رحلة فيروز المجهولة إلى القدس

عمرو ماهر

بعد حرب 1948، نجحت القوات الأردنية في السيطرة على الأراضي الواقعة شرق فلسطين، وحمايتها من يد العدو الصهيوني، فيما يعرف باسم الضفة الغربية؛ غرب نهر الأردن.. وبعد تقسيم فلسطين، أصبحت الضفة الغربية- والتي تشمل مدينة القدس- جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية، حتى استولت عليها إسرائيل خلال حرب الأيام الستة 1967.. وفي عام 1963 وقفت فيروز لأول مرة على مسرح المدرج الروماني في عمّان، وغنت لأكثر من ستة آلاف عربي:

أغنيتي إليك

على ذُرَى القدسِ أنا أصلي

يا رب، فاذكر وطني وأهلي

سبتمبر/أيلول 1963 

في 8 سبتمبر 1963، وبينما كانت فيروز تقدم أوبريت الليل والقنديل على مسرح معرض دمشق الدولي، أعلنت الصحافة الأردنية عن تعاقد نادي السباق الملكي مع فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية لإحياء حفلتين على مسرح المدرج الروماني، نظير ٦٠٠٠ دينار أردني.. حفلتان تحت عنوان “حكاية الأردن- حصاد ورماح” يومَي 19 و20 سبتمبر 1963.. وهو أول حفل منوعات لفيروز والفرقة الشعبية داخل البلاد العربية (إذا استثنينا حفلات معرض دمشق الدولي) بعد حفلاتها في أمريكا الجنوبية وبريطانيا..
وبسبب خطأ غير مقصود، أجلت الحفلتان لمدة أسبوع، بعد أن حدث تضارب في الإعلان عن موعدهما؛ إذ أعلنت صحيفة المنار أن الموعد هو 19 و20 سبتمبر، بينما أعلنت صحيفة الأردن أن الموعد هو 26 و27 سبتمبر، ثم عادت الأردن واعتذرت، وأكدت أن الموعد كما أوردته المنار، ولكن قبل الحفل الأول بيومين نشرت المنار اعتذارًا آخر، واستقر الموعد على 26 و27 سبتمبر كي لا تحدث بلبلة بين الجماهير التي اشترت التذاكر..

افتتحت فيروز الحفل بقصيدة جديدة بعنوان “أردُنُّ أرضَ العزم”، واختتمت مع الفرقة الشعبية برنامج الفصل الأول بلوحة “حصاد ورماح”، وهي مغناة تمثيلية كُتبت خصيصًا عن الأردن لهذا العرض.
جاء في التعريف بها: (مغناة تعبر عن الجانبين الرئيسَين في حياة الأردن، وهما يتمثلان في عملية البناء التي يقوم بتنفيذها هذا البلد، فيما يقف أبناؤه بحزم وإيمان على أطول خط للحدود مع العدو، دفاعًا عن مقدساتنا وعروبتنا).. أو كما تقول المغناة بإيجاز (فساعدٌ يستنبت الثمر.. وساعدٌ يشرٍّع السلاح).
تدور المغناة حول قرية فلسطينية على الحدود مع المحتلّ (تحرسُ خط الشَوْكِ والفداء) يتعاون أهلها ما بين زراعة الزيتون وبين اليقظة والحراسة ضد العدو.. يبدأ السيناريو كما كتبه الأخوان رحباني كالتالي:

 موسيقى افتتاحية.. المشهد يصور رجالًا يحصدون.. في عمق المسرح حرّاس يقفون بالسلاح.. على الموسيقى يجري تبادل الوظائف، فيصبح الحراس حصادين وبالعكس..
لا تسمي المغناة أبطالها. فيروز هي فتاة من القرية يخبرها الأهالي أن أخاها ينوي الرحيل والهجرة، فترد بجزع عبر اللحن (ما خِفْتُ أن يكونَ كان.. تمرّد الصبيان.. وجدّفوا على ثرىً يعبُق بالإيمان).. يأتي الشاب المتمرد ( الفنان جوزيف عازار)، تستحلفه أخته أن يبقى، ويذكّره الجميع بأهمية الأرض والقضية، وفي النهاية يعود لرشده ويقرر البقاء.. تختم فيروز مع المجموعة المغناة -التي لم تصدر رسميًّا حتى اليوم- بنشيد حماسي يمتلأ بالقوة عن النهوض ونهر الأردن الهادر:

ونحنُ بالبُنيان،

ننهضُ من عَجْلون

ننهضُ من شِيحان

من جبلِ الزيتونِ

والقدسِ

ومن عمَّان

في جبهةِ الشمسِ لنا مكان

والأردنُّ يسيرُ

على المدى يسيرُ

في غورِه يمتزجُ الهديرُ والدهور

يسيرُ يروى السهلَ والحنايا

يغسلُ أجيالًا من الخطايا

وفي قرار الماءِ

وجوه أنبياءِ

ينحتُها الحنينُ للسماء

والأردنُّ يسيرُ

على المدى يسيرُ

وضفتاه تُعليان

المجد والعمران

ونحنُ كالنسور

صوب المرتجى نطير

نطيرُ في الزمان

جَنَاح عنفوان

ففى ذُرَى الشمسِ لنا مكان 

في 28 سبتمبر 1963، اليوم التالي للحفلتين مباشرةً، تحركت فيروز مع الفرقة من عمان إلى القدس، يرافقهم رجال الأمن العام والجيش.. وهناك توجهوا إلى البلدة القديمة، وزارت فيروز للمرة الأولى الأماكن المقدسة، بما في ذلك الحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة.. ثم دعاهم السيد داوود أبو غزالة محافظ القدس إلى حفلة تكريمية في فندق الكابيتول بالقدس، وفي أثناء المأدبة أجرى مندوب الإذاعة الهاشمية حوارًا مع فيروز وعاصي الرحباني ومدير الفرقة الأستاذ صبري الشريف، الذي عرَّف عنه قائلًا: 

-والمخرج الفني للفرقة الذي بيده الحل والربط، من مواليد يافا، وهو نجل الوجيه والتاجر المعروف السيد أحمد الشريف، تاجر المانيفاتورة بيافا، وهو اليوم المسؤول الأول عن فرقة فيروز..

طلب مندوب الإذاعة من فيروز أن تعود إلى القدس للترتيل في أسبوع الآلام، فترد فيروز:

-لا أستطيع أن أعبر لكم عن سروري بزيارتي لبلادكم العزيزة التي أزورها للمرة الأولى في حياتي.. وكنت أود أن ألبي دعوتكم بالحضور إلى القدس في عيد الميلاد المجيد، أو عيد الفصح لأشترك في الصلوات والتراتيل.. لكنني نذرت أن أصلي هذه الصلوات في كنيسة أنطلياس كل سنة.. وأنطلياس هي مدينة عاصي زوجي، حيث أسكن معه هناك..
لم تكن فيروز تعلم أن الأمنية ستتحقق، وستعود مرة أخرى إلى القدس وترتل هناك، بعد ثلاثة أشهر فقط من هذه الجلسة.. لكن دعونا نسير مع الأحداث ولا نسبقها..

أكتوبر- نوفمبر- ديسمبر 1963

إلى بيروت عادت فيروز والفرقة يوم 29 سبتمبر 1963.. بدأت الفرقة تستأنف نشاطها الفني بمسرحية الليل والقنديل التي لم يشاهدها الجمهور اللبناني بعد، والذي سبقه إليها جمهور معرض دمشق، تبدأ عروضها في كازينو لبنان بدءًا من 24 أكتوبر 1963.. أسطوانتان جديدتان لفيروز في الأسواق تحمل الأولى مغناة “عودة العسكر” والثانية أوبريت “حكاية الإسوارة”.. تواصل فيروز حياتها العائلية الطبيعية كزوجة وأم، وأيضًا كتلميذة لا تتوقف عن التعلم..

 

وصلنا إلى ديسمبر.. في 4 ديسمبر/كانون الأول 1963 استيقظ العالم بأسره على نبأ فريد من نوعه، هو إعلان قداسة البابا بولس السادس، بابا الفاتيكان، عن نيته للحج إلى الأراضي المقدسة في عيد الميلاد، يناير المقبل 1964.. فرادة الخبر تأتي من كونها المرة الأولى التي يقرر فيها بابا للفاتيكان مغادرة الأراضي الإيطالية، منذ نحو 150 عامًا، حتى إن سكان روما اعتادوا إطلاق لقب (سجين الفاتيكان) على البابا..

وقد أعلن البابا بولس السادس في الجلسة الختامية للدورة الثانية للمجمع الفاتيكاني، أنه بعد تفكير عميق وصلوات كثيرة قرر الحج إلى أرض يسوع، وصرح بقوله “أنني أرغب- إذا ما ساعدني الله- في أن أقوم في الشهر المقبل بزيارة الأراضي المقدسة، حيث وُلِدَ المسيح ومات وبُعِث وصعد إلى السماء.. سنرى تلك الأرض المباركة التي جاء بطرس منها، والتي لم يعد إليها أيٌّ من خلفائه حتى الآن”.

من جانبها صرحت الحكومة الأردنية عن ترحيبها أشد الترحيب بقدوم الحبر الأعظم إلى الديار المقدسة، وأعلنت أن هذه الزيارة ستكون خطوة مباركة من قداسته، يخص بها الأردن مهد الأديان السماوية، وهي على أتم استعداد للحفاوة اللائقة بقداسته عند حلوله أرضها.

حل عيد الميلاد، وفي 25 ديسمبر 1963 رتلت فيروز في كنيسة جبيل بمشاركة فرقة الكسليك ترتيلة سيريانية بعنوان “شوبحو لهو” أو “سبحان الكلمة” من إعداد الأخوين رحباني، بحضور التليفزيون الفرنسي الذي سجل وصلة الإنشاد.. بعدها بأسبوع سافرت فيروز مع الأخوين رحباني، وبمرافقة فرقة معهد الروح القُدُس (الكسليك) بقيادة الأب يوسف الخوري، إلى القدس للاشتراك في مراسم استقبال البابا، والترتيل أمامه..

يناير/ كانون الثاني 1964

 في 4 يناير 1964 وصل البابا بولس السادس إلى مطار عمّان، ومنه انتقل الموكب بالسيارات متجهًا إلى القدس.. وفي القدس سار البابا على درب الآلام وزار كنيسة القيامة، وعلى درب الآلام وقفت فيروز مع الفرقة ترتل “أنا الأمُّ الحزينة”.. واستمرت رحلة البابا للأراضي المقدسة ثلاثة أيام، حيث زار في اليوم الأول كنيسة القيامة في القدس، وفي اليوم الثاني انتقل إلى الناصرة في القسم المحتل من فلسطين، خارج الأراضي الأردنية، وزار موقع العشاء السري، وقبل أن يغادر في اليوم الثالث 6 يناير، زار بيت لحم وترأس قداسًا في مغارة المذود في كنيسة المهد..

حلَّت فيروز مع الأخوين رحباني وأفراد الفرقة ضيوفًا على السيد مصطفى أبو غربية في رام الله، وبعد أن رتلت في اليوم الأول على طريق الآلام، رتلت في اليوم الثاني في ساحة باب العمود بحضور وكالات الأنباء العالمية والتليفزيون، وكان من المقرر أن ترتل في اليوم الثالث أمام البابا للمرة الثانية ترتيلة “شوبحو لهو” السيريانية في كنيسة المهد، ولكن الحدث ألغي حسبما نوَّهت الصحافة صباح اليوم الثالث.. عادت فيروز إلى لبنان، وأجرى عاصي حوارًا صحفيًا، يخبرنا فيه عن تلك الرحلة المباركة

أما كيف تم هذا الحدث، فهذا ما يذكره لنا عاصي الرحباني زوج فيروز: 

-كانت زيارة البابا للأراضي المقدسة مناسبة لتنفذ فيروز “النذر” لأن تزور الأراضي المقدسة، كما طلب منا عدد كبير من إخواننا وأصدقائنا للاشتراك في تمثيل لبنان في هذا الاستقبال، وخصوصًا بصوت فيروز باشتراكها بالترتيل خلال سلكه درب الصليب الذي سار عليه السيد المسيح سيرًا على الأقدام..

وجرت اتصالات عديدة بين المسؤولين في عمان والقدس، وبين المسؤولين في الجمعيات المارونية التي ألّفت وفودًا لاستقبال الحبر الأعظم.. وعرضت الفكرة فرحبنا بها رأسًا، خصوصًا وأن فيروز تحفظ ترتيلة أو ترتيلتين على الطريقة “الكاثوليكية” لأن فيروز ليست مارونية.. فهي سيريانية، أرثوذكس، وأنا أرثوذكسي ونشارك الموارنة بترتيلهم كل عام في كنيسة أنطلياس، كما أننا نصلي بها أيضًا.. نحن لا نفرق بين ملة وملة ودين وآخر، فكل الديانات مرجعها واحد..

من أول من فكر في تحقيق هذا الحدث؟

-جميع الأحباب والأصدقاء، ولكن الذين قاموا بتحقيقها هما المنسنيور “يوحنا مارون” والأستاذ “سعيد عقل”..

هل رافقتها موسيقى أثناء الترتيل؟

-رافقتها آلة الأرمونيوم التي عزفت عليها أنا.

والكورس؟ 

-شاركها في الترتيل حوالي مئة راهب من رهبان فرقة معهد الروح القُدُس “الكسليك” بإدارة الأب “يوسف الخوري”.

 

وعدت أسأل المطربة التي تبيّض وجه لبنان في كل مناسبة عن شعورها أثناء تقديمها التراتيل، فقالت:

-الشعور بالرهبة.. تصور أن البرد القارس الذي لم أكن أستطيع تحمله قبل بداية التراتيل، لم أعد أشعر به، وشعرت أنني انتقلت إلى عالم آخر..

قال عاصي:

-وأكثر من ذلك، إنه على الرغم من الهجوم الكبير الذي تعرضنا له عند مرور قداسة البابا، استطاع الرهبان الذين حول فيروز أن يصدوا الهجوم البشري الكبير، والمحافظة على المكان الذي كانت تقف فيه..

وسألت عاصي عن المكان الذي كانت تقف فيه فيروز، فأجاب:

-على طريق الجلجلة، في درب الآلام، في منطقة الجثمانية.. وقد استطاعت فيروز أن تغطي ثلاث مراحل من مراحل الآلام، وهي السادسة والسابعة والثامنة.. وكانت التراتيل تسبق موكب البابا من مرحلة إلى مرحلة، أما فيروز فقد بقيت مكانها واصطف الرهبان على جانبي الطريق، وتوزعت مكبرات الصوت طيلة المراحل الثلاث وبقى يستمع قداسته إلى التراتيل من فيروز طيلة المراحل الثلاث، وكأن الصوت يأتي من الصخور..

وتابع عاصي كلامه بقوله: 

-وما كاد موكب البابا يبتعد وتنتهي فيروز من التراتيل، حتى حُجِزنا في إحدى الغرف هناك ما يقارب الساعتين، دون أن نتمكن من أن نصل إلى السيارات التي أقلتنا إلى “رام الله” وذلك بسبب الجماهير الغفيرة التي تدفقت لتشاهد فيروز.. وما إن وصلنا إلى السيارات حتى وجدنا مظاهرة ثانية باستقبالنا..

ختام (مارس 1968)

لا زلنا مع الأردن وفلسطين.. في مارس 1968، بعد أربعة سنوات من زيارة فيروز للقدس، وبعد عشرين عامًا من نكبة فلسطين، تحدثت الصحافة اللبنانية عن نشيد الفدائيين الذي كتبه الأخوان رحباني وستسجله فيروز ومطلعه:

يا أهل الأرض المحتلة.. يا شجرًا من نارٍ تَلفح

يا مطر النار يطاردهم.. كالخوف يُحَس ولا يُلمَح

تحول النشيد إلى مغناة “جسر العودة” التي سجلتها فيروز مع مغناة “القصة الكبيرة” لصالح الإذاعة الأردنية، وهما آخر الصور الإذاعية التي تسجلها فيروز، بعد أن كانت توقفت عن تقديم هذا اللون مع الأخوين رحباني منذ مطلع الستينيات، ولكن هذه حكاية أخرى.