جيرترود بيل في بغداد

جيرترود بيل: صانعة الملوك

كتالوج الملكية لأطفال الجمهورية

وائل عبد الفتاح

عثرت على جيرترود بيل وسط كتاب يحمل صورة الأميرة بديعة..

من هي الأميرة بديعه؟!

لم أسمع أو أقرأ عنها قبل أن أجد صورتها على كتاب صادفته في واجهة إحدى مكتبات بيروت؛ وهو من نوعية الكتب لا تجذبني عادة؛ لكن لسبب ما قرأت المكتوب على الغلاف الأخير، لأعرف منه أن الأميرة هي حفيدة الشريف حسينصديق لورنس العرب الشهير وقائد الثورة العربية الكبرىوهي أيضا والدة الملك الذي طالب صدام حسين في آخر أيامه بعرش العراق!

غلاف كتاب مذكرات وريثة العروش للأميرة بديعة

غلاف كتاب مذكرات وريثة العروش للأميرة بديعة

في الغلاف لمحت صورة امرأة يقاوم جمالها القديم العمر الطويل ترتدي فستانًا أسود طويلاً والطرحة السوداء تنزلق على شعر مرت عليه قبل دقائق أصابع الكوافير. لمحت صورتها اللافتة للانتباه على غلاف كتاب يورد أنها ستروي سيرة أهلها؛ ملوك الشام والحجاز والأردن والعراق.

الكتاب يحوي عناوين مثيرة: مذكرات وريثة العروش، أهم وثيقة عربية في القرن العشرين.. وقبل المقدمة كانت هناك شجرة النسب الشريفة للاميرة بديعة وأهلها ملوك وأمراء بني هاشم.

أي أن صورة السيدة اللافتة بسنواتها التي تلعب في الثمانين قادتني إلى حكاية جديدة عن الأسرة الهاشمية صاحبة التاريخ المثير الذي ترجع سلالته إلى النبي محمد، ومن بعده علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وحتى الشريف علي بن الحسين ابن الأميرة بديعة، والذي يطالب بعرش العراق الآن.. ومروراً طبعًا بأسماء لامعة في السنوات الصاخبة التي افتتحت القرن العشرين؛ بدءًا من الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبري إلى الملك حسين ملك الأردن الذي كان السبب في معرفة الصحفي الذي سجل المذكرات (اسمه فائق الشيخ) بمعلومة أن الأميرة بديعة هي الناجية الوحيدة من مذبحة قصر الرحاب ببغداد في 14 يوليو 1958.

وقتها كان الملك حسين في شهر العسل مع صدام حسين بسبب موقفة المؤيد لبغداد في الحرب ضد إيران.. ومكافأة له سمح صدام بالنشر عن العهد الملكي، بل إنه حين امتد العسل إلى ما بعد حرب الخليج الثانية تحولت المسألة إلى شبة تحالف ومصالح.. ومن جانبه بدأ صدام يحي ذكري العائلة المالكة باعتبارها جزءًا من الوطنية العراقية، وكان هذا نكاية في العائلة السعودية؛ الخصوم القدامى للأسرة الهاشمية.. وفي إطار البحث عن شرعية قديمة أنتج صدام فيلمًا ضخماً عن حياة الملك غازي ثاني ملوك العراق، وهو الملك الشاب 21 سنة، الذي ورث العرش عن أبيه فيصل الأول، وكان مهتمًا ببناء دولة حديثة قوية بعيدًا عن سيطرة الإنجليز. ويبدو أنه كان معجبًا بهتلر ونموذج الدولة القومية في ألمانيا وإيطاليا وهذا ما جعله يهتم بإنشاء محطة إذاعة تبث من قصره.. وتحكي الأميرة بديعة في مذكراتها كانت إذاعة قصر الزهور تعني بالنسبة للملك غازي الشيء الكثير فهي شاغله الشاغل في ذلك الوقت، ومن خلالها هاجم السياسة البريطانية في العراق ودول المنطقة وغازل الألمان وتناغي مع الطليان ودعا بحقوق الشعب الفلسطيني وشجب الاعتداءات التي تعرضوا لها خلال الثلاثينيات، والتي أدت إلى انتفاضة 1936 وما بعدها..

ومن إذاعته أيضًا طالب بعودة الكويت إلى العراق ويبدو أن هذا ما أعجب صدام في سيرة الملك غازي، مع أن الأميرة بديعة سرعان ما تفسر الأمر على أن هذا لم يكن سوى مؤامرة بتحريض من الضباط الشباب من أصدقائه المحيطين به.

والقصص حول الملك غازي مثيرة ومتناقضة؛ بين صورة الشاب المدلل الذي يهوي قيادة السيارات، أو كما تحكي الأميرة بديعة ينتمي إلى جيل من الشباب اتصف بحبه للهو والمرح.. جيل طائش.. “ولا أخالني أجانب الحقيقة لو وصفته (عكر كوف) قرب بغداد بسيارته فيصعد تلالها بأقصى سرعة وينزل منها بسرعة أقصى ليخيف من كان يجلس بجانبه.. وحينما يصرخ هذا المسكين هلعًا أو يصيح طالبًا النجدة يرتمي هو على ظهرة ضاحكًا عليه.. فهو يفرح ويسر لتلك المناظر والمشاهدات.. خاصة الألعاب البهلوانية والحركات الخفيفة.. يقود طائرته ويقوم بحركات مرعبة وألعاب مخيفة تكون الخطورة فيها بأعلى درجاتها“.

لكنه في المقابل هو رمز الجيل المغامر الطموح من العائلة الحاكمة، وذروة مشروع العراق الحديث كما تخيلته الأسرة الهاشمية، وهذا ما روَّج لفكرة المؤامرة حول حادث موته المفاجئ قبل أن يتم عامه السابع والعشرين.

أصابع الاتهام كانت تشير في المقدمة طبعًا إلى الإنجليز وإلى زوجته الملكة عالية وشقيقها الأمير عبد الاله الذي أصبح وصيًّا على العرش بعد موت غازي، وتولى ابنه الطفل فيصل الثاني المُلك. وكان على رأس المتهمين أيضَا نوري باشا السعيد؛ رئيس الحكومة والرجل القوي في السياسة العراقية، وهو من عرفناه هنا في مصر باعتباره شيطان حلف بغداد الذي كان عبد الناصر يراه لعنه ستربطنا بالاستعمار إلى الأبد!

الملكة اليزابيث تستقبل الملك فيصل الثاني ملك العراق في محطة قطار في لندن، 1956

الملكة اليزابيث تستقبل الملك فيصل الثاني ملك العراق في محطة قطار في لندن، 1956

صدام طبعًا لعب على فكرة المؤامرة التي تنفيها الأميرة بديعة تمامًا.. خصوصًا وأنها كانت شاهدة على الحادث عن قرب؛ فهي شقيقة الملكة عالية والأمير الوصي، وفي المذكرات تحكي تفاصيل جديدة عن زواج غازي وعالية، وهي اللحظة التي انتقلت فيها السلطة من قيادة تقليدية خاضعة للإنجليز (الأب فيصل) إلى قيادة شابة متمردة (الابن غازي)، وكان لا بد أن تكون كل الأمور مضبوطة لكيلا تنفلت، وهذا سر من أسرار الزواج الملكي الذي تقرر عشية رحيل الأب.

تحكي الأميرة.. في الثامن من سبتمبر 1923 وبينما كنا نصطاف في إسطنبول فوجئنا بخبر وفاة عمي الملك فيصل الأول في سويسرا، فاضطر أخي عبد الاله إلى السفر لبغداد بالقطار لحضور مراسم استقبال النعش والتشييع والدفن وبقينا (أنا وأمي وأخواتي والعبد بشير والكاتب الحاج سالم) في تركيا. ظل أخي الأمير عبد الإله في بغداد نحو أسبوع.. وشهد مراسم العزاء والفواتح الرسمية، وحينما عاد إلينا حكى لنا قصة الوفاة، وكيف كان الناس يبكون ويندبون الملك مرددين هتافيا سويسرا جيبي ملكنا“.. (..) غير أن أخي فاجأنا بخبر غريب لم نكن نتوقعه.. قبَّل أختي عالية وقال لهامبروكفردتمبروك على ماذا؟أجابإن أبي وعمي الملك عبد الله اتفقا على أن تتزوجي ابن عمي غازيصعقت عالية لهذا الخبر، إذ لم يدر في بالها يوما أنها ستتزوج غازيًا فهو أصغر منها سنًا (نحو سنة واحدة) وهي لم تفكر به يومًا، وكان من المفروض أن تتزوج ابن عمي الملك طلال (والد الملك حسين وجد الملك عبد الله الثاني)

والمعروف أن الزواج في العائلات الملكية غالبًا ما يكون في إطار شبكة المصالح وتوازن القوى، وهذا ما تؤكده بقية الحكاية.. في ذلك الوقت كانت بنات بغداد يترددن على قصر الحرم، لنيل الحظوة أو الفوز بالملك غازي والزواج منه، ولعل أكثر من دار الكلام حولها كانتنعمتابنه ياسين الهاشمي (..) لكن الباشا نوري السعيد عمل المستحيل للحيلولة دون إتمام هذا الزواج

1

لم تتحدث الأميرة بديعة عنميس بيلأوبنت الصحراءكما كانوا يسمونها في أوائل القرن العشرين، مع أن هذهالميسهي صاحبة النفوذ القوي في بريطانيا عندما كانت إمبراطورية عظمى، ولعبت الدور الرئيسي في رسم حدود العراق الجديد، وفي اختيار حاكمها الأول الأمير فيصل، وعلى مدى سنوات كانت الشخص الأقرب إليه، ومستشارته السياسية، وصاحبة الكلمة العليا في بلاط حكمه، مكانة عظمى في زمن لم تقرب فيه نساء العرب السياسة، منحتها لقبملكة العراق غير المتوجة؛ إنها جيرترود مارجريت لوثيان بيل؛ المولودة يوم 14

جيرترود بيل في سن الثالثة، عام 1871

جيرترود بيل في سن الثالثة، 1871

يوليو 1868، لعائلة بورجوازية في مقاطعة دورهام بإنجلترا.. كانت فوضوية، لكنها تعلمت قواعد السلوك والمظهر اللائق تحت ضغط زوجة أبيها الباريسية، قليلة الجمال، المتسمة بالصرامة. ويبدو أن هذا سر توترها وقلقها، وحبها للمغامرة، وهي صفات أهلتها للدور الذي لعبته لاحقًا ببراعة في تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة، إذ كانت المرأة الوحيدة بين 19 شخصًا اختارهم وزير المستعمرات البريطانيةفي العشرينياتونستون تشرشل وهو يرسم مستقبل العالم العربي بعد القضاء على الرجل المريض في تركيا.

كانت الميس بيل من نوع خاص من المستكشفين: لم تكن مجرد مغامرة، تريد أن تلعب على حريتها في الصحراء، بعيدًا عن لندن التي لم تحبها، مغرمة بسحر الشرق، الذي كان أكبر منرحلة غامضةتشعرها بلذة السفر، بل كان مكانًا اكتشفت فيه ذاتها بالطريقة نفسها التي عثر فيها توماس إدوارد لورنسوالذي نعرفه باسم لورنس العربعلى ذاته، فهو الابن الثاني غير الشرعي لبارون إيرلندي فقير ومربية كانت ترعى أطفاله وقد هرب الاثنان إلى أكسفورد، واتخذا لقب لورنس اسمًا لعائلتهما، وتخفى المغامر المثير في عدة شخصيات ليلعب دوره هو الآخر في رسم الوجه السياسي للصحراء العربية، وشارك الأمير فيصل في قيادة جيش القبائل الذي تحرك من مكة، ثم تناثرت الحكايات عنه وعن علاقته مع زعماء القبائل، واختلط دوره السياسي بحكايات جنسية دارت في الغالب حول استخدامه للعلاقة المثلية مع الزعماء المتيمين بأجساد الرجال البيض، ليسيطر على القرار السياسي لصالح الإنجليز، ليكون هو وفرقة الجواسيس عشاق الصحراء والشرق، المبشرين بعالم عربي جديد.

جيرترود بيل في تركيا

جيرترود بيل في تركيا

 لورنس أصبح صديقًا مهمًا في حياة الميس بيل، بعد لقائهما الأول في موقع أثري جنوبي تركيا عام 1911، وذلك قبل أن تصبح سيدة القرار في قصور الحكم ببغداد، وعلى مقربة منها نساء قادمات من الصحراء أو من الحرملك التركي. أما الأميرة بديعة فقد كانت مثل غالبية نساء الأسرة الهاشمية البعيدات عن الدخول في اللعبة السياسية، وهي قاعدة كُسرت ثلاث مرات؛ الأولى مع أختها الملكة عالية؛ الملكة الهاشمية الأولى في تاريخ العرب كما وصفتها الأميرة بديعة، كما وصفت دورها في عملية انتقال السلطة بعد مقتل زوجها الملك غازي الذي عاشت معه حزينة لأنها أجبرت على الزواج منه، لكن العلاقة بينهما ظلت محترمة على حد تعبير شقيقتها الصغرى، وفي المذكرات تنفى بشدة تورط عالية في مؤامرة اغتيال غازي، وهي المؤامرة التي أنهت محاولة الخروج من تحت السيطرة الإنجليزية.
لكن بديعة لم تنكر دور عالية في حصول شقيقها الأمير عبد الله على وصاية العرش، وقد جعلته يحتكر أيضًا طريقة تربية ابنها الطفل ليبتعد عن حياة وأسلوب أبيه، وهو الفعل السياسي الذي أعاد الكلمة العليا إلى فرع الأسرة الهاشمية الأكثر محافظة والأقل تحررًا من سيطرة العادات والأفكار السياسية التقليدية، والأهم أنه الأقرب إلى الإنجليز، بل إنه الفرع الذي سار الشوط إلى نهايته وساهم في إعلان حلف بغداد.

الغريب أن عالية كانت ستتزوج من ابن عمها طلال، ابن ملك الأردن عبد الله، الذي تذكره الأميرة بديعة في مذكراتأتذكره شابًا في العشرينيات من عمره (مواليد 1910) عندما كان يأتينا إلى بغداد أواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينيات فنلعب ونمرح معًا، كان مؤدبًا للغاية، لطيف المعشر، خفيف الدم، صاحب نكتة، بيد أن عمي يميل في نفسه إلى نايف (أخي طلال غير الشقيق) أكثر منه“.

لماذا؟

لا تفسر بديعة، لكنها تروي أوصافًا أخرى لطلالكان يكره الإنجليز كرهًا شديدًا، ويحملهم مسؤولية كل ما واجهه جدنا وأبناؤه من متاعب وخيانات، فضلاً عن مساندتهم وتأييدهم لقيام إسرائيل في المنطقة، ووقوفهم إلى جانبها في حرب 1948 ضدنا“. هل هذا هو السبب في الحب الناقص من عبد الله إلى ابنه طلال؟! المهم أن الحسابات السياسية سارت في الاتجاه المعاكس، وتزوج طلال منزين الشرفابنة الشريف جميل المولودة في مصر عام 1916، وهي ثاني امرأة قوية في الأسرة الهاشمية، خصوصًا بعدما عُزل طلال من الحكم عام 1952 بسبب معلن، وهو إصابته بمرض نفسي استدعى العلاج في مستشفى الأمراض النفسية بإسطنبول، وظل هناك عشرين عامًا حتى مات عام 1972، والغريب أنزينكانت تزوره مرة واحدة في العام، تتفرغ بعدها لإدارة قصر الحكم من خلف الكواليس، وكان دورها معروفًا إلى درجة أنه في إطار الحرب الإعلامية في الستينيات كان عبد الناصر يصف الملك حسين بأنهابن زين؛ والمقصود هنا هو توجيه الإهانة على طريقة الحواري المصرية للملك الذي ربته امرأة، وبعيدًا عن هذه النظرة الذكورية المتخلفة، كانت تلك الصفة إعلانًا عن الدور الفعلي للملكة زين طيلة أكثر من نصف القرن، وهو الدور الذي أشعل حرب نساء في قصر الملك حسين؛ بين أمه وزوجته الأولى الملكة دينا عبد الحميد المرأة القوية الثالثة في الأسرة الهاشمية، التي كانت، كما تصفها الأميرة بديعةمفكرة يسارية ونشطة سياسيًّا، تخرجت في جامعة كمبريدج، وهي تكبر الملك حسين بنحو سبع سنوات، وتزوجت بعد طلاقها سنة 1956 من عضو منظمة التحرير الفلسطينية صلاح صلاح“. والفرق بين دينا وزين كما تقول بديعة، أن الأولى تبطن شخصيتها القوية في نفس هادئة مستكينة، بينما الثانية تظهر شخصيتها القوية بوضوح لغلبة الطابع الهجومي على سلوكها وتصرفاتها مع الآخرين!
الباقيات غرقن في مجلات الموضة وصور نجوم السينما التي كانت أكبر علامات التحضر وقتها، وتحكي الأميرة بديعة بأسى شديد عن عزة ابنة عمها فيصل التي هربت مع حبيبها اليوناني.. وعن جليلة التي أحرقت نفسها بعد زواج فاشل، من رجل من الأشراف يكبرها بنحو 15 عامًا!

الأميرة بديعة و الأميرة جليلة في باريس، 1948

الأميرة بديعة و الأميرة جليلة في باريس، 1948

نساء الأسرة الهاشمية، كما حكت عنهن بديعة بنت علي، كن يذهبن إلى السينما في بغداد محجبات، ولا يخلعن الحجاب إلا عندما يطفأ النور، لا يعرفن من الحياة إلا ما تعرفه بنات القبائل في الصحراء العربية، بعد قليل ومع تعرفهن على الحياة في مصر، وسفرهن إلى الخارج، صار من الممكن أن يخرجن في لندن وباريس كأوروبيات.

المدهش أن الميس بيل كانت تلعب في منطقة بعيدة إلى حد كبير عن مسيرة بنات الأسرة الهاشمية مع التحضر، كانت تريد أن تحافظ على العلاقة بين بغداد ولندن، وفي مسار متواز كانت تضغط من أجل تعليم المرأة في العراق.
ارتباط مدهش (مثير للدراسة) بين التحديث والاستعمار، وبين الجواسيس وأبطال التغييرات الكبرى في المجتمعات العربية!

 ربما كانت المرة الوحيدة التي أشارت فيها الأميرة بديعة إلىالميس بيلكانت دون اسم، حينما تحدثت عن المغامرات النسائية لعمها الملك فيصل الأول، وأكدتقيل أيضًا إن لعمي علاقات بامرأة هندية، وأخرى نمساوية، وثالثة إنجليزية، وهذه الأخيرة كانت تتجسس عليه لمصلحة الإنجليز، أستطيع أن أُكذِّب الكثير مما قيل، ليس حرصًا على عمي، بقدر ما هو سخرية من هذه التفاهات، ولكني أود أن افترض صحة بعض ما قيل، فهل سيتصور أحد بأن عمي كان بسيطًا لدرجة أن تتمكن امرأة من استدراجه ليبوح لها بأسرار مملكته؟ وإذا أردت أن أكون أكثر دقة، فأين هي هذه الأسرار؟! ولم يكن العراق محتلاً ومستعمرًا من قبل البريطانيين، وبفضل عمي وقوة إرادته (بعد فضل الله) وصمود شعبه وتضحياته استطاع أن ينجز استقلال العراق ويحافظ على وحدته وحدوده“.

جيرترود بيل في بغداد، 1917

جيرترود بيل في بغداد، 1917

وهي هنا تعبر عن سذاجة سياسية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه بهذه الطريقة كانت الميس بيل هي الوزيرة المفوضة للشؤون الشرقية لدى المندوب السامي البريطاني في بغداد، ومن خلال منصبها لعبت دورها في تشكيل العراق الحديث. لكن الأميرة هنا كانت مهتمة بالجانب الأخلاقي، فهي صاحبة نظرة محافظة، فقد وصفت الملك فيصل الأول بأنهلم يكن مثل أبي (الملك علي)، أو عمي (الملك عبد الله)، قارئًا مواظبًا للقرآن الكريم، أو ملتزمًا بشدة في أحكام الدين أو صارمًا مع نفسه، وتعلق على هذا بأمنية لا تقل سذاجةوكم تمنيت في نفسي أن يكون مثلهما، كي لا تدع السنة السيئة تنال منه وتتطاول على مقامه“.. والمثير للتأمل هي محاولاتها لتفسير اختلافه؛ فمرة تقوللا أدري إن كانت لجولاته الأوروبية وكثرة أسفاره الخارجية وعدم استقراره في بلداننا عملاً من أجل القضية العربية وتحرير دولنا، علاقة بكل ذلك فيما حصل“.. وفي موقع آخركان رستم حيدر وزيرًا في حكومة عمي الملك فيصل الأول في الشام.. وجاء معه إلى العراق، مخلصًا، ذكيًا، شغوفًا بعمله، مؤديًا لواجباته على أتم وجه، لكنه علماني أكثر من اللازم، ذو عقلية أوروبية، إليه وإلى تحسين قدري ذلك السوري الأنيق، الذي تذكرنا ملابسه بأزياء القرن التاسع عشر صاحب اللسان الثقيل بالعربية الذي يجيد التركية والفرنسية، الطيب، الأناني بعض الشيء.. إليهما معًا، نعزو إدخال المشروب (تقصد الخمر) إلى بلاد عمي الملك فيصل الأول وتقديمه للضيوف، ما كان يفترض أبدًا أن يحصل هذا في بلاط عمي الملكي!”. وللمرة الثالثةكان لعمي الملك فيصل الأول أغا أسود، نحيلاً، ذميلاً، طيبًا، فقيرًا، لم يمارس سيطرته على البيت، ولم يتدخل في أي شيء، ربما لأنه كبير، يجلس عند باب الحرم هادئًا مستكينًا، لعله يتحمل جزءًا من مسؤولية ما حصل من أخطاء في بيت عمي“.
والأغاوات؛ هم الرجال الذين عُطلت وظائفهم الجنسية بعناية، ووفق قواعد بدائية مستوحاة من سحر القبائل الأفريقية، يقوم بها متخصص يخدر الفتيان تخديرًا كاملاً، ثم يستأصل أعضاءهم التناسلية بالكامل، ثم يصب الزيت المغلي ليسد مكان الجرح، ثم يضع كمادات من أوراق النباتات المطحونة فوقه، وإذا لم يصب الفتى بتلوث في المثانة يؤدي إلى وفاته خلال ستة أيام، فإنه يكون قد تخطى مرحلة الخطر، وتبدأ مرحلة تغذيته اللحم النيء الغارق في الشطة والفلفل، والعسل، وبعد شهرين يكون جاهزًا للتصدير.
إن عملية الخصي هي انتصار لرجل واحد على رجولة بقية الرجال المحتملين، ووجودهم في خدمته تعزيز لهيبته الذكورية، لأن مهمتهم الأساسية هي التأكد من عدم وجود ذكر آخر في عالم الحريم.
وتذكر الأميرة بديعة في مذكراتها الدور السياسي الذي لعبهالأغاواتفي قصور الأسرة الهاشميةربما لا يعلم كثيرون بأنه كان لبعض الأغاوات تأثير كبير وخفي في المسرح السياسي لبعض البلدان يومذاك، يفوق حتى تأثير الوزراء ورؤسائهم لما يتمتعون به من نفوذ وسيطرة عليهم وبما ملكوه من خبرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة فهم أشبه بالأمراء وأصحاب السلطة، ومنهم من كان يجيد أكثر من لغة أجنبية“. وتحددلقد أوكل إليهم سادة البيوت مهمات تعذر عليهم هم أنفسهم القيام بها، لكثرة مشاغلهم والتزاماتهم السياسية خارج بيوتهم، فقام بها الأغاوات على أحسن ما يرام، بعد أن ظلوا يبحثون عمن يؤدي أدوارهم نيابة عنهم من الرجال، فلم يجدوا حلاً لهذه المشكلة، سوى عن طريق هذه الشريحة من البشر، يستطيع الأغا القوي أن يفرض سيطرته على سائر الأغاوات العاملين معه في نفس المكان، لا بل حتى على سيدة البيت أو القصر، إن كانت ضعيفة أو سهلة الانقياد، فهي الأخرى تخشاه وتهابه وتنفذ أوامره ونواهيه، لأن سلطته تكاد تكون منحصرة على النساء بالدرجة الأساس“. وغير الأغاوات كانت هناك الجواري، عادة عثمانية أخرى اكتسبتها الأسرة الهاشمية، مما وضع الحكم في مهب رياح التغيرات، إذ كانت أوروبا تقدم نمط الحياة الحديثة القائم على التساوي السياسي (الجمهوريات)، والاجتماعي (خروج المرأة وتحررها)، وكانت قصور الهاشميين عامرة بالجواري، بل إن الأميرة بديعة تحكي عن عمها الملك عبد الله الذي تزوج من إحدى جواريه وأنجب منها الأمير نايف، ولم يكن وحده، فالكثيرون من أجداد الهاشميين تزوجوا من الجواري الشركسيات والحبشيات، بل إن الملك الذي يطالب بعرش العراق الآن جدته جارية! والملك هو علي، ابن الأميرة بديعة؛ ووالده هو الشريف حسين بن علي باشا، الذي كان يسمىأبا مايلةلميلان عقاله الذي يرتديه مع الكوفية في الشتاء والعمامة في الصيف، كان وسيمًا تعشقه النساء، فتزوج من الكثيرات، ولم ينجب منهن حتى تزوج جارية شركسية اسمهاماهيتاب” (اسم يعني بالتركية البدر وبالفارسية أشعة القمر) فأنجبت له الحسن والحسين، والأخير هو زوج بديعة، ووالد ابنها علي الذي صرَّح في 2002 “أنا قادم إلى بغداد“!

 يمكن أن نكشفالخلطةالسياسية التي قامت عليها الأسرة الهاشمية، فهي سليلة العائلات الحاكمة في الدولة الإسلامية، تلك العائلات التي تمزج بين الدين والسياسة، بمعنى أدق تخلط بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة التي قامت لأول مرة بعد هجرة النبي محمد إلى يثرب، وتكوين دولة المدينة، الامتزاج بين المؤسستين امتد بعد رحيل المؤسس الذي لم يكن هناك اختلاف حول أحقيته فهو المفوض الإلهي بحكم الوحي، وهو القائد العسكري، والسياسي بحكم الحروب والصراعات التي ساهمت في تأسيس الدولة وتكريسها في الواقع، الأسرة الهاشمية أرادت وراثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قيادة الدولة على اعتبار أنها العائلة التي تنتسب إليه، لكن الخلفاء أخَّروا الحلم حتى أتت بيعة علي بن أبي طالب، وقامت الفتنة الكبرى وبدأت تراجيديًا أبناء علي، ومأساة الأسرة الهاشمية التي دخلت العصر الحديث تبحث عن دور جديد يعتمد على ثلاث أفكار: النسب إلى النبي، ووراثة الدور الديني والسياسي لأحفاد محمد (النبي) وعلي (الإمام)، وأخيرًا شرعية التضحية.

وهو ما تشير إليه الأميرة بديعة حين تكتبإنني أتحسر على تضحياتنا من جدي علي بن أبي طالب إلى أبي علي بن الحسين، لا أحد يقدر لنا ذلك، ولا أحد ينطق بالحقيقة“. فهي تعتبر مأساة عائلتها بدأت بقتل علي بن أبي طالب منذ 14 قرنًا، وليس من وقت اقتحام الضباط الأحرار القصر الملكي ليلة 14 يوليو 1958. وتحكي عن أبيها علي بن الحسينملك الحجازالذي ضاع ملكه في أقل من 15 شهرًا فهرب إلى مملكة أخيه في العراق، ليعيش في وضع نائب للملك، وبمرتب متواضع لا يمكنه من الصرف على أتباع لحقوا به من الحجاز، ولا على الأسرة التي تعيش عيشة الملوك (زوجته نفيسة، التي تتحدث بعربية ركيكة، كانت تلبي احتياجات الأبناء والبنات من ثروتها الخاصة، وهذا ما جعل باحثة بريطانية تشير إلى دور سياسي لها؛ خصوصًا عندما أجبرت ابنها عبد الإله على رفض اقتراح عمه الملك عبد الله بتولي ولاية عهد الأردن كي لا يأكل حق أبناء عمه).

المهم أن الأميرة بديعة تربط بين المأساة القديمة والجديدة، يجسدها مشهد الأب وهو يستقبل في شرفته شيعة العراق يلطمون على صدورهم، وهو يرد عليهم باللطم، حكايات ممزوجة بأسى عدم تقدير الجميل وشعور الضحية، وهي مفاهيم قديمة جدًا في السياسة، تعتمد على أن الأسرة افتدت المسلمين بداية من الجد علي بن أبي طالب، وعلى المسلمين أن يردوا الجميل بإعطاء شرعية الحكم للأحفاد!

هذه المفاهيم لم تكن سوى الغلاف الذي تحركت تحته الأسرة الهاشمية منذ أول القرن حين لاحظت رغبة القوى العظمى في تفكيك تركة المريض التركي، ولم يكن من السهل منافسة السلطان العثماني على التحدث باسم الإسلام، فكانت القومية العربية التي لعبت عليها إنجلترا في برقية أرسلتها إلى الشريف حسينإن حكومة بريطانيا وحلفاءها يقفون بثبات إلى جانب كل حركة تهدف إلى تحرير الشعوب المظلومة، وهي مصممة كذلك على مساندة الشعوب العربية في كفاحها لإنشاء عالم عربي يحل فيه القانون محل المظالم العثمانية، عالم عربي جديد تحل فيه الوحدة محل المنافسات والحزازات المصطنعة التي كانت تثيرها سياسة الموظفين الأتراك، إن حكومة بريطانيا تؤكد مرة أخرى تمسكها بتعهدها المتعلق بتحرير الشعوب“.

1930 ،الملك فيصل الأول، أول ملوك العراق

1930 ،الملك فيصل الأول، أول ملوك العراق

الورقة القومية إذن هي ما جمع المقاتلين والمفكرين حول الشريف حسين (الشيخ محمد رشيد رضا أعلن في البداية مساندته للثورة العربية الكبرى، والمفكر المعروف ساطع الحصري أيد الملك فيصل حين انتصر في دمشق، وبعد إجباره على الخروج صحبه إلى دمشق..). واللعبة كانت على الجانبين؛ الشريف وعائلته يريدون السلطة، والإنجليز يريدون وضع العالم العربي تحت السيطرة، ولم تكن العروبة سوى السيف الذي ضربت به السفينة التركية العجوز. والنتيجة هي تقسيم العرب على خريطة سايكس بيكو، وتحول الأسرة الهاشمية إلى ملوك يضعون حجر الأساس للدولة الحديثة.
المفارقة أن تلك الأفكار واليد الغربية التي ساهمت في إقامة مجد الأسرة الهاشمية لم يمنع هاجس الخوف من الأجنبي في حياتهم اليومية، وخصوصًا عند النساء، حكت بديعة عن أختها عالية التي طلبت في أيام مرضها الأخيرةلا تتركوني لوحدي مع النصارى، تقصد الممرضتين الإنجليزيتين، وعن أمها الملكة نفيسة التي كانت تصحب جاريتها الشركسية معها في كل مكان خوفًا من أن تموت في أي مكان ولا تقوم على غسلها امرأة مسلمة!

في الدولة الحديثة لم يكن هناك أقوى من الضباط في العراق. وفي المقابل كانت هناك نماذج عليا وأبطال يلمعون في العالم كله، من أتاتورك إلى هتلر وموسوليني وأخيرًا عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر التي صدرت ثورتها إلى العالم العربي؛ بداية من النصف الثاني للخمسينيات.

تحب الأميرة بديعة نوري باشا السعيد القائد الشهير لألوية الملك فيصل من دمشق إلى بغداد، وأكثر رؤساء الحكومات العراقية إثارة للجدل، الذي لم نعرفه في التاريخ سوى عميل للاستعمار ومهندس حلف بغداد، لكنها في المذكرات دافعت عنه، وذكرت إنهاجسه الأول والأهم كان الشيوعيين، ويوم أن وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 لم يكن من بد أمامه سوى الانسحاب من الحلف (لكنه لم ينسحب)، وتعتقد أن هذا هو السبب في إنهاء النظام الملكي بالعراق.. ومع هذا فهي تراه وفيًا لأهلها الملوك، وتحكي عنه حبه للنكتة، وموهبته في تقليد الشخصيات المعروفة، حتى أنه كان يسخر من شيوخ الأزهر بقولهشيوخ الأزهر سمان وأساتذة في الهتافثم يضع نوري باشا شيئًا على بطنه بحيث يبدو بدينًا ويمسك بمن يجلس إلى جانبه ويقوم ويهتف كما يهتف الأزهريونداون وذ تشرشل.. لايف عدلي باشا” (يسقط تشرشل ويحيا عدلي) ويكررها بالإنجليزية.

الأميرة بديعة

الأميرة بديعة

نوري السعيد مات مسحولاً في شوارع بغداد على أيدي الضباط الأحرار العراقيين الذين أعادوا باترون ثورة عبد الناصر، لكن على الطريقة العراقية العنيفة، ولم ينجح لا نموذج هتلر ولا موسوليني، فقط عبد الناصر الذي كرهته بديعة وزوجها إلى درجة الشماتة في موته، أو رفض الزوج الحصول على الجنسية المصرية بسببه، وهو الذي حذر ملوك العراق من أنه يرى شبح عبد الناصر يطوف ببغداد، وكان يقصد بأنه يخاف من حركة بالجيش على الطريقة التي صعد بها عبد الناصر إلى السلطة، لينهي سيرة أبطال العروبةالشيوخالقدامى، ويبدأ عصر من عروبةالضباط،الثوريين“!

كلاهما اليوم أمام المحك العنيف القاسي، لم تعد عروبة الشيوخ تصلح ولا عروبة الثوار، ولا دولة الأسرة الواحدة، ولا دولة الفرد الواحد، كل شيء ينفلت حتى أن هناك من كتب فيلوموندتحت عنوانعراق بلا صدام” (30 سبتمبر) “في الواقع العراق هي اختراع بمدلول نفطي عميق يعود إلى الإمبريالية البريطانية غداة الحرب العالمية الأولىويضيف الكاتبلقد كان ذلك جنونًا من تشرشل، الذي أراد أن يجمع بئرين من النفط يفرقهما كل شيء (وهما كركوك والموصل وذلك بتوحيد ثلاثة شعوب يفرقها كل شيء وهي الأكراد والسنة والشيعة“.

إن كل الكيانات التي نعيش فيها الآناختراعاتأوروبية، وهذا نسيان متعمد يهدف إلى شيء واحد، أن يسمح لأمريكا هذه المرة باختراع دول جديدة، ما دام المنطق مقبولاً، وفي الوقت نفسه يكون أجمل أهدافنا هو الدفاع عن حدود رسمها تشرشل مع جواسيسه، وهذا عبث تكتفي الأميرة بديعة أمامه بالبكاء على أهلها، وانتظار ابنها القادم إلى عرش العراق!
وهي خدعة أكبر من خدعتنا في عالم رسمته المس بيل!

2

من أنت؟

جيرترود بيل ولورنس العرب في العراق

جيرترود بيل ولورنس العرب في العراق

على مقربة من قناة السويس سأل الحارس الرجل القادم عبر صحراء سيناء؛ كانت ملامحه غريبة؛ فهو أشقر وعيناه ملونتان مثل الخواجات، لكنه يرتدي عباءة بيضاء، لم يكن الحارس يعرف أنه لورنس العرب؛ أشهر جاسوس بريطاني في القرن العشرين.

قبل وصوله إلى المنطقة العربية استمع إلى نصيحةأنت ذاهب إلى صحراء لا يسكنها غير البدو والآلهةفقرر أن يكون بدويًّا وبدائيًّا مثل أهلها، وإلها يحمل المعجزة إلى المنتظرين تحت الخيمةظل لورنس ينظر إلى الحارس نظرة دهشة، ولا يعرف كيف يجيبههو الآن تائه لا يعرف من هو؛ ضاعت هويته بين البدوي والإله، بين صورته وظلاله، إنه في الصحراء، يرقص رقصة الصور والظلال.

زمن فيكتوريا والنينو

جيرترود بيل في سن الرابعة مع والدها

جيرترود بيل في سن الرابعة مع والدها

ولدت جيرترود بيل في قلب عصر الملكة ألكسندرينا فيكتوريا، وبالتحديد قبل سنواتالنينوفيكتوريا، أشهر ملكات بريطانيا، استمرت في الحكم من 1837 إلى 1907، وفي عصرها اتسعت رقعة الإمبراطورية البريطانية؛ ولم تعد الشمس تغيب عن التاج البريطاني. كان الأسد البريطاني في زهوة شبابه وسطوته، فتكونت طبقة من أرستقراطية مدللة تبالغ في كل تفاصيل حياتها، فهو عصر الدلال والرفاهية والتزين، كان أسلوب الحياة الإنجليزي مثل الأمريكي الآن؛ الموديل القابل للانتشار؛ بدءًا بطقس شرب الشاي في الخامسة بعد الظهر، وحتى النظرة إلى الأخلاق العصر الفيكتوري. كان أشهر عصور الفصل بين السر والعلن في الأخلاق سلوك محافظ في العلن مقابل حياة سرية في الخفاء لها طقوسها التي ما زالت تسحر مواقع البورنو على شبكة الإنترنت. ومن هنا انتشرت عادة كتابة اليوميات (عند النساء بشكل خاص) التي صنعت عالمًا مكتوبًا موازيًا للعالم الحقيقي؛ كانت المرأة تجهز للزواج بتعلم العزف على البيانو والرقص وتنسيق الزهور وتجفيفها، وكانت حفلات الرقص مهمة للمرأة الباحثة عن عريس، أو التي تريد أن تشعر أنها مهمة ومرغوبة. كانت أحد أهم سمات العلاقة بين الرجل والمرأة في العصر الفيكتوري حتى لو لم يكن الرجل هدفًا هو الغنج، أو ما نسميه باللهجة المصريةالمياصة، وحتى الآن عندما تتدلل امرأة يقولون إنها تعيش في العصر الفيكتوري.

في المقابل كانت أحياء الفقراء في لندن؛ وعلى بعد أمتار من قصر باكنجهام، محور روايات الروائي الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز صاحب أوليفر تويست، لكن الأب الروحي للملكة فيكتوريا في شبابها اللورد ملبورن نصحها بعدم قراءة الرواية لأن بطلها من الفقراء، وتدور عن المجرمين وتتضمن حكايات لا تجلب السعادة، استمعت الملكة إلى النصيحة بينما جهازها السياسي يرتبنظامًا عالميًّا جديدًايتيح للأغنياء امتصاص ثروات الشعوب الفقيرة، ويحولونها إلى وقود في ماكينة بناء الإمبراطورية المهيمنة سياسيًّا وماليًّا على العالم بهذا الإحساس المنفصل.

وفي كتاب صدر بين لندن ونيويورك بعنوانمحارق أواخر العصر الفيكتوري: كوارث النينو وكيفية ولادة العالم الثالثحاول المفكر مايك دافيس أن يروي القصة السرية للقرن التاسع عشر، والتي كان لها الدور الكبير في رسم خريطة الغنى والفقر والقوة والضعف في العالم حتى الآن. يذكر المؤلفحدثت في تلك الفترة كارثة هائلة ذات أبعاد كونية تقريبًا، فقد اكتسحت المجاعة بلدان بأسرها كمصر والهند والصين، وانتشر الجفاف والمجاعات أيضًا في مناطق أخرى كإندونيسيا (جاوة تحديدًا) والفلبين وكاليدونيا الجديدة وكوريا والبرازيل وجنوب أفريقيا والمغرب العربي الكبير. وبلغت ضحايا هذه المجاعات عشرات الملايين، ولا يمكن مقارنتهم إلا بضحايا الحرب الأهلية الصينية التي جرت بين عامي 1851 -1864 وهي أكبر حرب أهلية في التاريخ إذ أسقطت ما لا يقل عن ثلاثين مليون قتيل، وحكاية مايك دافيس تكشف ما أخفاه التاريخ الرسمي من وجهة نظر الإمبراطورية العظمى.

في عز سنوات فيكتوريا والنينو ولدت جيرترود لوثيان بيل، مستمتعة بأن إنجلترا هي الدولة الصناعية الأولي في العالم، ووالدها وريث لإمبراطورية صناعية مهمة حدثها وطورها، وعندما ولدت جيرترود كان يعمل لديه في مناجم الفحم وأفران الحديد والألمنيوم أكثر من 47 ألف عامل، وينتج ثلث ما تستهلكه بريطانيا من الحديد، بمعنى معاصر كان هو أحد ديناصورات الصناعة في شمال إنجلترا. لم يستمر هدوء الحياة العائلية، ماتت الأم بالتهاب رئوي حاد وجيرترود في الثالثة، وقبل أن تتم الثامنة كانت سيدة البيت هي فلورانس أوليفكاتبة مسرحية من الطبقة الأرستقراطية الباريسيةقليلة الجمال. لكنها ذكية، فتحت أمام الطفلة الصغيرة عالمًا واسعًا بالقراءة، في الوقت نفسه كانت طريقتها في التربية كما قالت جيرترود في رسالة إلى أبيها، تشبه مشد الصدر الذي كانت تحبكه بدرجة لافتة.

لم تلعب الباريسية الشابة دور زوجة الأب التقليدية كما تصوره أدبيات العصر الفيكتوري، لكنها كانت أقرب إلى مرشدة ثقافية وأخلاقية تقودها إلى عالم غريب عليها في بيوت عمال المصانع؛ حيث كانت تعد دراسة عن طريقتهم في الحياة، وتلاحقها بملاحظات لاذعة حول طريقتها التي كانت تسم بفوضوية وعبثية في تلك السنوات الأولى. هذا التزاوج بين الانفلات والصرامة ظل سر توتر وقلق جيرترود وحبها للمغامرة.. وهي صفات أهلتها للدور الذي لعبته ببراعة فيما بعد؛ لقد كانت المرأة الوحيدة بين 19 رجلاً اختارهم وزير المستعمرات ونستون تشرشل وهو يرسم مستقبل العالم العربي بعد القضاء على الرجل المريضتركيا“.

ملكة صحراءفي قلب القاهرة

جيرترود بيل في مؤتمر القاهرة، 1921

جيرترود بيل في مؤتمر القاهرة، 1921

كانت أنوثتها تمنحها قوة الاقتحام، مع أن الأنوثة في العصر الفيكتوري ارتبطت بالإقامة خلف الجدران المخملية، وكانت فتنة نساء الأرستقراطية أن ترسم إحداهن في لوحة زيتية تظهر فيها ممتلئة القوام؛ صدرها متحفز كأنه سينطلق من الفستان الذي يشبه خيمة مزركشة فاخرة، هذه صورة الأنثى في العصر الذي كسرت فيه جيرترود القيود، وخرجت من إطار الصورة، لتصنع مملكتها في الصحراء العربية، وتكسر القاعدة التي

جيرترود بيل في سن السادسة عشر

جيرترود بيل في سن السادسة عشر

واجهتها، وفي تكسر للمرة الأولى احتكار الرجال للتعلم في أكسفورد أو كمبريدج، ومع أن جامعة أكسفورد كانت أحد مراكز التفكير الحر في بريطانيا فإن القاعدة فيها كانت تقضي بأن ذلك التفكير حكر على الرجال فقط، ولم يكن مستغربًا في تلك الأيام أن تلقى محاضرات في قاعات الجامعة حول تبعية المرأة للرجل، مثل محاضرة الفيلسوف الشهير هربرت سبنسرإن التفكير يشكِّل خطرًا على المرأة، ويحمِّل دماغها أكثر من طاقته ويضعف قدرتها على الإنجاب“… وكان المدرسون يتقبلون وجود بنات في قاعات الدروس بارتباك شديد؛ أحدهم أصر على أن يجلسن وقد أدرن ظهورهن له، كما حكت في رسالة إلى زوجة أبيها. لكن بيل لم تنتظر عريسًا، ولم تحب فكرة التقاط زوج من حفلات الكوكتيل البرجوازية، وكان هذا سر تعثر مشاريع الزواج في إطارها العائلي، ربما لأن كثيرًا من رجال ذلك الزمن لم يطيقوا فكرة الزواج من أول امرأة تحصل على شهادة عليا في التاريخ الحديث، وتحب الخلوة مع القلم والأوراق وتتمرد على الأنوثة الفيكتورية، وربما لأنها كانت تبحث عن مستحيل، لم تعثر عليه في خُطَّابها المتعددين، كانت تناديها فكرة جذابة ولعبة خطرة؛ لم يكن البيت البرجوازي المنتظر في لندن مكانها، لهذا كانت الصحراء، والشرق، وهناك التقت لورنس العرب في كركميش عند مدخل نهر الفرات إلى سوريا؛ وكانت قد بدأت رحلاتها إلى الشرق من طهران، جاءت الرحلة بعد 3 سنوات من الملل في أعقاب عودتها من رومانيا (عملت هناك في السفارة البريطانية)، ثم القسطنطينية حيث بدأت أول خيوط التعلق بما يسمى في تلك الحالاتسحر الشرق، وهو ما يمكن ترجمته إلى المسافة الثقافية التي جعلت الغرب يركب آلته البخارية في طريق الصعود المادي بينما ما يزال الشرق في الكهوف منتميًا إلى الطقوس الروحية وثقافة أقرب إلى البدائية تحرك غريزة الاكتشاف، اكتشاف ماضي البشرية الذي يعيش في ظل حاضرها الطاغي، وجيرترود من هذا النوع من المكتشفين الذي انتشر في مطلع القرن العشرين، وكان كل منهم خلطة من عشاق وجواسيس وباحثة في الآثار والتاريخ. سافرت جيرترود بقطار الشرق السريع (1892)، وفي حقيبتها قواميس باللغة العربية والفارسية، وبصحبتها عمتها وابنة عمها وخادمتان، وبعد رحلة دامت أسابيع بين القطار والسفينة وصلت إلى أسوار طهران، التي بدت بيوتها الطينية والحدائق الخضراء وسط الصحراء الممتدة حولها مشهدًا غير عادي، وظل البحث عن المشاهد غير المألوفة هاجسها الغامض في طهران. وفي 1894 ظهر كتابهاصور فارسيةوصفت فيه الطاعون الذي اجتاح طهران خلال زيارتها وكأنه زائر يطرق كل باب، وإن حياة أبناء البلاد أصيبت بشلل كامل، ولم يبذلوا أي جهد لعزل المرض أو دفن الموتى، تاركين المصابين في الشوارع يلفظون أنفاسهم الأخيرة وينقلون العدوى، وفسرت هذا الإهمال بما سمته بالقدرية الشرقية، ورأت أنها تمنع الناس من القبض على زمام أمورهم بأنفسهم. وصوَّرت جيرترود الحياة الناهضة للشرق على أنها وجود مختلف تمامًا وغامض وغير واقعي ويصعب فهمه وإدراكه في كل الأحوال، حياة رتيبة لا يطرأ عليها أي تغيير من جيل لآخر، ولا تمثل أي سمة، ولم يكن هذا تعبيرًا عن كراهية للشرق بل محبة امتزجت بالتعالي، إذ أشارت في رسائلها الخاصة أكثر من مرة إلى شوقها الجارف لحدائق الورد الفارسية، وتعبيرًا عن المحبة والشوق ترجمت قصائد أشهر شعراء الفارسية، حافظ الشيرازي، وهي حتى الآن أهم وأدق ترجماته إلى الإنجليزية، وربما كانت رحلة طهران مفتاحًا مهمًا في رحلتها المصيرية إلى القاهرة بعد ذلك بأكثر من ربع قرن.

جيرترود بيل في مؤتمر القاهرة، 1921

جيرترود بيل في مؤتمر القاهرة، 1921

أرستقراطية تدخن السجائر في شوارع القدس

في طهران اختلط غموض الشرق بقصة رومانسية محبطة، هناك قابلت جيرترود بيل شابًا إنجليزيًّا مفلسًا اسمه هنري كادوجان، يعمل سكرتيرًا ثالثًا في السفارة الإنجليزية، صحبها لرحلة صيد في الصحراء، وهناك دوخها بالشعر والغزل الثقيل، واتفقا على الزواج، لكن العائلة قلَّبت في سيرة الخاطب الغامض، واكتشفت أنه فقير، فأبلغت جيرترود أنه مقامر، يهوى التقاط الرومانسيات صاحبات الثروة، وسريعًا تم استدعاء العاشقة الشابة إلى إنجلترا.

وهناك تلقت برقية من طهران تخبرها بموت كادوجان بعد إصابته بالحمى، وكانت نهاية مأساوية لقصة أيقظت داخل جيرترود الشوق المجنون إلى الشرق، فظلت تطارد شوقها مرة في القدس (1899) حيث تعلمت العربية واكتسبت شهرتها كرحالة أرستقراطية تسير في الشوارع الضيقة للمدينة القديمة بثوبها الفيكتوري الطويل الواسع وحذاء برقبة عالية، وعادة ما كانت في هذه الجولات تدخن السجائر.

كانت هذه بداية لفتها للأنظار، التي جعلت صحيفة نيويورك تايمز تكتب عنها وقتها أساليب النساء الإنجليزيات شديدة الغرابة، يقنعنك أحيانًا بأنهن على وشك التحول بسهولة إلى جواري، لكن بمجرد أن يكسرن قيودهن لا يعرفن سوى الانتقام! هكذا أصبحت جيرترود بيل أشهر جاسوسة بريطانية في مطلع القرن العشرين. وبعد أيام قليلة من انتصار الحلفاء في الحرب الأولى، في رحلة القدس تخلصت من شبح الحبيب الراحل، وبدأت في اكتشاف الضفة الأخرى من حكايتها مع الشرق في عادات الناس وتقاليدهم، وساعدها إتقانها للغة العربية على اقتحام أماكن جديدة؛ ومن القدس رحلت عبر نهر الأردن إلى أريحا، وبعد أن قضت أيامًا في جبل حوران توجهت إلى دمشق ومنها إلى تدمر، حيث بقيت أيامًا توجهت بعدها عائدة إلى لندن، لتكون بالقرب من مكان مغامرتها الشهيرة في تسلق قمم الجليد في سويسرا، هذه المغامرة منحتها ثقة وجرأة أخرجاها كثيرًا من لعبة الفضول الذهني إلى اللعب الخطر في أماكن غير مأهولة، في الفترة بين 1905 قامت بزيارة خاطفة إلى حيفا، وأخرى مطولة إلى الهند وسنغافورة والصين وكوريا، وفي مطلع 1905 وضعت خطة لما سمته بمرحلة عمل تستهدف دراسة العادات والتقاليد الشعبية في الشرق. وفي الرحلة اكتشفت أسلوبًا فريدًا في جمع المعلومات؛ لا يهتم بمصدر المعلومة، فأهم المعلومات يمكن أن تحصل عليها من أتفه المصادر؛ نصيحة تعلمتها من ديبلوماسي مخضرم، وكانت أولى خطواتها في تجاوز الخط الدقيق بين البحث العلمي والجاسوسية، بين اكتشاف سر الغموض واستخدام الاكتشاف في إعادة تشكيل المنطقة، وهذا ما جعل شهرتها تلفت الانتباه بعد كتابها الذي خرجت به من تلك الرحلةالصحراء العربية“.

في نهاية الرحلة قابلت مارك سايكس؛ النصف الإنجليزي من الاتفاقية الشهيرة بين فرنسا وإنجلترا على اقتسام تركه الدولة العثمانية والمعروفة باسم سايكسبيكو. لم يكن الخواجة سايكس وقتها قد وصل إلى منصب المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، ولم يكن قد وصل إلى مقر عمله في القاهرة، لكنه كتب في مقالات منشورة، أن العربفصحاء، غشاشون، سريعو الانفعال وجبناءوهم يمثلون بنظري أكثر الصور إثارة للكراهية في الشرقإنهم محتقرون وكسالى دون حدود، ومليئون بالشر إلى أقصى ما تحتمله أجسادهم الضعيفة“.

ناقشته جيرترود بيل في تلك الآراء، واختلفت معه، كانت ترى أن العرب يتبعون أعرافًا وتقاليد أخلاقية صافية، تعود إلى بداية الحضارة. والاختلاف بين سايكس وجيرترود ليس في تقييم صفات العرب، لكن في الزاوية التي يقف فيها كل منهما؛ فهو الدبلوماسي الذي قسَّم التركة مع زميله الفرنسي وعاد إلى بلاده، بينما استسلمت هي للعشق والذوبان، وماتت في البلاد التي شكَّلتها على هواها

3

كتمت جيرترود بيل دهشتها.

كان الملك يحيط خصرها بذراعه، ويقترب بحميمية شديدة، كأنهما عاشقان هاربان من العائلة للمرة الأولى، وعلى باب المسرح اكتشفت أنه في نوبة رومانسية ناعمة أعادت إليها ذكريات اللقاءات المنفردة والجلسات الطويلة التي كانت تختلط فيها العواطف بالسياسة، الملك استدعاها أكثر من مرة في مزرعته بالضواحي وهناك كانت تشعر أنه في حالة تتداخل فيها الصور، هي مستشارته الإنجليزية ذات الشعر الأحمر الناري، وقبل ذلك هي صانعة المستحيل التي دفعت البدوي برومانسيته الصحراوية إلى الجلوس على عرش العراق، وبعد ذلك هي سيدة قصيرة تتولى الأمور اليومية من بروتوكولات العائلة المالكة وتفاصيلها الصغيرة إلى شبكة العلاقات السياسية بين الملك والإنجليز من ناحية وبينه وبين شيوخ القبائل والعشائر التي كانت خبيرة ماهرة في خريطتها المعقدة.

الملك التبس عليه الأمر في أحيان كثيرة: أهو تابع لها سياسيًّا ونفسيًّا؟ أهي مجرد موظفة في بلاطه؟ أهي جاسوسة أم ملكة غير متوجة؟ هل ما بينهما تضامن من أجل الحكم أم علاقة مركبة بين رجل وامرأة؟

من منهما سيد العلاقة: الجاسوسة أم الملك؟!

ملك في مهب الرغبات

الملك هو فيصل؛ أقوى أبناء الشريف حسين بن علي، الذي ولد في اسطنبول عام 1853 وعاد إليها عام 1893 مع أبنائه منفيًا، بسبب خلافات على منصب شريف مكة، وقد استقبله السلطان وعينه عضوًا في مجلس شورى الدولة، وبقي مع أبنائه في إسطنبول حتى الانقلاب الدستوري عام 1908.

بعدها عين شريفًا على مكة فعاد إلى الحجاز مع ابنائه ليؤدي دورًا غير متوقع في السنوات التالية.

وكانت الخطوة الكبيرة هي المراسلات الشهيرة التي تبادلها الشريف حسين مع مكماهون، المعتمد البريطاني في القاهرة، عام 1914، وتضمنت نوعًا من الاتفاق بين الإنجليز والشريف حسين؛ هو يعلن الثورة العربية الكبرى على الأتراك، والإنجليز يمنحون العرب استقلالهم عند نهاية الحرب.

وكانت هذه بداية ما يسمى بالعروبة التقليدية المرتبطة بالإنجليز والتي انفجرت في مواجهة ضعف وهشاشة الرابطة الإسلامية التي وصل بها الرجل التركي المريض إلى حافة الانهيار.

في العاشر من يونيو عام 1916 أعلن الشريف حسين الثورة.. بإطلاق الرصاص من شرفة دارته، وفي خلال أسابيع كانت له السيطرة على عدد من المواقع والمدن منها مكة والطائف وجدة.

بعد ذلك سلم الشريف قيادة الجيوش لأبنائه على وعبد الله وفيصل، وبعد سلسلة من المناوشات والمعارك التي دوت أخبارها في العالم، تقاطر إلى مكة الكثير من المتطوعين العرب المتطلعين إلى الاستقلال والذين بايعوا الحسين ملكًا على الحجاز في أكتوبر 1916.

وكما قال لورنس العربكان الإنجليز لهم رأي آخر، وجدوا في فيصل الشخصية المناسبة لقيادة الثورة العربية؛ فهو يمتلك كاريزما تناسب المرحلة، يقويها ذكاء شخصي ومرونة سياسية“.

وكان فيصل ناجحًا في قيادة جيش الشمال الذي يتطلع للوصول إلى سوريا، استطاع أن يبلغ العقبة، متحالفًا مع قادة القبائل، وحقق انتصارًا مباغتًا لفت انتباه القيادة الإنجليزية في القاهرة، وفتح احتمال الانتصار في المعارك المقبلة في فلسطين.

في نهاية الحرب (أكتوبر 1918) دخلت الجيوش العربية دمشق، ودخلها فيصل قائدًا منتصرًا ودخلها الجنرال أللنبي في لحظة اضطراب هائلة.

الغريب أن فيصل في سوريا كان في محط عواصف أكبر من خبرته الفطرية في شؤون السياسة، اختار في البداية الانحياز إلى الثوار المطالبين بدولة مستقلة عن البلاط العثماني في تركيا. مع أن إنجلترا لحست وعودها وقررت تسليم سوريا للفرنسيين. وبعد ضغط الإنجليز كاد أن يوافق على الشروط الفرنسية، لكنه أجبر على القبول بمطالب الثوار الذين أعلنوا الاستقلال. واختاروه ملكًا على سوريا في 8 مارس 1920 في اليوم نفسه الذي اختار فيه العراقيونفي دمشقالأمير عبد الله ملكًا على العراق.

وقد جر القبول بملك سوريا على الملك فيصل الأول توبيخ والده الذي كان لا يزال تحت تأثير الخديعة ويطالب الإنجليز بالوفاء بوعدهم! أما فيصل فكان عليه بعد فقدان الحماية البريطانية أن يواجه وحده نتائج اختياره، قرر الفرنسيون القضاء على الملكة الوليدة.

وفي صباح 24 يوليو بدأت القوات الفرنسية هجومًا شاملاً في الموقعة الشهيرة بميسلون التي سقط فيها وزير الدفاع يوسف العظمة، وما هي إلا ساعات حتى سقطت أول مملكة عربية في العصر الحديث.

خرج الملك فيصل من دمشق في اليوم نفسه مبتعدًا، وأجبره الفرنسيون على مغادرة سوريا كلها، فخرج منفيًا (وربما هاربًا)، ليس إلى الحجاز بل إلى أوروبا، وبعد رحلة استغرقت عدة أشهر وصل إلى لندن.

هناك بدأت مرحلة جديدة بطلتها جيرترود بيل.

مغامرة في برج السرطان

الملك فيصل أحب جيرترود.

هذا تصور سائد عند المهتمين بتلك السنوات من تاريخ المنطقة العربية، ويرى أصحاب التصور أن جيرترود عن طريق هذا الحب فرضت سطوتها وأدارت مملكته من خلف الستار.

وإذا كان هذا صحيحًا فإن عنوان مشاعر الملك هيالحب العذريفي الغالب. مع أن جيرترود لم تكن تحب العذرية في الحب بعد أن كسرت قيودها الأخلاقية وحطمت النموذج الفيكتوري الذي يحافظ على الأخلاق في العلن مقابل حياة سرية كاملة في السر. وقررت وهي تقترب من الأربعين أن تعيش على هواها. ولا تنتظر كثيرًا فكرة العائلة (المقدسة في التصور الفيكتوري)، وذلك بعد تجربتها مع ميجور إنجليزي أسمر، حاد الذكاء، اسمهديك دوتي وايليأحبته، ورسمت بخيالها في الرسائل تفاصيل مجنونة لليالي الحب بصحبته، لكنها رفضت النوم معه خوفًا من الحمل ورعبًا من فقدان العذرية علامة الشرف الوحيدة في عصر أصبح فيه الجنستابوكبيرًا، والمجتمع ينظر نظرة متعصبة لكل ما يتعلق بالجسد أو العري إلى درجة إن هناك من دعا إلى تغطية أرجل آلات البيانو كي لا ترى عارية.

جيرترود بيل

جيرترود بيل

لكن جيرترود بيل كانت امرأة استثنائية في هذا المجتمع، أو كما وصفتها صحيفة الديلي ميل مؤخرًا، كانت أشد النساء نفوذًا وتأثيرًا في الدوائر الدبلوماسية البريطانية ذات الطابع الذكوري، واستطاعت أن تجمع حولها قلوب معجبين مثل لورنس العرب وغيره من الرجال المتمتعين بجاذبية لافتة؛ كانت هي تحب صحبة الرجال وكانوا هم يعشقونها، إذ تثير انبهارهم بمهاراتها ومواهبها وعقلها الذي قيل إنه المع عقول بنات جيلها.

هناك أيضًا ارتباط بين سيرة جيرترود وبين برج السرطان، وهو تصور درامي لحياة جيرترود بيل الصاخبة؛ فامرأة السرطان تعيش بين شخصيتين؛ الأولى عملية جادة رصينة وحازمة إدارية ناجحة تميل إلى الحياة الاجتماعية والشهرة والأضواء. والشخصية الثانية خجولة متحفظة تحزن وتفرح لأتفه الأسباب، في بادئ الأمر نعتقد أنها ضعيفة لكنها أقوى مما تظهر عليه، مدبرة ناجحة وعادلة في أحكامها، وفي كلتا الشخصيتين قوية الملاحظة، مرهفة الحس، جذابة وسحرها أخاذ، عاطفية حنونة وسريعة التأثر.. ولدت ورسالة الأمومة هدفها الأساسي في الحياة، مزاجها متقلب، يحكمها القمر وتأثيراته، خيالها واسع، تملك روحًا تحليلية ولديها حدس صائب، طبيعتها مسالمة، حذرة، لا تهب ثقتها بسهولة ولا تمنحها كليًا مهما طال زمن صداقتها، تحتفظ بشيء خاص بها لا تبوح به، لا تسكت عمن يخطئ بحقها، أحيانًا صريحة بعتابها وفي أحيان كثيرة تحتفظ بما ألم بها وتنتظر الوقت المناسب لتتفجر غاضبة، الحب محور حياتها ومن أولويات اهتماماتها. والرجل مصدر الحماية والأمان تعلق عليه آمالاً كبيرة من العواطف الصادقة.

إلى حد كبير عاشت جيرترود بين شخصيتين. إحداهما محافظة والأخرى مغامرة. وبحثت عن رجل يمنحها الأمومة والأمان. لكنها لم تجد في النهاية سوى عشاق محليين من أهل الصحراء، شديدي الوسامة، وكان عشاقها كثر على ما يبدو؛ حتى أن الأهالي سموا بيتها المطل على نهر دجلةبيت العزاب“.

وظلت المرأة التي تجاوزت الأربعين حين وصلت إلى بغدادجذابة، لها فتنتها التي تتجاوز فتنة جاسوسة إنجليزية في قلب عواصف التغيير (عواصف قريبة الشبه لما يحدث الآن) التي أدارها قادة محترفون التقطوا شخصيات نادرة مثل الميس بيل ولورنس العرب وإدوارد فيلبي، وهم نوعيات خاصة من الجواسيس؛ فهم مثقفون ورومانسيون، يجدون ذواتهم في المهمات المقدسة، ويتصورون أن لهم أدوارًا رسولية في حياة المجتمعات البعيدة عن الحداثة. وفي الوقت نفسه يحبون البلاد التي تنام في محيط لا ينتهي من الرمال. جيرترود بيل كانت مفتونة ببغداد، واعتبرتها أكثر البلاد رومانسية، واستمعت بشغف إلى حكايات شهرزاد من مرافقيها في رحلات الصحراء.

هذه الفتنة هي التي مكنتها من زرع نفسها في بلاد بعيدة وإقامة علاقة مع مكان بعيد عن كل صلاتها العائلية أو الاجتماعية؛ إنها في بغداد مكانها المختار، وبعيدًا عن لندن مكان ولادتها وعائلتها، تحملت الحرارة الرهيبة التي لم يتحملها أهل الصحراء أنفسهم، وكانت ترفض السفر في الصيف مكتفية بمروحة كهربائية تعتبرها هبة استثنائية، بينما يبحث السياسيون والأثرياء من أهل البلد عن منتجعات في أوروبا يهربون إليها من الحرارة والرطوبة، وهي كما قالت صحيفةالجارديانفي مقال بعد الحرب الأمريكية على العراق تجاوزت فكرة لورنس العرب عن إمكان تحول الإنجليزي إلى عربي أكثر من العرب أنفسهم.
جيرترود قطعت شوطًا أكبر مع أنها أنثى، واستطاعت أن تتحاور مع شيوخ القبائل العرب وتملي عليهم إرادتها كأنها واحدة منهم، واقترحت الجارديان أن الإدارة الأمريكية في تكوين إدارة في العراق لا بد أن تضع نصب عينيها الورقة التي كتبتها جيرترود بيلرؤية للإدارة المدنية في ميزابوتاميا (الاسم القديم للعراق)”. وتعتبر الصحيفة البريطانية الأسس التي وضعتها الميس بيل لتكوين دولة العراق من ثلاث ولايات عثمانية هي الموصل وبغداد والبصرة، هي نفسها الأسس التي تبناها حزب البعث العربي الاشتراكي وأقام بها صدام حسين جمهوريته القائمة على استخدام القوة في فرض السلطة والوحدة.

هكذا اكتشفت المخابرات البريطانية مواهب الميس بيل وهي في مرحلة التخلص من الهواة.

وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وجدت جيرترود نفسها محور اهتمام من وزارة الحرب التي احتاجت الخرائط التي رسمتها لسوريا، كما كانت خبراتها الطويلة في رحلات الصحراء وراء طلب المكتب العربي لجمع المعلومات المقام حديثًا في القاهرة بتجنيدها للعمل كجاسوسة للحلفاء.

وهناك قابلت من جديد لورنس العرب، الذي كان الرجل الثاني في المكتب، وبدأت مرحلة تعلمت فيها تحليل المعلومات، ثم تقديم تصوراتها في إدارة العلاقة بين بريطانيا ومستعمراتها في المشرق، هذه الخبرات الجديدة جعلتها وفي خطوات أولى تجاه تحولها إلى جاسوسة محترفة، تكتشف قبل غيرها زعيمًا في القاهرة اسمه سعد زغلول.

ذكرت اسمه في يومياتها في 30 سبتمبر 1919 وفي إطار الإشارة إلى أن لا أحد من الوطنيين الذين يحبهم الشعب ويختارهم يمكن أن يحصل على مناصب وزارية مهمة أنهذا ينطبق بشدة على سعد زغلول الذي بعد ما منحه كرومر منصبًا عاد كتشنر ومكماهون وجورست (المعتمدون البريطانيون عقب رحيل كرومر) ليقللوا من صعودهلكنها في الوقت نفسه ترى سعد زغلول رجلاً قاسيًا مشاكسًا متغطرسًا مستبدًا، يصعب التعامل معه (اختتمت جيرترود يومياتها بملاحظةأخشى أن مصر ستتحول إلى إيرلندا أخرى بسبب غبائنا الشديد“) وهو تحذير يتوافق ورأيها في أن خطة اللورد كرومر كانت الأفضل في التعامل مع مصر، لأنها كانت في الجزء الأكبر منها خطة صارمة تسير على قواعد دستورية مستعدة للتحول في أي لحظة إلى الأوتوقراطية (الحكم العسكري المطلق) ليوم أو يومين، ولذلك كانت مصر ترتجف كلما سار كرومر في الشارع.

السيدة المشغولة بالرومانسية وسحر الشرق تحب أسلوب اللورد كرومر رمز العنف والبطش، وموضع كراهية المصريين. وهذا واحد من تناقضاتها المثيرة؛ فقد رفضت وعد بلفور مثلاً وقت إعلانه في 1917 وقالتإنني أكره الإعلان الصهيوني، وأنا على ثقة أنه لا يمكن تنفيذه فالبلد (فلسطين) إجمالاً لا تناسب اليهود، لأن ثلثي سكانها من العرب المسلمين، إنني على يقين من أنه مخطط مصطنع لا تربطه أية صلة بالحقائق“.

لكنها في الوقت نفسه لم ترفض لقاءات الملك فيصل في العقبة مع زعيم الحركة الصهيونية حاييم وايزمان وتوقيعه اتفاقًا (1919) يقبل فيصل بموجبه مبدأ إقامة وطن لليهود في فلسطين. وقتها كان فيصل على استعداد لتقديم أي شيء في سبيل الحكم. وجيرترود بيل كانت في طريقها لصنع المستحيل.

شيوخ وأمراء فيروليتالخاتون

في 4 ديسمبر 1921 كتبت جيرترود بيل إلى أبيها أمضيت الصباح في المكتب، أصنع من الصحراء الجنونية حدود العراق.

قصة رسمها للحدود بدأت بتكليف من المخابرات البريطانية بعد قيام الثورة الروسية (1917) وفي أعقاب مشكلات فجرتها إيران على الحدود، وانتهت الميس بيل من رسم الخريطة على الورق في ربيع 1918، لكنها لم تستقر في الواقع إلا عقب نجاحها في تنصيب فيصل ملكًا على العراق عام 1921. كانت وقتها السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني في العراق بيرسي كوكس، واستطاعت في فترة قصيرة أن تتولى ملف الملك القادم، فهي خبيرة بالخريطة السياسية للقبائل والعشائر والتي تشبه قطعة الموزاييك، كما أن طاقتها على العمل هائلة ولديها قدرة على إدارة المنازعات الصغيرة، بدت الخبرة في هندستها دولة تحميها جبال الأكراد ستمثل من تركيا وروسيا. وتحتاج دائمًا إلى القوة المستبدة للحفاظ على وحدة أراضيها (هذه القوة كانت الاستعمار ثم أصبحت دولة العسكر) وأخيرًا أعطت نصائحها بضرورة أن يحكم السنة (وهم الأقلية) لأن الشيعة (وهم الغالبية) مرتبطون أكثر بإيران، وليس هناك اتفاق بين الإمبراطورية البريطانية وأحلامهم كما هو الحال بالنسبة إلى السنة (أحلام الشريف حسين، وأولاده).

وقد استغلت هنا تركيبتها الفريدة في صنع المستحيل؛ وهو تنصيب ملك غريب عن البلاد، لا يعرف فيها أحدًا، كما أنه خارج من هزيمة عسكرية على يد فرنسا أبعدته أميالاً عن الدور الذي حلم به هو وأسرته (الهاشمية)، كان هناك غرباء مرشحون في الوقت نفسه مثل الأغاخان وعبد العزيز آل سعود (حاكم نجد وقتها)، وآخر إيراني، وغيرهم ممن كانت المنطقة بالنسبة لكل منهم ملعبًا لأحلام كبيرة في الحكم، ودارت أحلامهم جميعًا في روليت (القرص الدوار للعب الحظ الشهيرة) حتى استقرت على اقتسام الكعكة بين بقايا أولاد الشريف حسين في العراق وشرق الأردن، وأبناء آل سعود في الحجاز والجزيرة العربية.

جيرترود بيل تلتقي عبد العزيز آل سعود في البصرة، 1917

جيرترود بيل تلتقي عبد العزيز آل سعود في البصرة، 1917

تركيبة جيرترود بيل أثارت روائيًّا مثل عبد الرحمن منيف، فاستلهمها في صورة بطلة من أبطال ثلاثيتهأرض السواد، لكنه صرح باهتمامه بالشخصية في مقدمة كتاب صدر مؤخرًا وتضمن ترجمة عربية لأوراقها الخاصةكان المتحمسون والمرشحون للعرش كثيرين، وكانت الفروق بين واحد وآخر قليلة، وهنا ظهرت قوة الميس بيل ومكرها في إسقاط المرشحين المنافسين لفيصل الواحد بعد الآخر. لجأت إلى المداهنة والاقناع مما حمل أكثر المرشحين حظًا؛ عبد الرحمن النقيب (نقيب أشراف بغداد) على الانسحاب، ولجأت إلى القوة والحزم في أبعاد ثم نفي طالب النقيب (أبرز زعماء البصرة) الذي يشكل خطورة حقيقية على فيصل سواء انتخب ملكًا أو بقى في العراق، لما له من تأثير وعلاقات، كما لجأت الميس بيل إلى شيوخ العشائر وإلى رجال الدين واستعانت بزعماء المدن والأحياء من أجل حملة تطالبه بتنصيب فيصل ملكًا على العراق، وهكذا استطاعت بكثير من لا حركة والجهد والتنظيم أن تجعل فيصل الأوفر حظًا في تولي العرش مستغلة البيت الذي ينتسب إليه والصفة التي كانت له والتأييد الذي حصل عليه نتيجة التحريض والتعبئة بما في ذلك الصحافة التي أنشئت من أجل الدعاية له وإقناع الرأي العام بجدارتهويواصل منيفإن الجهد الذي بذلته الميس بيل، والذي تناول أدق التفاصيل منذ لحظة وصول فيصل إلى البصرة، ثم مروره أو توقفه في بعض المحطات، وزيارته للأماكن المقدسة، وفي أوقات معينة، وأيضًا ما يجب أن يقوله للناس وما يقدمه من وعود، وحتى الملابس التي يحسن ارتداؤها، واختيار الأشخاص الذين يفترض أن يرافقوه ويحيطوا به، والآخرين الذين يفترض أن يتعاون معهم في إدارة البلاد وكان في مقدمتهم جعفر العسكري ونوري السعيد.. هذه التفاصيل التي أشرفت عليها الميس بيل بنفسها والقوى التي حشدتها من أجل ذلك جعلت اختيار فيصل ملكًا تحصيل حاصل“.

في الليلة التالية لوصوله بغداد هتف لها فيصلأنتِ عربية.. أنتِ بدوية“. كان هذا أقصى مديح بالنسبة للرجل القادم من الصحراء، فابتسمت وقد لعبت أمامها صورها المتعددة: أميرة في الصحراء المجهولة، وجنرال في الجيش البريطاني، وعاشقة الآثار، والملكة غير المتوجةعلى العراق، والخاتونوهو لقب فارسي معناه: السيدة النبيلة الرقيقة. فكتبت لوالدهابينما كنت آمر في إحدى ضواحي بغداد وجدت الناس يتدافعون لتحيتي ومصافحتي.. فقال لي نوري السعيد (رئيس الحكومة وقتها والرجل الذكي الذي اعتبره عبد الناصر بعد سنوات رمزًا من رموز عملاء الاستعمار): إن أحد أسباب صلابتك هنا هو كونك امرأة.. لا توجد هنا سوى خاتون واحدة.. ولمئة عام قادمة سيذكر الناس الخاتون التي مرت من هنا“.

أما أغرب هذه الألقاب فقد كانأم المؤمنينالذي ناداها الناس به في بغداد بعدما استقرت هي ورئيسها بيرسي كوكس، إلى درجة أن كلاهما مارس هوايته المفضلة براحة شديدة؛ المستر كوكس يخرج الوطاويط المجمدة من الثلاجة ليطعم بها صقره المفضل. وهي تركب حصانها الصغير في جولات يومية خلال اللحظات المبكرة من اليوم.

كان وقتها مشغولاً طول اليوم؛ تولت الرئاسة الفخرية لدائرة الآثار، وأنشأت نواة المتحف العراقي، وكانت على رأس لجنة مكتبة السلام التي تحولت إلى المكتبة الوطنية للعراق. هذا بجانب علاقاتها بالموزاييك العراقي، هكذا لم تجلس على طعام بمفردها قط، وكان لديها للرفاهية موعد يومي مع السباحة في نهر دجلة.. وفي ليالي الأحد المسلية حفلات اجتماعية تدير منها خريطة العلاقات. وتكسر بها وحدتها. ومع هذا ظلت تردد أنلحظات الابتهاج قليلة، مثل تلك اللحظات التي تأتي وكأنما يقف الإنسان على عتبة رحلة غامضة“!

رحلة غامضة من بيت العزاب

جيرترود بيل في بغداد

جيرترود بيل في بغداد

رحلتها الأخيرة كانت 11 يوليو 1926. استيقظت في منزلها اللطيف، وتمشت قليلاً في حديقته المعطرة قبل أن تذهب إلى غداء عمل مع اللجنة الدبلوماسية، وفي طريق العودة فكرت، هي الآن تقترب من الثامنة والخمسين؛ وحيدة، أهميتها في بغداد استقرت، مرت سنوات العاصفة الأولى، خسرت عائلتها ومعظم ثروتها مع اضطراب عمال المناجم، وها هي ذي تقترب من سن الذبول وسيخلوبيت العزابمن العشاق، ارتدت المايوه الجيرسيه، ووجدت الماء في دجلة ثائرًا، فاستلقت على مقعدها المحبب بجوار غزالتها اللطيفة، وفي المساء استلقت على سريرها وتناولت في هدوء جرعات كبيرة من الحبوب المنومة، ولم تر شمس بغداد مرة ثانية، فقد قررت البقاء هناك إلى الأبد، ودفنت في مقابر الأرمن، وظلت أسطورتها تشاغل الناس، وتحكي لهم فصلاً مهمًا من فصول هندسة العراق الحديث على يد خاتون قوية ومثيرة.