/ فتحة الشرج الشرجية/ في “جلد الحمار” الذي يرتديه باروه/ البطل الشرجي/ الملك في حب ابنته/ القضيب البرازي/ السادي بابتسامة حلوة جدًا/ يمتلك الحمار الكائن في الحياة/ يبصق الذهب من فتحة الشرج/ والذي سيموت كدرع مضاد/ سفاح القربى/ لعبة المرايا/ الزجاج والحقيقة/ الذهب والبراز/ الخواتم والمشابك/ صورة بصرية مشوهة/ في كازينو اللاوعي/ القضيب الأبوي/ مكتب الدليل/ انظر يا ترى/ جلد الحمار/ الثروة ملك الحاضر والمستقبل/ على أكتاف الأميرة الوزن الميت/ وبالتالي يتحول الذهب الخالص إلى قذارة/ تمامًا مثل القضيب المتلألئ المبطن بالحيوانات المنوية الرمادية/ الأميرة تنتظر خلع ملابسها لخطر سفاح القربى/ الاختفاء/ القاع _ شكسبير كان الحمار وقت الحلم/ وهكذا يمر الليل وأغنيتي المتواضعة:/ الحمار/ الشرج/ التحليل/ المحلل/ التناظر”.

القاهرة

ولدت چويس منصور عام 1928، وأمضت جزءًا من شبابها في مصر قبل أن تستقر بشكل دائم في باريس عام 1956. كان والداها إيميل ونيللي أديس من اليهود السفارديم يحملون الجنسية البريطانية، وتنتمي العائلة إلى الأرستقراطية المصرية. أرادت چويس باستمرار تكثيف اللغز الذي يحيط بها، فمزجت الحديث عن حياتها الأولى في مصر بسير ذاتية كاذبة كثيرًا ما كانت تتحدث بها بفكاهة شعرية، كانت تحب أن تبث الارتباك مع الفكاهة، لتصنع أسطورتها الخاصة التي انتهت بأسطورة الشابة غريبة الأطوار، وكانت دائما تتحدث عن قرينة لها سترسلها لمن يريدون مقابلتها! مجدت الموت والصدمة الجسدية بتمزقاتها الوجودية التي تشعبت لثورة شعرية منذ رحلت والدتها وهي في الخامسة عشر من عمرها.

لم تكن چويس منصور ذلك النموذج للفتاة الأرستقراطية الغنية، عاشت في القاهرة مراهقة صغيرة ثم زوجة وشاعرة شابة، بعد ذلك لم تكن مدللة من السورياليين فقط لإعجاب أندريه بريتون بها، لكنها قبل كل ذلك أحدثت ثورة إيروتيكية وفلسفية وشعرية وسوريالية لها ملامحها الخاصة وطريقها الخاص، منذ فترة مراهقتها المبكرة التي عاشتها في مصر حيث عانت من تمزقات وجودية واجتماعية أرقت راحتها كسليلة لعائلة غنية ومستقرة.. ووفقًا حديث چيليان الأخت الصغرى لچويس منصور فإن أصول جدهم داڤيد أديس ترجع إلى جالية يهودية في حلب كانت مهددة دائمًا من السلطة في ذاك الوقت. وفي النهاية غادر سوريا وحصل على جواز سفر إنجليزي يسمح له بتأسيس بورصة للقطن في مانشستر في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، ثم استقر في القاهرة حيث أسس مصانع للغزل بالقرب من المدينة، بالإضافة لمحلات لبيع منتجاتها، ثم أقام متاجر في الإسكندرية حيث اعتاد أن يقضي أجازته، وفي عام 1897 أنجب ابنه إيميل ديفيد الذي عمل مع والده وفي عام في عام 1920، تزوج إيميل من نيللي أديس. كانت چويس تحب أن تقول إن والديها كانا أبناء عمومة على حسب چيليان.

ومنذ أن انتقل جد چويس منصور إلى القاهرة، عاشت العائلة هناك وكانوا يقضون عطلات نهاية الأسبوع والعطلات في الإسكندرية في منزل يستأجرونه على الشاطئ. وتتذكر جيليان، بين الحربين كانت أعمال العائلة في ازدهار، مكاتبهم كانت تعمل في مانشستر، وتدير الأعمال في مصر أقلية بريطانية منتمية إلى عائلة أديس، تقرب والدا چويس منصور من المجتمع الأرستقراطي في مصر، وخاصة دبلوماسي السفارة البريطانية حيث كانا يحضرون بانتظام كل فعالياتها الاجتماعية منفصلين تمامًا عن التوترات والصعوبات الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد في ذلك الوقت بالإضافة لانتمائهم إلى اليهود السفارديم. كانت العائلة إذن نموذجًا ثقافيًّا مختلطًا فبعضهم يتحدث العبرية وبعضهم يتحدث الإسبانية بالإضافة للإنجليزية. 

وُلدت چويس باتريس أديس في هذه البيئة الثرية في 25 يوليو 1928، في بودين، شيشاير بإنجلترا. وهي ثالث الأبناء. ولد أخوها الأكبر ديفيد عام 1920، وأختها الكبرى جيني عام 1923. وفي عام 1931 ولد أخوها نورمان، الذي ظل قريبًا جدًا منها طوال حياتها، ثم أختها الصغرى جيليان في عام 1937. وبعد ولادة چويس 1928، انتقل والداها إلى الإقامة في القاهرة في منزل بحي السفارات في 6 شارع عبد القادر، شارع قصر الدوبارة حاليًا. منزل واسع به العديد من الغرف، وتحيط به حديقة كبيرة ومسور بجدار عالٍ. في هذا السياق من الحياة المدللة والذهبية، كما تصفها چويس، تتلقى الفتاة تعليمًا بريطانيًّا. برفقة مربية إنجليزية. ثم تفقد والدتها في سن مبكرة، وهو ما غير مسار حياتها. وكانت تقضي معظم عطلاتها في إنجلترا.
وفي عام 1936، أرسلت إلى كلية عليا للفتيات في سويسرا، وهناك تلقت تعليمًا صارمًا إلى جانب تعليم الرقص والموسيقى. وتقول شقيقتها چيليان إن چويس أتقنت الغناء الأوبرالي، وحين كانت صغيرة غنت في بعض الحفلات في القاهرة. كانت في ذاك الوقت مثقفة، ورياضية متفوقة في سباق الركض.. لغتها الأم هي الإنجليزية، رغم أنها تقول إنها بدأت ممارسة الفرنسية قبل الإنجليزية، والتي كانت اللغة الرسمية للطبقة الثقافية الأرستقراطية، في ذلك الوقت. وفي خلال صيف عام 1942، غيرت الأحداث السياسية العالمية حياة الفتاة البالغة من العمر أربعة عشر عامًا. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، حدثت معركة العلمين بين قوات المحور بقيادة الجنرال روميل والجيش الثامن البريطاني، وبدأ تحرك الألمان نحو الإسكندرية، وكانت بعض الطوائف متخوفة مما سيفعله النظام النازي إن دخل مصر، فشجع والد چويس زوجته نيللي برفقة أطفالها چيني وچويس ونورمان وچيليان على الاستقرار في القدس بينما ابنه الأكبر ديڤيد التحق بالجيش البريطاني.
ويشهد سمير منصور؛ الزوج الثاني لچويس، أن والدها وضع بعد ذلك جزءًا من ثروته تحت تصرف الجيش البريطاني، وبعدما تراجع روميل عن المضي نحو الإسكندرية، تمكنت نيللي أديس من العودة إلى مصر مع أطفالها الأربعة الصغار. عادت چويس إلى دراستها وحياتها الرياضية والاجتماعية، ورحلاتها إلى أوروبا وأفريقيا وعاد والدها إلى غرامه بسباق الخيل، شاركت چويس حب والدها بسباقات الخيل. وشاركت في العديد من السباقات ورافقته في العديد من رحلاته إلى الصحراء، كانت ووالدها دائمي الوجود في سباق الخيل، الذي يقام في الصيف في نادي الجزيرة الرياضي، وفي الشتاء في ميدان سباق الخيل في مصر الجديدة، في عام 1944، في سن الخامسة عشرة، فقدت چويس منصور والدتها بسبب السرطان، وتصف ذلك الفقد في قصيدتها المنشورة بعد وفاتها في العدد التاسع من مجلة Unknown President:

لقد ماتت أمي ليلة أمس 

نجني من آلامك

أنت متجمدة من الرعب تحت قناعك الزجاجي

نجني من قبلاتك الأمومية

ازحفي على ركبتي

مثل الرخويات

ساعديني يا أمي

لأن عيني عالقتان في مستنقع الرغبة

نجني من ظلك الثقيل

مبيضي المليء بالطمي يختنق في يديك

الموت بطيء 

نجني من غيابك

نجني من المطر

ثم ذكرتها أيضًا في مجموعتها الشعرية الأولى:

نحن الذين ننتظر قفزتك الأخيرة 

لتمزيق إرادتك.

امرأة تقف في منظر طبيعي خالي من العيوب

الضوء القاسي على بطنها المنتفخ

امرأة غنية وحيدة بدون رذيلة أو صدر

امرأة تصرخ بازدرائها في أحلام مضطربة

سيكون السرير جحيمها

چيليان، التي كانت تبلغ من العمر سبع سنوات آنذاك تؤكد مدى تأثر چويس بوفاة والدتها، ومدى عجزها عن تقبل الأمر على الرغم من حنان والدهما المتزايد ورعايته. وبعد ذلك قرر الوالد إرسال چيني ونورمان وجيليان إلى كمبريدج في إنجلترا، لمواصلة دراستهم هناك، والاحتفاظ بچويس معه، لترعاه. تابعت دراستها في المدرسة الثانوية الإنجليزية بالقاهرة. وكانت الفتاة، دائمة الاهتمام بالرياضة، وعضوة نشطة في نادي الجزيرة الرياضي في القاهرة، وبطلة في الجري؛ إذ كانت الرياضة وسيلة لها لمواجهة ذكرياتها القاسية من خلال تجاوز نفسها جسديًّا. أكملت چويس منصور عامها الثامن عشر وهو العام الذي التقت فيه في نادي سبورتنج بالإسكندرية بزوجها الأول هنري نجار الذي يكبرها بعامين فقط، وهو من أصل إيطالي، ومن نفس الشريحة الأجنبية الأرستقراطية التي تعمل في البورصة في القاهرة. كان هنري نجار يجيد الإنجليزية والفرنسية منذ طفولته فقد ربته مربية إنجليزية أيضًا، وكان طالبًا في الليسيه الفرنسية، والفرنسية لغته الأم أكثر من الإنجليزية. وكان رياضيًّا مثل چويس منصور، فكان بطلاً للوثب العالي، ووسيمًا وثريًّا، ولديه كل الصفات اللازمة لإرضائها. ومنذ سن الثامنة عشرة، ترددت چويس منصور على المجتمع الثقافي الناطق بالفرنسية. وهنا شعرت أنها مضطرة إلى تعلم الفرنسية التي لن تتقنها تمامًا إلا بعد زيجتها الثانية ووصولها إلى فرنسا عام 1956. في ذلك الوقت، ووفقًا لشهادة صديقها، أندريه جرين، الذي كان صديقها منذ شبابها في القاهرة، بأنه لم يكن هناك شيء يمكن أن يتنبأ بأنها ستصبح شاعرة عظيمة قريبة من أندريه بريتون.. نعود إلى هنري نجار؛ تزوجت چويس من هنري نجار في مايو 1947، وسافرا لقضاء شهر العسل إلى فرنسا ثم إلى سويسرا.

وبعد أن ورث هنري وظيفة سمسار في البورصة من والده، استغل سفره الكثير في عطلاته في أعمال البورصة. لكن بعد بضعة أشهر أصيب الشاب بالسرطان. وتوفي في 7 أكتوبر 1947 عن عمر يناهز الحادية والعشرين، مما تسبب في خلل عنيف آخر في حياة چويس، التي استسلمت لآلام الحداد الجديد الذي يقترب من ألم والدتها. وتتذكره في أحد أعمالها غير المنشورة: أتذكر جنازة والدتي مناديل متبادلة مثل إشارات تفوح منها رائحة العرق، البيانو تجرد من شالها، كل تلك الأذرع البيضاء لأصدقاء السيدة المتوفية الذين حركوا الهواء في غرفة المعيشة الكبيرة، دسمة دون حجاب، ثقيلة مثل حفرة ضحلة هلال على طول المحيط الراقص. هل نبكي هكذا في الغرب؟ أعتقد أنني سمعت دموع ترن على الأرض.

لن أتراجع خلف قبعتك السوداء، سأدفن صديقي الميت مثل اليهود القدامى، وجهاً لوجه مع الزجاج

لأتأكد من رؤيته حيا هناك في الرمال القادمة.

لم تستطع چويس تحمل الألم، في سن التاسعة عشرة، كانت تقيم في منزل والدها، لكنها ترفض التحدث كثيرًا. ولا تقبل إلا بصحبة أخت زوجها، وليلي آديس، زوجة شقيقها الأكبر ديڤيد الذي يحاول التخفيف عنها دائمًا بتنظيم الحفلات.. وتروي ليلي أديس محبتها لچويس منصور التي كانت تحاول حمايتها في نوبات السير في أثناء النوم. ووفقًا لشهادة الناقد الفرنسي آلان جوفروي، حاولت چويس منصور كي جروحها بمساعدة الشعر، الأمر الذي سيصبح بالنسبة لها ضرورة حيوية ووسيلة للثورة. وتعود الإشارات إلى وفاة زوجها الأول بوضوح في مجموعتها الشعرية الأولى حيث الصور المؤلمة بشكل عنيف:

مكائد يديك العمياء

على ثديي المرتعش

الحركات البطيئة للسانك المشلول

في أذني البائسة

كل جمالي يغرق في عينيك بلا تلاميذ

الموت في بطنك الذي يأكل عقلي

كل هذا يجعلني شابة غريبة

أرفعك بين ذراعي

للمرة الأخيرة

سوف أوصلك إلى نعشك الرخيص.

أربعة رجال يحملونه بعد تسميره

على وجهك المهزوم 

على أطرافك المنكوبة.

ينزلون ويقسمون الدرج الضيق

وأنت تتحرك في عالمك الضيق

انفصل رأسك عن الحلق المقطوع

هذه بداية الخلود

وتعبر هذه الرؤى الكابوسية المسكونة عن المخلوقات الشبحية الثائرة والحزينة التي تسكن چويس منصور في مواجهة ذكرياتها وصراعاتها الوجودية، وفي المقابلة نفسها مع الصحفي جان بيير إنكيري حين سألها متى وكيف ولدت داخلها الشاعرة تقول “شعرت في البداية بالانجذاب إلى الشعر عندما كنت طفلة مريضة.. العالم الذي تتخلله الحقن والجرعات الدوائية صدمني فجأة باعتباره بغيضًا، ولجأت إلى الشعر” لذا شرحت له ما كان تصورها الشخصي عن كتاباتها الأولى: حالتا وفاة لم تكن تتخيلها، وفاة والدتها وزوجها الأول. ويطلب منها جان بيير إنكيري أن تصف حياتها اليومية، فتجيب بأنها نادرًا ما كانت تغادر المنزل طول الأسبوع: تقرأ كثيرًا، ترسم قليلاً، وتقوم ببعض أعمال البستنة، وفي عطلات نهاية الأسبوع، تذهب للتخييم على شواطئ البحر الأحمر، حيث تذهب للصيد بالرمح. كما تتجول في المواقع الأثرية وتنام في الهواء الطلق.

شيئًا فشيئًا، تتعلم چويس منصور، البالغة من العمر تسعة عشر عامًا مواجهة المآسي التي رصعت شبابها والتي ستميز عملها الشعري. وفي عام 1948، بعد عام من وفاة زوجها الأول، التقت چويس بسمير منصور في نادي اليخوت؛ وهو رجل وسيم، قضى العشرين عامًا الأولى من عمره في فرنسا حيث درس ثم انتقل إلى القاهرة لتأسيس شركة نسيج عائلية والانضمام إلى شركة تبريد كبرى.

تزوج سمير منصور وچويس منصور في 7 فبراير 1949 في القاهرة. ولقضاء شهر العسل، غادرا لمدة شهر إلى كابري، حيث نظم سمير أمسية كبيرة في مطعم حول موضوع “القراصنة والعبيد”. وكان لهذه الأمسية صدى كبيرًا، كما ذكر ماري لوري ميسير في مقابلة مسجلة في 19 يونيو 1995.

أعادت چويس منصور الشابة اكتشاف السعادة بالعيش مع سمير؛ تتناوب حياتهم بين القاهرة والإسكندرية وأوروبا حيث العطلات. عاشا في القاهرة في شقة بحديقة في الحي الجديد بجزيرة الزمالك، 1 شارع عزيز عثمان، بالقرب من نادي الجزيرة الرياضي في القاهرة، كانا يختلطان بعائلتها كثيرًا. يروي سمير منصور كم كان يحب إيميل والد چويس، وكم أعجب به أيضًا لأنه قاتل مع ابنه ديفيد لحماية قناة السويس. كما اعتاد سمير وإيميل الحديث عن كراهيتهم للجيش النازي.. بالنسبة لسمير، كان والد چويس شخصية مرحة للغاية، وحيويًّا، ورياضيًّا. وبعد أن واجها صعوبة في إنجاب طفل، أنجبا ابنهما الأول فيليب أخيرًا، في باريس، في عيادة بولون بيلانكور، في 19 فبراير 1952. ثم جاء أصغرهم، سيريل، في 14 مايو 1955، في نفس العيادة. وفقًا لسمير، كانت چويس مغرمة بشغف بأبنائها، وكان إفراط زوجته في حبها للأطفال جزءًا من سحرها. وحتى وفاة چويس، كانت سيريل تتناول الغداء معها كل يوم تقريبًا. خلال هذا الوقت السعيد، لا تزال الجروح المستعصية بسبب “الموت” باقية، وتواصل چويس الكتابة لتعالج نفسها من تلك الجروح. وخلال حياتها مع سمير منصور بدأت چويس في إتقان الفرنسية كلغة كتابة وحديث. 

صالون ماري كافاديا الأدبي ولقاء جورج حنين

ماري كافاديا (1901-1970) شاعرة وكاتبة، ولدت في رومانيا، وأمضت طفولتها في باريس، حيث بدأت الكتابة فور اكتمال دراستها، التي لفتت انتباه جولييت آدم. كانت قصائدها معقدة إلى حد ما، وفي عام 1943 ظهرت مجموعة شعرية لها تعبر فيها عن اندفاع العاطفة دائمًا في البحث عن مطلق.. تزوجت أولاً من المخرج السينمائي مارسيل لهربير، ثم سافرت إلى مصر عام 1929، وتزوجت من ممدوح رياض الذي كان سياسيًّا ووزيرًا سابقًا. وتشع روح الشرق وخلود العالم الذي يشع من قصائدها. واخترق العنصر الباطني قصائدها، وتجلى أكثر فأكثر في كتاباتها. وقد بدأت چويس منصور الانتشار والاختلاط في الصالونات الأدبية، ولا سيما صالون ماري كافاديا التي كانت صديقة حميمة لسمير منصور..

كان هناك العديد من الصالونات الأدبية في القاهرة قبل صالون ماري كافاديا، بما في ذلك صالون إيمي خير.. كان صالون ماري كاڤاديا يحظى بشعبية كبيرة في الثلاثينيات. ويروي الناقد جان جاك لوثي، في كتابه، مقابلات مع مؤلفين يتحدثون الفرنسية من مصر أن نخبة الأدباء العرب والفرنسيين توافدوا على الصالون، منهم طه حسين، وأحمد راسم، وجان موسكاتيللي.. وكانت الصالونات الأخرى في العاصمة المصرية أكثر تسييسًا. ففي صالون مي زيادة، احتشد السياسيون الناطقون بالعربية. وأيضًا كان هناك صالون Cercle Al-Diafa تحت إشراف نيللي زنانيري. لكن كان هناك ما يميز صالون ماري كافاديا، أنه كان منفتحًا على الثورة السوريالية التي أحدثها السورياليون في منتصف العشرينيات، رحب الصالون بمناقشات عن السوريالية ورحب بالكتاب والفنانين الذين يميلون إلى السوريالية.

في المقابلة التي سجلتها ماري لور ميسير في 19 يونيو 1995، استحضر سمير منصور شغف ماري كافاديا بخصوصية مصر القديمة. وفي غرفة الجلوس حيث الصالون، كان الضيوف يناقشون نظريات باطنية وخيميائية غامضة. كان منزل ماري كافاديا مفتوحًا للكتاب والرسامين والموسيقيين والراقصين والممثلين الأجانب الذين يتوافدون على القاهرة، بما في ذلك أندريه جيد ورولاند بيتي وباليه. وأشار سمير إلى أن اللغة السائدة في الصالون كانت الفرنسية. ويضيف أن ماري كافاديا غادرت مصر أيضًا خلال أحداث قناة السويس عام 1956 لتستقر في سويسرا.

فتحت ماري كافاديا، أبواب صالونها للسورياليين، بمن فيهم جورج حنين، الذي اكتشف الحركة عام 1934، وكان من أوائل المنتمين لها في مصر. كان چورچ حنين مع ماري كاڤاديا أول من أعجبوا بالقصائد التمهيدية لديوان چويس منصور الأول “كريس”.

وبالقرب من المجتمع الثقافي الناطق بالفرنسية في مصر، دفعها فضولها لاكتشاف الحركة السوريالية قبل الحرب العالمية الثانية. وعندما كانت تعيش في باريس اكتشفت بريتون وبيانه السوريالي الذي صدر عام 1924. وفي باريس أيضًا، نشرت مجموعتها، برنتيمبس. وعلى الرغم من عدم وجود قصائد سوريالية داخل تلك المجموعة الشعرية، وفقًا لمارك كوبر، فإن ماري كافاديا رددت في القاهرة الاضطرابات الشعرية والجمالية التي أحدثتها الحركة السوريالية الباريسية. وقد التقت هذه الأحاديث مع نقاشات جورج حنين، الذي أدخل السوريالية إلى مصر عام 1937. ثم أصبحت عضوًا في لجنة La Revue du Caire حيث نشرت المجموعة الشعرية 

Printemps للمرة الثانية. ثم نشرت قصائد ودراسات أخرى في نفس المجلة. ومنذ عام 1938، لعبت دورًا ديناميكيًّا في قلب الحركة السوريالية المصرية ونشرت في La Revue du Caire بيانًا يعدد الأهداف المختلفة لـلحركة السوريالية المصرية، ومنذ ذلك الحين اعتبرت أن الشعر الجديد لا يمكن إلا أن يكون سورياليًّا. 

 

مقتطف ظهر في العدد الأول من La Revue du Caire في أبريل 1938:

“الآن نرى الشعر ينقسم إلى مجموعتين مختلفتين تمامًا، من ناحية الشعر القديم، الكلاسيكي أو الغنائي أو العاطفي أو الرومانسي أو الوصفي: هوميروس، فيرجيل، بيندار، لو تاس، راسين، هوجو، بايرون، لويس، إلخ. من ناحية أخرى، وُلد الشعر السوريالي الجديد من التنويم المغناطيسي للعقل، وهو شعر “غير متبلور” (يُنظر إلى هذا اللقب على أنه نقيض “الكلاسيكي”)، ويتكون من تشبيهات رعدية أو ضعيفة. دعونا نقتبس عشوائيًّا، من أبولينير، وتزارا، وبريتون، وأراجون، وجرين، وكوكتو، وهويدوبرو.. إلخ.. عندما تفكر في مسار الشعر عبر العصور، يدرك المرء أن ازدهار السوريالية لم يأت فجأة مثل قصف الرعد، ولكن تم الإعلان عن السوريالية منذ فترة طويلة من قبل أعمال مؤلفين مثل إسخيلوس ودانتي وفيلون وشكسبير وغوته وبودلير ومالارميه، كلوديل.. إلخ”!

بعدها شاركت ماري كاڤاديا في الحركة السوريالية المصرية Art et Liberté “الفن والحرية” التي أسسها جورج حنين عام 1938، فكتبت أشعارًا وحكايات بروح سوريالية مدمجة مع ممارساتها الخيميائية. بعد ذلك نشرت حكايات سوريالية تشبه الحلم في  La Revue du Caire خلال الأربعينيات من القرن الماضي، رحبت بكتاب وفنانين من مجموعة الفن والحرية في منزلها وصالونها. 

وظهرت بعض نصوصها في مجلة دون كيشوت. التي كان يسيطر عليها السورياليون المصريون آنذاك، وكان چورچ حنين ملهم وبطل صالونها الأدبي الذي كان راعيًا لعدد كبير من الفنانين التشكيليين والشعراء الذين ينتمون بشكل أو بآخر للسوريالية. بعد ذلك أعادت ماري كاڤاديا مرة أخرى نشر مجموعتها الشعرية Printemps وقد نشرت في القاهرة عام 1944، ثم نشرت مجموعة قصصية سوريالية شكلاً وموضوعًا استخدمت العناصر المميزة للسوريالية في أبنيتها القصصية، وتحولت ماري كافاديا بعد ذلك إلى التصوف والتنجيم والعلوم الخيميائية، وبدأت تستخدم المصطلحات الفلكية الخاصة بالأبراج في قصائدها كما كان لديها اهتمام بأسرار مصر القديمة. وقد تأثرت چويس منصور من خلال لقائها الدائم بماري كاڤاديا باهتمامات ماري كاڤاديا الباطنية.. كما ترددت أيضًا چويس منصور على صالونات أدبية أخرى ناطقة بالفرنسية في القاهرة. 

 

صالون مدام قوت القلوب

كانت مدام قوت القلوب سليلة عائلة ثرية من الطبقة الأرستقراطية المحافظة في مصر. ويتذكر جان جاك لوثي أن صالونها كان مفتوحًا للكتَّاب المصريين، واجتذبت أيضًا الكتاب الفرنسيين العابرين، أو الكتَّاب الناطقين بالفرنسية، لكن يبدو أن صالون مدام قوت القلوب لم يستهو مخيلة چويس منصور الجامحة لالتزامه وتمسكه ببعض الاتجاهات الأدبية المحافظة أو التراثية أو الكلاسيكية، فعادت إلى الانتظام بكثافة في فعاليات صالون ماري كاڤاديا، في نفس التوقيت الذي بدأ فيه منير حافظ الاندماج في أوساط الصالون والمشاركة في فعالياته، كان منير حافظ فيلسوفًا وشاعرًا يحفر في أسرار الخيمياء مثله مثل ماري كاڤاديا، وكان في تلك الأيام قريبًا من چورچ حنين.. وفي هذه الفترة ظهر شاعر آخر واقترب من هذه الدائرة، وهو حورس شنودة صاحب قصيدة الأفيون: 

الأفيون

اتسعت عيناه

أمام الأحلام الوهمية

رؤى غريبة

تأخذ مكانًا

 تلو الآخر

في المدار الضخم

بعينيه الفاقعتين..

الأفق المرعب

ينسحب للخلف

أمام

النطاق المتعالي

 لعبقريته…

ثم يتقلص 

الكون كله

ويعود

في الحلقة المفرغة

التي تتحول بلا كلل

حول الأفكار

القذرة والمربكة

التي تسكن 

جمجمته الفارغة

بالنسبة إلى جان ويسبر “الرؤى التي تطرحها قصائد شنودة تجبر القارئ على التوقف والتفكير. داخلها فلسفة تقوم على رموز تشبه الحلم عزيزة على بريتون وتلاميذه” إذا كانت بعض القصائد هلوسات وفكاهات، فإن البعض الآخر يقودنا إلى عتبة ما هو باطني. وكان جورج حنين، في عام 1942، قد أشاد بشنودة كممثل للشعر السوريالي الجديد، وفقًا لمارك كوبر، فإن المؤلف نفسه يدافع عن نفسه ويصر على أنه لم يقرأ لمؤسسي السوريالية. هو في الغالب يفضل أن يوصف كتلميذ لبودلير من أن يوصف كسوريالي، لكن بعض قصائده حملت مساحة تمازجت فيها الأوهام مع عالم اللاوعي والحلم المترامي الأطراف.

يوجد كذلك سوريالي نشط ومهم نبت في الإسكندرية في ذات الزمن. وكان مقربًا من چورچ حنين قبل أن يغادر مصر أرتورو شوارتز، المولود في الإسكندرية عام 1924 لأب ألماني وأم إيطالية، كان تروتسكيًّا معروفًا في الإسكندرية، ومقربًا من صالون ماري كاڤاديا ومن الحركة السوريالية المصرية. صادق حنين واقترب منه عام 1944. اعتقل وسجن حتى خريف عام 1945، وكتب أول مجموعة شعرية له في الإسكندرية في نفس العام. ثم سُجن حتى عام 1949 حين رُحِّل نهائيا إلى إيطاليا. وهناك طور نشاطًا سورياليا مهمًا، وكتب عن مارسيل دوشامب. وعلى الرغم من صلاته بچورچ حنين، فإنه لم يذكره بين المنتظمين في صالون ماري كافاديا!

جويس منصور وأندريه بريتون‎‎

قبل أندريه بيرتون

وشهدت بداية الخمسينيات ظهور جيل جديد من الشعراء السورياليين المصريين في صالون ماري كاڤاديا يتوقون للقاء جورج حنين هناك. وهكذا ندرك عند قراءة أعمال چويس منصور، التأثيرات التي ربما تكون قد تعرضت لها في صالون ماري كافاديا. “علوم السحر كانت مألوفة لمفردات چويس منصور الشعرية، كما تتضفر مفرداتها مع عنفها الإيروتيكي حيث خط الدم والعرق والدموع ينسجم مع موضوعات الحب والموت”. وبفضل ترددها الدائم على هذا الصالون ولقائها بچورج حنين، وسفرها المتواصل إلى فرنسا قبل رحيلها النهائي إلى باريس عام 1956، حتى لو لم تكن تعرف أندريه بريتون بعد ولم تكن جزءًا من الحركة الباريسية. أو عضوة رسمية في الحركة السوريالية المصرية، شعرت چويس منصور بألفة مع السوريالية بعدما عرَّفها حنين على البيان الأول للسوريالية. مثل العديد من المثقفين الناطقين بالفرنسية في مصر، كانت چويس أيضًا مواكبة للحركات الأوروبية الطليعية الأخرى، بما في ذلك السوريالية الباريسية، لكنها لم تعتبر نفسها شاعرة سوريالية بشكل مباشر.

وفي مقابلة مجهولة المصدر ذكرت أنها لم تقابل أندريه بريتون قبل عام 1956 “قبل كتابة “يوليوس قيصر” لم أكن أعرف أندريه بريتون.. أحببت عمله كثيرًا.. لقد أرسلت له المخطوطة طالبة الإذن بإهداء الكتاب له.. وقال إنه يقبل. وهذا ما سمح لي، خلال إقامتي الحالية في باريس، بالتعرف عليه وتكوين صداقة معه”. وإذا كان بريتون قد اعتبرها على الفور فنانة سوريالية عند قراءة كتاباتها المبكرة، فإن جورج حنين من أوائل من كتبوا عن شعر وأعمال چويس منصور في صحيفة البورصة المصرية، وهي صحيفة يومية في القاهرة تصدر منذ عام 1899. وفي مقال نشر في صحيفة البورصة المصرية بتاريخ 16 يناير 1954 في قسم “الآداب والفنون” بعنوان:

“مع چويس منصور في قلب محاكم التفتيش الشعرية”: منظر طبيعي حميم يحمله هياج عميق يطل على الفكاهة، تملي علينا چويس منصور مرة أخرى هذا السؤال طويل الأمد: كيف يتشكل الشعر؟”.. ويختتم جورج حنين مقالته بتشجيع الشاعرة على الاستمرار في هذا الاتجاه. كما كانت هناك العديد من المراسلات بين چورچ حنين وچويس منصور، يعبر لها فيها عن إعجابه بأعمالها التي نشرت بعد كتاب “كريس”. 

ونقرأ في رسالة بتاريخ 26 مايو 1955 موجهة إلى چويس منصور بعد أيام قليلة من ولادة ابنها الثاني كيرلس:

القاهرة، 26 مايو 1955

عزيزتي چويس.. تحياتنا للشاب سيريل، وبراڤو كبيرة لكتاب “دموع”.. يجب أن تكتبي الآن جولة خيالية وشرسة حول العالم والتي ستغرق صديقنا هنري ميشو في حوض الغيرة.. أخبرني جيرالد عن الأهمية التي يوليها أندريه بريتون لنصوصك.. إنك تمنحين القوة لكل البربرية المثلية التي تجتاحنا والنوافذ التي نرفضها في الشارع.. أنت كاتبة حديثة من العصر السلتي، حين لم يكن الضمير مشتركًا بعد ولا كانت الروح مترددة، وحيث يمكن للمرء أن ينحني دون أن تصادفه هاوية الجنس والدم…”. يتحدث جورج حنين بالتأكيد عن جيرالد مسادي، صديقهم المشترك، المولود أيضًا في مصر والذي كان على علاقة بأندريه بريتون، كما كان صديقًا لهنري ميشو.

أما صحيفة البورصة المصرية فقد لعبت دورًا مهمًا في تكوين المثقفين المصريين الناطقين بالفرنسية لأكثر من ستين سنة. لكنها لم تكن الصحيفة الوحيدة الناطقة بالفرنسية التي أسهمت في تطوير اللغة الفرنسية والوسط الثقافي المصري الناطق بالفرنسية والمتمركز بشكل خاص في القاهرة والإسكندرية؛ فمنذ عشرينيات القرن الماضي، أتاحت عولمة المعلومات نشر الأعمال الأدبية بسرعة أكبر من مختلف البلدان الأوروبية، بما في ذلك فرنسا. وازدهرت الصحافة الناطقة بالفرنسية في مصر. بعد صحيفة La Réforme في الإسكندرية عام 1894، وتبعتها صحف يومية أخرى مثل La Liberté التي صدرت عام 1921، أيضًا مجلة L’Information التي صدرت عام 1925، بالإضافة لمجلة المنارة المصرية Le Phare Egyptien التي صدرت عام 1925، ثم بدأت النشرات الثقافية مثل: L’Egypte Nouvelle عام 1922، بالإضافة لصحيفة L’Égyptienne,، عام 1924، وظهور La Semaine Egyptienne, عام 1926.. 

وأفاد جان جاك لوثي أن الأزمات التي أعقبت تأميم قناة السويس عام 1956 وجهت ضربة قاتلة للصحافة الناطقة بالفرنسية في مصر، لا سيما بسبب هروب النخبة الناطقة بالفرنسية؛ بما في ذلك چويس منصور وعائلتها، وينهي جاك للوثي تأملاته في الصحافة الناطقة بالفرنسية في مصر بالتأكيد على أنها كانت ذات تأثير كبير في تطوير الأدب المصري الناطق بالفرنسية منذ القرن التاسع عشر “قبل أن يكون عدد السكان الناطقين بالفرنسية كبيرًا بما يكفي لدعم حركة أدبية منظمة، احتفظت الصحف دائمًا ببعض الأعمدة للأدب وخاصة الشعر، مما سمح للعديد من الهواة بالتعبير عن أنفسهم وبالتالي الاستعداد لإصدار مؤلفات أصلية على ضفاف النيل”. 

لكن متى وكيف وصل الشعر الفرنسي إلى مصر؟ ولماذا، في بلد غني جدًا بتقاليد الأجداد الغارقة في الأساطير كيف استطاع الشعر الفرنسي أن يجد مكانه؟ كيف وجد مؤلفون مثل لامارتان وفيكتور هوجو وألفريد دي موسيه مارسوا تأثيرهم بالفعل على القارئ المصري العادي في بداية القرن العشرين. نجد أيضًا أنه في نفس الوقت الذي ازدهر فيه شعر فيرلين ورامبو في أوروبا، شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهور أولى أعمال الشعراء التعبيريين المحليين في مصر، وتضفي مصادر التأثير المختلفة على هذه على الحركة الشعرية المصرية أصالتها الخاصة، التي تمثل مزيج من الشرق والغرب، الأمر الذي أغوى السورياليين. بالطبع ولا يزال يغويهم حتى الآن!

في نهاية الثلاثينيات تعمقت چويس منصور في علوم السحر وطقوسه والكابالا لتوظف هذه المعرفة في تطوير فلسفة شعرية لها خصوصيتها، وفي مقال جورج حنين عنها يحاول فهم شعر چويس منصور الذي كان في بداياته آنذاك 

“الشعر لا ينفصل عما يجب أن نطلق عليه الرؤيا النشطة. الرؤيا، التي تتجاوز درس العين الجماعية، هو فعل فريد من التملك. بالنسبة للشاعر، بالنسبة للفنان، الرؤية هي سرقة هدوء الآخرين”..

 بالنسبة لحنين، يرتبط الشعر بالعملية العكسية، التي تتكون من إلقاء صورة مدهشة في واقع جمّدته العادة. أي تنظير للواقع يؤدي إلى الإفلاس. وبالطريقة السوريالية، يرى أن العالم لعبة علاقات تعسفية، وهو بهذا جهنمي ورائع، وبإعطاء مفهومه الشخصي عن الشعر، والذي يبدو أن چويس منصور تطابقت معه تمامًا في منتصف الخمسينيات، ينصح الشعراء التقليديون الذين يتصورون الشعر بطريقة محدودة الخيال بالابتعاد عن چويس منصور التي تخرج عن أي قاعدة أدبية. ويرى في كتاباتها جانبًا قاسيًا ومؤثرًا “يقود إلى أوضاع استبدادية باطنية عاشتها الشاعرة. 

 

الموت والجنس عند چويس منصور

الإثارة الجنسية والموت يخلقان رفقاء غريبين في الحياة وكذلك في الفنون والآداب. وقد افترض چورچ باتاي كذلك وجود ثلاثة مستويات مختلفة من الإثارة الجنسية: الجسدية (شهوانية الجسد)، والعاطفية (شغف الحب)، والميتافيزيقية. علاوة على ذلك، اقترح أن جميع المستويات الثلاثة للإثارة الجنسية كان الغرض منها منح الفرد المعزول علاقة يائسة أو “علاقة متبادلة” مع شيء أو شخص ما أو جمع ما. ويجادل باتاي بأن رغبة الفرد في الاندماج مع الآخر في الفعل الجنسي يعبر عنها بعنف في أثناء النشوة الجنسية، وفي تلك اللحظة يُجرَّد المرء من الأنا والهوية. علاوة على ذلك، هذا الانحلال الحر للذات يصبح العنف والموت واضحين فيه، ويشير الفرنسيون إلى النشوة الجنسية على أنها “الموت الصغير” وهو مصطلح ينطوي على عدم استمرارية الذات. هذا هو الجانب المتناقض لطبيعة الإنسان الذي يتناوله الكتاب السورياليون، إذ يطالبون بإخضاع المنطق إلى اللاعقلاني، ويسعون إلى المصالحة بين الحقيقة الواعية للعقل الباطن والظاهر بكل أشكاله، إذ يثير اللقاء الجنسي في الإنسان الإحساس الجماعي بالعزلة التي يمر بها الكائن من خلال أهم تجربتين في الحياة (الولادة والموت).

المعرض الدولي للسوريالية1959 برادوفان إيڤسيك، وجان شوستر، وروبرت بينايون، وأندريه بريتون، وجان لويس بيدوين وچويس منصور، وآخرين

الرحيل من مصر إلى باريس

يقول سمير منصور إنه حُذِّر قبل إلقاء القبض عليه، لكنه اضطر هو وعائلته إلى المغادرة خلال أربع وعشرين ساعة. وصلوا إلى باريس إلى الشقة الواقعة في 1 شارع ماريشال مونوري في الدائرة السادسة عشر، تلك الشقة التي كانت منزلاً لقضاء العطلات في عام 1952، ثم أصبحت بالنسبة لهم مكان الاقامة الرئيسية والنهائية تركت عائلة منصور مصر، تاركين وراءهم ما كان لديهم قبل اندلاع حرب السويس في 29 أكتوبر 1956. وقد تسببت هذه الحرب في سلسلة من الأحداث المصيرية للجالية اليهودية الأجنبية في مصر، كان هناك اعتقالات جماعية، وترحيل خلال أربع وعشرين ساعة مع حجز جميع متعلقاتهم وممتلكاتهم؛ وتشهد أخت چويس منصور الصغرى جيليان على حقائق تسلط الضوء على الصمت الذي طالما التزمت به چويس في وجه الاضطرابات السياسية والاقتصادية في بلدها الأصلي مصر. 

لم تكن چويس منصور تتحدث كثيرًا في السياسة طوال حياتها، حتى لو شاركت لاحقًا في توقيع بيانات جماعية أو منشورات جماعية سوريالية عالمية. وفقًا لچيليان، كان والدهما على علم بخطورة الوضع الذي من شأنه أن يجر البلاد إلى أزمة قناة السويس عام 1956، لكنه فضل تجاهلها. نصحه مايلز لامبسون، السفير البريطاني، وهو صديق له في عدة مناسبات بنقل غالبية ثروته إلى الخارج والتحضير لمغادرة عائلته. وتقول چيليان إنه استثمر أموالاً في الخارج، لكنها لا تقارن بالثروة التي جناها من المنسوجات. وتتذكر جيليان أن محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية المصرية، قد زار الصناعيين ورجال الأعمال الذين يتولون زمام الاقتصاد المصري، وأثنى عليهم وطمأنهم من أجل تأييده فيما بعد، لكن إيميل إديس رفض مقابلته. وفي عام 1956، سُجن في القلعة، في الحي القديم في القاهرة، وفي أثناء وجوده في السجن، كان غير قادر على ممارسة السيطرة في مكان آخر، أمضى أيامه في تنظيم زنزانته.

 تتذكر چيليان أيضًا حكاية مميزة أخرى عن والدها. بمرور الوقت، أصبح خادمه الشخصي خليل صديقه وزميل اللعب خلال ألعاب الكروكيه التي كانت تقام بانتظام مع السفراء. وحينما سُجن، رفض السماح لخليل بإحضار الغداء والعشاء في زنزانته، وأنه عندما أطلق الجنود سراح والدها من السجن بعد أربعة أشهر، في نوفمبر 1956، اقتادوه إلى المنزل لأخذ حقيبة أو اثنتين ونقله مع زوجته وأطفاله إلى المطار مباشرة حيث رُحِّلوا إلى سويسرا، في جنيف على وجه التحديد. في ذلك الوقت، اعتقد إيميل أن نفيهم كان مؤقتًا، وقد شعر بالملل وقضى أيامه في لعب القمار. في وقت من الأوقات، انتقل موظفوه إلى ميلانو، وأراد أن يبدأ عمله في المنسوجات مع ولديه ديفيد ونورمان، لكن الشقيقين لم يتفقا ورفضا هذا العمل الذي كان سيعيد لوالدهم بلا شك طعم الحياة. ومثل جميع رجال الأعمال – معظمهم من اليهود، لكن المسلمين والمسيحيون أيضًا جُردوا من ممتلكاتهم وأثاثهم وعقاراتهم، وكانوا سيحصلون على تعويض زهيد عن أي شيء يمتلكونه في مصر.
كان على چويس وسمير منصور أيضًا، التخلي عن كل شيء والفرار إلى باريس مع ابنيهما الصغيرين، ومنذ تلك اللحظة، عاش إميل بلا أمل جديد، ومرض بشدة بالسرطان وتوفي عن عمر يناهز السادسة والسبعين. وكانت شروط رحيل المطرودين قاسية للغاية.. كان النزوح الجماعي في غضون أشهر قليلة من الطبقات الاجتماعية المدمجة بعمق في السكان حيث ظهرت أدلة على الاضطهاد العنيف، اضطرت چويس منصور، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، إلى مغادرة مصر بسرعة وبشكل دائم للاستقرار في باريس.  

مزينة بالورود مثل الباذنجان

أنت تقول إن المرأة

يجب أن تعاني من التمهل والسفر دون أن تفقد أنفاسها

لإيقاظ الجواهر الثمينة المزينة بالمكياج

أن تغني أو تصمت لتمزق الضباب

للأسف لا أعرف كيف أرقص في مستنقع من الدم

ملامحك تتلألأ على الجانب الآخر من الشاطئ المبتهج

كل ما هو حي متعفن

أنت تقول إن على النساء

أن يعرفن كيف يسلبن كل شيء حتى

المولود الجديد لا يزال قلقًا من الحب

يتحول وجهك إلى اللون الأزرق مع نمو ثروتك

وأريد أن أموت متماوجة حكيم حكيم

شرير
بفخر في سكون المنفى

أنت تقول إن على المرأة

أن تدمر نفسها لتتجنب الولادة

وانتظر تلك البهجة الصلبة والمتفجرة

للأسف لا أحب أن أمارس الحب على السجادة

يحرق خاتمك فخذي

الزمرد هو عذرية رجل غني

أنت تقول إن النساء

صُنعن للرعاية والدخان التائب الذي يلهث في الكنيسة

الباذنجان الشاحب 

 مخيط برؤوس حريرية متسخة

مقطوعة أيضًا 

ولماذا لا بعد كل ليالي الصمت الدامية والمذهلة في القطب

أعتقد أنه يمكنني السماح لك بالرحيل الآن

ساقاك تطير عالياً في الخزانة

صراخًاعند الركبتين

مثل الكثير من الدعاة

أشعر بالارتياح لوجود قبعة على رأسي

حتى لو كان بولك يحمل كل قصص الزواج الخيالية،

فأنت تقول إن النساء شرائع هذيانية

أما أنا، للأسف، فقط تذوقت الموت

باريس

في أوائل الخمسينيات، لم تكن چويس منصور جزءًا من السوريالية المصرية، مع أنها شاركت في بعض الفعاليات الأخيرة لأصدقاء جورج حنين الذي قدم لها أدبيات السوريالية، وشجعها على نشر قصائدها، لكنها لم تكتب في المجلات السوريالية المصرية مثل La Part du Sable.. ويروي سمير منصور أنه بفضل جورج هوجنيه، الذي لم يكن جزءًا من المجموعة السوريالية منذ عام 1939، نجحت چويس منصور في نشر قصائدها الأولى في فرنسا. ودون أن تعرف ذلك، كانت نموذجية جدًا بالنسبة لمفهوم الكتابة اللاواعية التي سعى إليها السورياليون، لكنها لم تعد بعد نموذجية لمدينتها المتوحشة (القاهرة) التي انسلخت منها للأبد بعد أن جفت شهوة ونشوة المدينة العجوز.

من مقتنيات تيد جونس بعدسة ماريون كالتر. چويس منصور في تجمع مع جيمس بالدوين ، سيسيل تايلور ، لورانس فيرلينجيتي ، _