سمير فريد إن حكى: مغامرة النقد

وائل عبد الفتاح

“كانت 1968 سنة حاسمة في حياتي”.

قال لي سمير فريد في بحر كلام طويل عن حياته، والآن بعد مرور ما يقرب من خمسين عامًا، وبينما رحل سمير فريد إلى عالم مختلف، اكتشفت أن 68 هي أحد أسرار الرغبة وراء الحوار الذي أتى في إطار كتاب تكريمه من المهرجان القومي للسينما (2005). سمير فريد مغامر، يتململ في أحوال كثيرة من الجو العام، ويرى نفسه أبعد قليلاً أو كثيرًا من “المحلي”، ولهذا بدأ النقد السينمائي من عنده تقريبًا، لأنه ابن مسافة ساهمت في تعميقها (68) التي كانت انتفاضة كبيرة في فرنسا، ارتفع فيها صوت الشباب ضد شيخوخة النظام السياسي والاجتماعي، لكنها اتسعت عن أن تكون مجرد حركة احتجاج شبابي، ربما لأنها ظلت مخلصة لجانبها الثقافي فلم تُهزم تمامًا مع إحباطها السياسي، ومثل الشظايا أعادت تكوين صورة العالم عن نفسه، ولذلك كان وجودها في الثقافة والفن والمجتمع أعمق.
وإعادة تقديم حواري المطول جدًّا مع سمير فريد، يبغي أكثر من مجرد إحياء دور ومكان من خاض “مغامرة النقد”، وبالتحديد معرفة أكثر عن ذلك العالم الذي يكاد أن يكون شبحيًّا، في ظل لحظة عنيفة تفرض الوهم الثقيل بأن الزمن يبدأ وينتهي عندها!

قبل الحوار

“نعم أنا فلاش باك”!

لم يعترض سمير فريد على سؤالي.. بل بدا فخورًا أنه يستعيد لحظات براقة من زمن يراه جميلاً. وبعد أن أغلقت التسجيل أكمل إجابة السؤال “كل من وصل إلى الستين”.. لا بد أنه يعيش أيام فلاش باك. هل الفكرة تتعلق فقط بالعمر؟ ربما كان ذلك ملمحًا عموميًّا عند أعضاء نادي الستين وما فوقها، لكنها عند سمير فريد لها تفاصيل مختلفة تخصه وحده. أو هو وجيل رأى أنه كان على مقربة من تغيير العالم.. وأفاق من الحلم الكبير الفخم على كابوس مؤلم في ظهيرة يوم 5 يونيو 1967.لن يتحدث سمير فريد ولا أحد من جيله إلا وتسمع ذكرى تلك الظهيرة الحارقة. هي تاريخ خاص ولحظة لا يمكن المرور عليها، هزيمة عسكرية، وضحايا من رفاق المدرسة والشارع وعلامة محفورة في الوعي وذاكرة المشاعر الساخنة.
سمع
ت من سمير فريد تعبيرًا جديدًا “فترة ما بين الحربين”. ويقصد السبع سنوات بين يونيو 1967 وأكتوبر 1973 وبينهما كانت إيقاعات ثورة شباب أوروبا في مايو 1968 تجد صداها في تمرد شباب مجروح في القاهرة، و”بين الحربين” كانت فترة القلق والارتباك والتمرد أيضًا، والخوف. البحث عن مكان والتمهيد للدخول في غيبوبة ما بعد توقيع اتفاقية فض الاشتباك الثاني. هكذا يحكي سمير فريد وجيله تاريخه الشخصي متقاطعًا مع تاريخ عام وحدث سياسي. تكلمه عن السينما فيقودك إلى السياسة. تشير إلى عبد الناصر فيسحبك إلى حكاية عن صلاح أبوسيف أو توفيق صالح. ومع أنه يكتب مقالات سياسية تلعن حكم جنرالات يوليو 1952، لكنه واحد من مدمني النوستالجيا إلى الستينات.

1

“عدت إلى مصر يوم 27 مايو. وجدت الدبابات في مطار القاهرة”، هكذا حكى سمير فريد عن عودته من أول مهرجان (كان) يحضره. مايو 1967. لحظة الخروج من القاهرة إلى المدينة الممتدة على شاطئ الريفييرا.
كانت لحظة اتساع المشهد لشاب 23 عامًا لم يسافر خارج القاهرة، ولم يعرف أبعد من خطوط مسار طالب مجتهد في معهد المسرح (بالزمالك) ثم صحفي بالجمهورية (بشارع نجيب الريحاني/ وسط البلد).
هي صدمة (كان)؛ السينما. وأوروبا؛ جنة الثقافة والحرية. و”اتساع الدنيا”. اتسعت الدنيا بسبب السينما. ولمس الشاب المشحون بالأفكار النبيلة وتصاوير “المدن الفاضلة” أطراف عالم لم يكن يحلم به.
عاد قبل الهزيمة بأسبوع تقريبًا “ما إن وصلت إلى منزلي حتى أدركت ملامح الجو العام. وفي اليوم التالي ذهبت إلى الجمهورية وخرجت إلى وسط البلد فوجدت أهرامات من اللافتات تسد عين الشمس كما يقولون. ووجدت عند “البن البرازيلي” في شارع فؤاد ملصقًا للفنان طوغان به حذاء جندي مصري يضغط على رقبة عسكري إسرائيلي.. انزعجت من (الجو العام) وقلت لمحدثي ما هذا الجو الفاشستي فرد على غاضبًا: ذهبت أسبوعين إلى أوروبا وتعود لتتحدث مثل الخواجات وكأنك من عالم آخر.. أنت لم تكن معنا ولا تعرف ماذا حدث في هذين الأسبوعين. لقد تم إعداد كل شيء للقضاء على إسرائيل والانتهاء من هذه المشكلة إلى الأبد”.
حكى سمير فريد الحكاية في مقدمة (دليل مهرجان كان السينمائي 1946 – 2001). ولم يعلِّق عليها. تركها تسخر من مفارقة النشوة الذهنية بانتصار لم يتحقق والألم التراجيدي لهزيمة أودت بحياة نظام ونخبة لا زالت تترنح من جرح نرجسي عميق الأثر. لم يكن سمير فريد من مثقفي البروباجاندا الناصرية كما تابعت في كتاباته والحكايات عنه. كما لم يكن من مثقفي الهزائم والنكبات الذين تصيبهم عقدة الذوبان في الأقوى. فيتبنون كل ما يفكر به. تتحول معارضتهم للأوضاع في المجتمعات العربية إلى كراهية وإحساس بالدونية ورغبة في الالتصاق بالآخر المنتصر المتفوق. هؤلاء أيضًا هم مروجو فكرة تقول بأنه مادام المجتمع صعب أن يتغير فالحل هو موت المجتمع. إنهم أقرب إلى جماعة سرية تمهد للتغيرات الجديدة في المفاهيم دون التفكير في أصل هذه الأفكار الجديدة ولا نقد أصحابها. إنها في الغالب عملية استبدال الشعارات القديمة بشعارات جديدة أكثر غموضًا تحمل نفس المواصفات العمومية وتفرض بالقوة أو بسلطان الوجود في منابر إعلامية رسمية والاختلاف مع هذه الأفكار تهمة في حد ذاته والخروج عليها: إرهاب وتطرف. ربما لأن أغلب المؤمنين بهذه الأفكار شعروا بهزيمة قاسية لأفكارهم القديمة فقرروا تجربة الأفكار المنتصرة في العصر الجديد على طريقة اتباع التعليمات الإرشادية وهم الآن يطالبوننا بتصديقها والإيمان بها دون التفكير أو فتح الطريق أمام نقد هذه الأفكار أو طريقة انتصارها. سمير فريد لا هذا ولا ذاك؛ إنه في موقع بين الاثنين. يساري (على طريقة جودار كما قال لي)، لم يلتزم قط بحزب تحت الأرض ولا فوقها (كما أكد لي). ولم يشتغل بالسياسة وإن كانت السياسة تشغله وتسيطر على عمله. لم يدخل في جوقة عبد الناصر. لكنه لم يقف في صفوف خصومه. ثم أصبح يلعن الماضي الذي حكمه عبد الناصر. لكنه ليس في جوقة الهزائم. يستفز الأصدقاء في جلسات خاصة ويقول “إننا قادمون” مشيرًا إلى الحلم الأمريكي. يقولها ويضحك، كأنه ينتقم من غريزة التمسك بأفكار ماتت أو تعيش الآن في القبور مع أصحابها. يقولها ويسير بنشوة مثل جنرال منتصر في لعبة بعيدة عن ساحة المعركة.
رأيت المشهد أكثر من مرة. وفكرت أن هذه حيلة نفسية للخروج من بئر الهزيمة. هو مثقف من جيل تربى على امتلاك الحقيقة المطلقة. يتحرك المثقف من منصة العارف الذي يريد توصيل شيء للناس الهائمين في الشوارع. إنهم من عصر البحث عن “الجماهير” تلك “الأسطورة الرومانسية” التي تغنَّت كثيرًا بصوت وقلب وعقل الجماهير وهي أسطورة انتهت إلى صراع يدور حول السيطرة على الكتلة العمياء التي يقودها ديكتاتور مثل صدام إلى انتحار وفوضى. ويقودها أشباهه بعد الحرب إلى مصير غامض. مشروع أنبياء يبنون مدينة فاضلة. يبنونها بمعادلة ذهنية.. هي الآن تتجه إلى القوة المطلقة المنتصرة. هناك جنة الليبرالية والحرية. موديل الحياة السعيدة. معادلة ذهنية تكتمل عناصرها عند سمير فريد بتوجيه ماكينة الحماس إلى “ثقافة الأربعينات” نوستالجيا قريبة تحقق التوازن مع الانبهار بالجنة البعيدة.

 

2

كان هذا هو الهدف ولا يزال. واحدة من مزايا سمير فريد أنه يغرق في تفاصيل الموديل. ويلتقط طريقة لتنفيذ الموديل بخبرة محلية. ولا أعرف متى كتب سمير فريد مقدمة كتابه “مدخل إلى تاريخ السينما العربية” (مكتبة الأسرة) 2001 لكنها تحمل قلق العلاقة مع الموديل.. يكتب “إن عصرنا هو عصر الغرب. بمعنى أن الحضارة الغربية الحديثة هي المثل الأعلى لكل شعوب العالم، ولكن هذا لا يعني الاستسلام لما يطلق عليه في علم الاجتماع بالروح الأسيرة”. و”الروح الأسيرة” تعبير يرتاح سمير فريد إلى تعريف غالب هلسا له “مصطلح تم إطلاقه على حالة من حالات المثقفين في الشرق عندما يتفاعلون مع الحضارة الغربية، وهي حالة اضطراب في الوعي لأنه لم يتم استيعاب الأفكار والرؤى الغربية بشكل جدلي وخلاق.. أي يكون هناك انفصام عميق بين الأفكار الواردة بكلم بهرجها وبكل الدعم الحضاري الذي يساندها وبين الحياة الواقعية بتخلفها واستنادها إلى منظومة متخلفة من القيم”.
هروبًا من هذه الروح الأسيرة كانت طريقة سمير فريد هي إقامة كيانات تنفذ بخبرة محلية، مهارته كانت في التقاط طريقة العمل وكان يترك للعمل اكتشاف “خصوصية” محلية. هكذا جاءت مشاريع مثل اتحاد نقاد السينما (عندما اكتشف في بيروت أن هناك اتحادًا لنقاد السينما في باريس)، وصحيفة أسبوعية للسينما (على غرار “فارايتي” اليومية في هوليوود) ومهرجان قومي للسينما (كما رآه في المجر وألمانيا). وإذا أضفنا فورة حماس دائم للجيل الجديد في الستينيات. جيل معهد السينما. وأفكار ثورات مايو.. 1968 سيضاف إلى القائمة جماعة “السينما الجديدة” وأول عرض لأفلام خريجي الدفعة الأولي من معهد السينما.
“ثلاثة أفلام لطلائع معهد السينما” هذا عنوان الدعوة لمشاهدة أفلام ممدوح شكري وناجي رياض ومدكور ثابت خريجي الدفعة الأولى (1963). أدار الندوة وقدم الأفلام الناقد الشاب سمير فريد؛ صاحب فكرة العرض العام، ومفجر قضية طلاب المعهد، لأن الأفلام الثلاثة لم تحظ بفرصة العرض إلا بين جدران الاستوديوهات أو في قاعة العرض بمعهد السينما نفسه.هذا ما كتبه مدكور ثابت عن ليلة من ليالي شهر مايو 1968 في قاعة العرض بالمركز الثقافي التشيكي بشارع 26 يوليو بالقاهرة. كتبها بإحساس البشارة، فقد شهدت هذه الليلة مولد جيل جديد في السينما المصرية.

 

3

مهارة سمير فريد في التأسيس لا ينافسها سوى قدرته على الاعتراف

أول اعتراف قاله لي في الحوار “أنا مسؤول عن تسييس السينما”. والمقصود أنه أعطى قيمة لأعمال أكبر من قيمتها، لأنها لاقت هوى سياسيًّا، أو لعبت على أفكار من العيار الثقيل. والاعتراف الثاني أنه ساهم عبر موقع ثابت في صحيفة شعبية مثل “الجمهورية” في ترويج أفكار عن السينما مثل “سينما المثقفين”، التي تلعب على فكرة غامضة هي “المتعة الذهنية”، لعبة أقرب إلى تصور بأن الشطرنج هو دليل الذكاء وأن الذهن المحض أرقى من الحس. وهي مصطلحات نفت من السينما مخرجين مثل حسن الإمام، وربما كمال الشيخ واحتقرت متعة الحواس. واستسلمت لفكرة تبعية السينما لمؤسستين كبيرتين هما: السياسة والفكر.
سمير فريد يعترف الآن بما جنته المصطلحات على السينما؛ وجَّهت الذوق، وأعلت من مزاج الانبهار الذي لم ير في أعمال تاركوفسكي أو برجمان وغيرهما الأساطير فوق النقد. ليس هذا فقط، فلا تتحقق المتعة دون اتباع الكتالوج الخاص بها.

4

هذه مغامرة النقد
في الستينيات لم يكن هناك نقد سينمائي. كانت الكلمة غريبة على أوساط الفن والصحافة. يوجد محرر فني مشغول بالأخبار الفنية أو الدعاية للأفلام.. النقاد هم كتاب يكتبون انطباعات عابرة عن الأعمال الفنية. لم يكن لفكرة النقد السينمائي المعتمد على منهج مكان في الصحافة العادية. وسمير فريد اختار “الصحافة” (تأثرًا بالأب.. أو هيامًا برموز مهمة في حياته كانت تكتب في الصحافة بشكل منتظم).. اختيار أوقعه بين سطوة المؤسسات السياسية الكبيرة (الصحافة ظلت تحت سيطرة مباشرة للقوى الجبارة في الدولة.. مؤسسات وأفراد لهم النفوذ والسطوة). وبين مزاج لم يتعود على فكرة نقد الأفلام (الصحافة الفنية كانت مغرمة بتتبع أخبار النجمات والتسلي بالنميمة فقط). كما كانت السينما في أول عهدها بالقطاع العام. أي أن الدولة دخلت بشكل مباشر في ملعب إنتاج الأفلام. في الوقت الذي يتخرج فيه جيل جديد بأفكار متمردة ومشاغبة ويحتاج إلى ملاعب مختلفة. وموقع الناقد بين كل هذه التقاطعات في مرمى كل المؤسسات (الدولة. شركات الإنتاج. الجمهور. نظام النجوم). والنقد جزء من الصحافة. ومهمة الصحافة توجيه الجمهور. ومع متورط في اللعبة كلها (اللعبة بمعناها الإيجابي لا بالمعنى الذي يقربها من المؤامرة) مع متورط مثل سمير فريد كانت المغامرة أصعب. فالذوق الشخصي.. والرغبات العارمة.. وهوس الأحلام النبيلة.. يتحول إلى “فكرة عامة” و”عنوان” و”شعار”. وهي لعبة ترضي نرجسية المثقف. وتضعه في نفس الوقت على حافة القلق. تجعله سلطة.
حتى إن الخصوم اعتبروا سمير فريد ضمن “عصابة الأربعة” مع علي أبو شادي وكمال رمزي وأعتقد هاشم النحاس. ووصف “عصابة الأربعة” كان شهيرًا في السياسة في الصين بعد ماو تسي تونج زعيمها الأسطوري. والمثير أن فكرة العصابة تعني بعيدًا عن حقيقتها أو أنها اتهامات في إطار التنافس بين أبناء الكار، تعني في الخلفية أن النقد سلطة يوجد من يتصارع عليها، وكان في هذا جزء من الحقيقة، ولا يزال!

5

سمير فريد ابن مدينة
عاش في العباسية أول ملاعب الطبقة الوسطى في القاهرة، أبوه صحفي ومن عائلة ملاك أراض انتقلت مواقعها مع زهوة فكرة التعليم وتكوين طلائع “الأفندية” في الفترة التالية بعد ثورة 1919. ثقافته من البيت والمدرسة. ثقافة رفيعة مترفعة عن الثقافة الشعبية. ثقافة العوام. والهوامش البعيدة عن الطبقة الوسطى.

وهو ابن مرحلة أقامت أسوارًا عالية بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية قدست الأفكار النظرية والمجردات.. واستهانت بكل ما هو إبداع شفاهي. ومن خيال تلقائي له جماليات لا تندرج تحت نظريات ومناهج. يحب سمير فريد الكلام عن المثقفين الكبار؛ أساتذته. أهمهم بالنسبة له محمد مندور أستاذ النقد الشهير والسياسي الذي اختار موقع يسار الوفد في “الطليعة الوفدية”. مندور قاد سمير إلى مكانين: في الدراسة (قسم النقد) وفي السياسة (يسار الأحزاب الكبيرة). كما قاده أنور المعداوي، وكان مدرسًا في مدرسته (خليل أغا الثانوية) إلى أول تفاصيل منهجه في النقد. لا يفصل بين العمل وواقعه الاجتماعي. فهناك في جلسة المعداوي على مقهى (إنديانا) في الدقي. كان التلاميذ المختارين يسمعون كلامًا ساحرًا، فهو أستاذ المدرسة الخارج عن المنهج. وهو قائد الوعي القلق إلى دروب جديدة مثيرة للدهشة. وبقي من هذه الدروب: إعجاب بفكرة المثقف العارف بكل شيء.

 

6

المثير في سمير فريد الآن طريقته في الحكي؛ لديه مخزون هائل من الحكايات. لا ينتظر فرصة لاستخدامها، بل هي حاضرة دائمًا في كل موقف أو حدث. مع كل مشهد من فيلم. وهي حكايات أغلبها خاصة. هو طرف فيها. لكن المميز طريقته في الحكي؛ طريقة هادئة لا تعتمد على التشويق ولكن على طرافة الحكاية وندرتها وربما اعتقاد سمير فريد بأنه المالك الوحيد للحكاية. وزائد كل هذا تبدو الحكايات موجهة أي تخدم فكرة يلح عليها في اللحظة.
وبعد انتهاء الحوار حكى لي حكاية أعطاها عنوانًا خاصًا “الحشيش بتذاكر”، وهو نفس عنوان مقالته عن فيلم “الباطنية” يومها تعطلت شوارع وسط البلد بسبب نادية الجندي بطلة الفيلم. قابل سمير فريد ضابط شرطة متبرم من تعليمات إغلاق الشوارع وتغيير حركة المرور. وحصل منه سمير فريد على نسخة من التعليمات مطبوعة بطريقة “الاستنسل” وكانت هذه بداية المقال الذي رفض محسن محمد رئيس تحرير الجمهورية نشرة بحجة أن نادية الجندي غاضبة. لكن كيف عرفت نادية بالمقال وهو لم ينشر! قال محسن محمد “ربما تكون أنت الذي سربته لها”.
خرج سمير فريد ليقابل في طريقه مصطفى محرم (مؤلف الفيلم) ومحمد مختار (المنتج) قال لهم “هكذا تمنعون لي مقال في الجمهورية” أنكر السيناريست والمنتج. وقالا “نحن لم نقترب منك.. لقد منعنا مقال لناقد آخر قدم لنا سيناريوهات ويريد أن يبتزنا لننتجها له”. صبَّ سمير فريد لعناته على الجميع وقرر نشر المقال على أوسع نطاق أرسله بالفاكس إلى أكثر من صحيفة عربية. وسافر خارج مصر في مهرجان سينما. نشرت الصحف المقال باعتباره “مقالاً ممنوعًا في الجمهورية”، فغضب محسن محمد وقرر أن يظهر سمير فريد كما لو كان مخادعًا، فنشر المقال لينفي فكرة منعه، وعندما عاد سمير فريد من السفر استدعاه وقال له “أنت لويت ذراعي.. ومن اليوم أنت موقوف عن الكتابة”. وظل ممنوعًا من الكتابة من سبتمبر إلى سبتمبر تال حيث نقل في هوجة السادات إلى مصلحة الاستعلامات. الحكاية يتخللها إيضاحات عن أبطالها. وهم أبطال دائمون في حكايات سمير فريد. هذا أفرغ الجمهورية حيث كانت ملعب كبار المثقفين. وذاك مارس عاداته في التخديم على النجوم. يحكي ليس بمنطق نميمة المقاهي. بل نميمة صالونات تكشف الكواليس وتُخدم تمامًا على رأيه في السينما والسياسة.

7

في بيته لن تهرب من الملفات المرتبة، فهذه نتاج محاولة طويلة في كتابة فيلموجرافيا للسينما العربية. محاولة واجهت صعوبات يشاركه في حلها بدر الديب؛ الأديب والكاتب المعروف الذي يسميه سمير فريد “الراهب” وهو صاحب الاقتراح منذ أن كان يعمل في الجمهورية. ولن
تهرب أيضًا من الغرام بالترتيب. كل شيء مرتب من سنوات. ذوق البيت لا يزال في مرحلة السبعينيات. والمكتبة ممتدة في أرجاء البيت كله، والإضاءة تشبه أضواء المكاتب الرسمية. وهو يستقبلك بالبدلة، ويعد القهوة بطريقة الهواة لا الخبراء المحترفين في الصبر على ذوبان حبيبات البن في الماء. كل شيء موثق حتى محطات غرامه بالسينما. لفت نظري برواز على الحائط يحوي الصفحة الأولى لصحيفة “السينما والفنون” والمانشيت الرئيسي “سقوط مراكز القوى في الإعلام والثقافة”. ابتسم عندما لاحظ اهتمامي “هذا المانشيت أغلق الجورنال”. وكانت المرة الأولى التي أعرف بوجود صحيفة أسبوعية متخصصة في السينما. ولم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة. المفاجأة كانت في الود الذي استقبل به سمير فريد مشاغباتي؛ بداية من ارتباك المواعيد، حتى عدم احتفائي بفكرة التكريم التقليدية. فأنا أرى أن أفضل تكريم لشخص في ملعب الثقافة والفنون هو أن تحاوره بجدية عما فعل. وأن تختلف. أو تتفق. أو تتمرد على كليشيهاته. وتتحمس لأفكارك غير الناضجة بعد. وهذه لعبة لطيفة. هذا هو التكريم الحقيقي.

الجيزة، الهرم. أبريل 2005

إعلان الثورة من سينما ديانا
جريدة السينما والفنون

نبدأ بصحيفة “السينما والفنون” في أي سنة صدرت؟

سنة 1977. الفكرة جاءت من “فارايتي” التي كانت بالنسبة لي اكتشافًا مدهشًا.. صحيفة يومية للسينما تصدر من سنة 1905 في هوليود. وعرفت أيضًا أن هناك صحيفة يومية أخرى في أمريكا هي “هوليود ريبورتر”، وعرفت بعد ذلك أن في الهند أيضًا صحف يومية عن السينما. ففكرت في صحيفة أسبوعية للسينما في مصر على أمل أن تكون يومية في المستقبل.
 كان عبد المنعم الصاوي رئيس دار التحرير ورئيس تحرير الجمهورية حيث أعمل، وأصدر في 1976 صحيفة “الكورة والملاعب” الأسبوعية، فاقترحت عليه في نفس العام إصدار صحيفة “السينما والفنون”. قال لي ولماذا لا تكون “السيما والفنون”؟ قلت إني وغيري من النقاد والسينمائيين نكافح من أجل أن تصبح “السيما” “سينما”، أو بالأحرى حتى تعامل السينما كغيرها من الفنون. وافق وصدرت الصحيفة في 3 يناير؛ أسبوعية كل يوم اثنين، وكان الاثنين آنذاك موعد تغيير برامج دور العرض السينمائي، وليس الأربعاء كما هو الحال الآن.

كانت 1977 سنة صعبة؟
 صعبة جدًا. بعد صدور “السينما والفنون” بأيام قامت تظاهرات 18 و19 يناير. وفي نهايتها زيارة السادات لإسرائيل. والصحيفة أغلقت في سبتمبر في إطار ما أغلق من مجلات وصحف أهمها “الطليعة”. التي كان يوسف السباعي وراء إغلاقها وكذلك “السينما والفنون”. وأصبح الصاوي وزيرًا للإعلام بعد شهرين من صدور “السينما والفنون”، وتولى محسن محمد مكانه كرئيس لمجلس إدارة دار التحرير (ورئيس تحرير الجمهورية). قال لي بصراحته المعهودة: إذا كنت تريد استمرار “السينما والفنون” لا بد أن يرضى عنها يوسف السباعي. قلت: يوسف السباعي في “الأهرام” ونحن في “الجمهورية”. فرد: أنت هتستعبط. يوسف السباعي هو الصحافة كلها. يوسف السباعي هو يوسف السباعي.

وذهبت إليه؟
عقدت اجتماعًا مع كتاب الصحيفة، وقلت لهم ما حدث، وأن رأيي الذهاب لمقابلة يوسف السباعي لأعرف ما الذي يغضبه حتى تستمر الصحيفة. كانت “السينما والفنون” حلمًا كبيرًا وتحقق. حلم جيل كامل، فيها التقت كل الأجيال من محمد دوارة وأحمد كامل مرسي وكامل زهيري وعبد الفتاح الجمل إلى أحمد الحضري وفتحي فرج وهاشم النحاس وأحمد راشد وعبد الحميد سعيد ويوسف شريف رزق الله ومحمد كامل القليوبي وعلى أبو شادي ويسري نصر الله وكمال رمزي. الجميع ولا أريد أن أنسى أحدًا. وليسامحني من لم أذكرهم.. المهم ذهبت إليه في الأهرام، وسألته ما الذي يغضبه من الصحيفة، فقال: مش معقول أبقى يوسف السباعي وأصحى يوم الاثنين وأشوف الصحيفة مثل أي قارئ، وهي عن السينما وعن الفنون. كل الحكاية كلمني في التليفون قبل الطبع. وأديني فكرة. قلت: لا مانع.
ورويت ما جرى لكامل زهيري، فقال لي: هو لن يقول لك شيئًا في المرة الأولى وفي المرة الثانية، لكن في المكالمة الثالثة سوف يملي عليك ما تنشره. واستنكر كامل زهيري ألا أدرك ذلك، فقلت: إذن لن أتصل به أبدًا. وبالفعل لم أتصل به، وتدهورت أحوال الصحيفة مع الإدارة، حتى أوقفت فجأة في سبتمبر بعد العدد 35.

كيف حدث ذلك؟

كان العدد 36 جاهزًا للطبع، وفجأة اتصل بي عبدالحميد حمروش عضو مجلس الإدارة المنتدب واستدعاني إلى مكتبه، وكانت علاقتنا ممتازة وأخبرني بأن الصحيفة أوقفت! كان إيقاف “السينما والفنون” صدمة كبيرة لي ولجميع من ينشرون فيها ويعملون بها. مع صدورها كان اسمي على الترويسة المشرف على التحرير، ومع بداية الأزمات مع العدد 28 أمر محسن محمد أن يكتب فوق اسمي في الترويسة رئيس التحرير. قلت: هكذا من دون قرار؟! رد: نعم لأن المقصود ليس الحصول على امتيازات مادية أو مالية، بل لأن قانون المطبوعات ليس فيه المشرف على التحرير. بل إنني سأخصم الـ 40 جنيهًا التي أضيفت إلى راتبك بعد صدور الصحيفة. وهكذا تصبح أول رئيس تحرير لا يزيد راتبه بل يخصم منه. ألا تريد دخول التاريخ؟ ادخل التاريخ!
لم أكره محسن محمد قط كما يمكن أن يتصور البعض، بل أحببته ولا زلت. كنت أشعر أنه لا يفعل ذلك عن قناعة داخلية. ذات يوم كان يقرأ مقالاً للقليوبي، وأراد أن يحذف منه، واعترضت، فعلَّق بجملة ساخرة لا زلت أذكرها “إنكم تكتبون وتتصورون أن التاريخ واقف لكم في شباك المطبعة”!
وفي مايو 1977، في أثناء مهرجان كان قال السينمائي الإسرائيلي مناحم جولان، وهو صهيوني متطرف واسم عائلته ليس جولان، بل استخدم هذا الاسم لأنه اشترك في احتلال الجولان في حرب 1967، إنه سوف يذهب إلى القاهرة بالسيارة قبل نهاية العام؛ يقصد 1977، وقد علقت على هذا التصريح في افتتاحية “السينما والفنون”، وقلت ما معناه “أبعد من شنبك”. ولا زلت أذكر أن محسن محمد بعد أن قرأ الافتتاحية قبل الطبع صمت. فسألته: هل هناك مشكلة؟ رد: لا توجد مشكلة، سينشر المقال كما كتبته، ولكني مندهش من ثقتك الشديدة في نفي ما قاله جولان. وقد تذكرت هذا الحوار عندما ذهب السادات إلى إسرائيل في نوفمبر، وأصبح متاحًا بالفعل أن يأتي جولان بالسيارة للقاهرة قبل نهاية العام! لم اسأله عن سر التنهيدة الطويلة، وابتسامة السخرية السريعة، تركته يكمل.
قلت لعبد الحميد حمروش: الصحيفة جاهزة للطبع، وها هي البروفات النهائية لكل الصفحات. قال: جاءني تليفون وقال ما تطلعش. تتوقِف. قلت: ولكن من الممكن أن يقال غدًا إنها لم تصدر لتقصير مني.. هذه مسئولية. وبعد إذنك سأذهب إلى قسم الشرطة لإثبات الحالة فقط، طالما لا يوجد أي قرار مكتوب، فلماذا أصبح مقصرًا من الناحية المهنية وأنا لم أقصِّر.. وبالفعل ذهبت إلى قسم الشرطة، وقدمت البروفات وأثبت الحالة. من ناحيته قرر محسن محمد إعدام كل مرتجع الصحيفة، وإضافة ما أنفق عليها على حسابات الجمهورية وكأنها لم تكن. كأنها لم تصدر أساسًا. ورفعت دعوى أمام القضاء ثم تنازلت عنها 1981.

لماذا؟
مُنعت من العمل في الصحافة، ونقلت إلى هيئة الاستعلامات فيما أطلق عليه محسن محمد في مانشيت الجمهورية ثورة سبتمبر. وقيل لي إن الممنوعين يمكن أن يتم اعتقالهم في أي لحظة. وكان والدي يعاني مرض الموت ولم أشأ إيلامه باعتقالي. تنازلت عن قضية “السينما والفنون: وقضية أخرى لمنعي من السفر عام 1980.

بعد كل هذه السنوات هل عرفت لماذا أوقفت الصحيفة؟

أعتقد أن السبب هو يوسف السباعي فقط. كان لا يحب أن تصدر أي مطبوعة في مجالات الثقافة أو الآداب والفنون خارج سيطرته. أحدهم قال في تأبينه في نقابة الصحفيين جملة لا أنساها “كان رحمه الله (أي السباعي) يحب أن يكون زفير لكل شهيق مثقف عربي”. يومها همست لمن كان بجواري أن هتلر نفسه لم يخطر على باله هذه الفكرة. ولكني أيضًا لم أكره شخص يوسف السباعي. لست ملاكًا ولكن هذا ما حدث. كرهت النظام الذي أفرزه. كان الكثير من الناس يتحدثون عن طيبته وكرمه وعطفه على البؤساء، واعتبره ثروت عكاشة في أحد كتبه رمزًا للفارس الكامل، ونشر صورته وهو في الزي الرسمي لسلاح الفرسان. أتكلم عن تجربتي الشخصية معه، كان يريد السيطرة بطريقة مخيفة، وكنت خارج السيطرة.

كم كان عمرك وقتها؟
أنا من مواليد 1943..

يعني 34 سنة..
لا أجيد الحسابات. كل ما أعرفه أن السباعي كان يريد السيطرة على كل ما يتعلق بالثقافة. وكان موقفه من “السينما والفنون” لا يرجع إلى شخصي فقط، بل لأنها كانت ذروة حركة سينمائية كبيرة بدأت 1968، وكان ضد هذه الحركة، ويعتبرها حركة “شيوعية”. عام 1968 تأسس نادي سينما القاهرة، وتأسست جماعة السينما الجديدة. وعام 1972 تأسست جمعية السينمائيين التسجيليين وجمعية نقاد السينما المصريين. وكان مقر كل هذه الجمعيات مركز السينما في شارع شريف، وقد أغلقه يوسف السباعي عندما أصبح وزيرًا للثقافة عام 1974 بسبب هذه الجمعيات، مع أنه كان مقرًا مؤقتًا لها لأنه مقر حكومي.

وجمعية كتاب ونقاد السينما؟
 لا، هذه جمعية أسسها كمال الملاخ بدعم من يوسف السباعي عام 1974، وكان أول رئيس لها، في مواجهة جمعية النقاد، لتحل محلها باعتبارها جمعية النقاد الشيوعيين. كانت الشيوعية أسهل طريق لإغلاق أي شيء وكل شيء، مع أن كل الحركة السينمائية الكبيرة في فترة ما بين الحربين (1967 – 1973) لم يكن فيها غير شيوعي واحد.

من هو؟

فؤاد التهامي.

ولكنكم كنتم على اليسار..

طبعًا وبالتأكيد.

ضمن قوس “اليسار الثقافي” في الصراع مع “ثقافة السلطة”، هل يمكن أن نقول ذلك؟

بالتأكيد. لم تكن الحركة المذكورة قاصرة على السينمائيين، بل تجمع أدباء ورسامين وموسيقيين. لم تكن منفصلة عن جماعة كُتَّاب الغد أو جماعة جاليري 68، بالعكس كانت مندمجة، وكان الجميع يتبنون قضية السينما.

أنا لا أفهم هذا التعبير: قضية السينما. ما المقصود منه؟ يبدو كلشيه يردده كل الناس وكأنهم متفقون على مفهوم له، لكن هذا غير صحيح!
بالنسبة لي كانت قضية السينما في مصر ولا تزال أن يصبح لها مكانها الذي تستحقه في المجتمع وبين الفنون. على الصعيد الرسمي وعلى الصعيد الشعبي. عن النقد السينمائي. ربما أكون أول من وصف نفسه بالناقد السينمائي. كان الشائع هو الناقد الفني، وكان هذا الناقد الفني يكتب عن السينما وعن كل الفنون وغير الفنون. وكان من الشائع أن يكون مدير دعاية للفيلم، بل وينشر اسمه في العناوين (التيترات) مع العاملين في الفيلم. كانت قضيتي، وقضية جيلي، أن يستقل النقد السينمائي كنقد، وأن يستقل عن شركات الإنتاج والتوزيع، وعن النجوم. باختصار أن يصبح مثل نقد الأدب أو المسرح. ولهذا  جمعت مقالاتي في نقد الأفلام التي نشرتها عام 1965 ونشرتها في كتاب عام 1966 حتى يصبح الناقد السينمائي مثل الناقد الأدبي أو المسرحي الذي يجمع مقالاته وينشرها في كتب. وفعلت هذا كل سنة حتى عام 1970. لم أفكر هل هذه المقالات تستحق أن تجمع في كتب أم لا، ولكني فكرت في فرض مساواة النقد السينمائي بنقد الآداب والفنون الأخرى. وعندما دعاني لطفي الخولي للنشر في “الطليعة” طلبت أن يتساوى أجر مقال النقد السينمائي مع مقال النقد الأدبي، واستجاب لي.

وماذا كانت قضية السينما في النقد؟

لقد بدأت وجيل الستينيات من النقاد “الجدد” في عصر سينما المؤلف ولغة السينما. أي أن المخرج ليس مديرًا للبلاتوه بالمعني الحرفي لكلمة Directorبالإنجليزية، وإنما مبدع فرد، وأن لغة السينما ليست تجميعًا من الفنون الأخرى، بل لغة خاصة مستقلة. لهذا وقفت إلى جانب سينما شادي عبد السلام، وسينما سعيد مرزوق في بداياته. وعلى نفس الأسس أعدت النظر في تاريخ السينما المصرية لإعادة اكتشاف المؤلفين في هذا التاريخ. مثل كامل التلمساني. وفي نفس الاتجاه كان اهتمامي بتوفيق صالح. هل تعرف إنني عندما مُنعت من النشر باسمي في “الأهالي” عند صدورها استخدمت اسمًا مستعارًا هو كامل توفيق؛ الاسم الأول للتلمساني وصالح.

بسبب سينما المؤلف فقط؟

ليس فقط. بل إنهما ليسا مؤلفين بالمعنى الدقيق للمصطلح، بل بسبب موقفهما السياسي المعارض وعدم استسلامهما للسائد. كانا متمردين؛ كامل التلمساني من أكبر رموز التمرد في الإبداع المصري في القرن العشرين.

أعتقد أن المرحلة التي تتحدث عنها، أو ما تطلق عليها مرحلة ما بين الحربين هي مرحلة الاشتباك الواضح بين السياسة والفن، خصوصًا أنك كنت في نقطة التقاء وهي الصحافة. هذه المرحلة أفرزت مصطلحات أعتبرها عجيبة مثل سينما المثقفين..

هذه مصطلحات ليست صحيحة..

لكنك أحد الذين روجوا لها..

الحقيقة أن ما حدث، وكما أفهمه اليوم وأنا أتحدث معك، أن ضعف السلطة بعد 1967 أعطى الفرصة لجيل الستينيات الذي أنتمي إليه للثورة على كل ما أوصلنا إلى الهزيمة. كانت سلطة مهزومة ومن ثَم لم تعد مخيفة كما كانت قبل الهزيمة. لا يعني هذا السعادة للهزيمة على طريقة الشيخ الشعراوي أو حسام الدين مصطفى، بالعكس كانت هزيمة يونيو هي المصيبة التي عاش بها جيل الستينيات ويموت بها. بل يموت مبكرًا بسببها. وأنا طالب في معهد المسرح شاهدنا مسرحيات مهمة في المسرح القومي من تأليف عبد الرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي ويوسف إدريس. وكنت وزملائي بعد أن ينتهي العرض نسأل متى سيلقى القبض على المؤلف! كنا نعيش حالة رعب حقيقي. الكلام عن هذه الحالة لا تتصوره أنت ولا الأجيال الجديدة كلها. من عاشها ليس مثل من سمع عنها. من الصعب على أي إنسان أن يتخيل شيء خارج خبراته؛ كالرعب والخوف من الاعتقال. كنا نسمع بين الحين والآخر عن اعتقال محمود شاكر أو لويس عوض؛ أسماء كبرى جدًا. فإذا كانت الجبال تُعتَقل فكيف تشعر وأنت مجرد نملة أسفل الجبال. لم نعلن الغضب إلا بعد 1967. لذلك اشتركت وكل السينمائيين والنقاد في حركة التجديد في تظاهرات الطلبة عام 1968 من إيزافيتش في ميدان التحرير، الذي كان مقر سامي السلاموني، وتحول إلى مقر تأييد الطلبة. وكذلك تظاهرات 1972. أنا تعرفت على حمدين صباحي وأحمد بهاء الدين شعبان في إطار حركة نوادي السينما في الجامعات، وفي إطار الاشتراك في تظاهرات 1972. هل تعلم أن هذه التظاهرات شهدت للمرة الأولى في تاريخ مصر المطالبة بالإفراج عن فيلم “زائر الفجر” الذي أخرجه ممدوح شكري وكتبه رفيق الصبان!

لم تكن بعيدًا عن المزاج السياسي للطلبة..

جمعنا الغضب على معنى ما حدث في 1967 الذي لم تكن  مجرد هزيمة عسكرية لجيل الستينيات. أغلب الجنود الذين فقدوا حياتهم كانوا من ذلك الجيل، وكذلك في حرب أكتوبر. هذا الجيل دفع ثمن الهزيمة والنصر معًا. عندما تقدمت للجيش عام 1965 كانت هناك قُرعة لاختيار المجندين، وتم إعفاء مواليد أول ديسمبر 1943، وكان الختم على جواز سفري (لم يصبه الدور). بعد 1967 أصبح لهذه العبارة معني تراجيديًّا شكسبيريًّا. عدد كبير من زملائي في خليل أغا الثانوية قتلوا في حرب 1967. كنا ندور على عدة بيوت في العباسية للعزاء كل 5 يونيو. وأنا أكره 5 يونيو الآن أكثر من ذي قبل كناقد سينمائي.

ما علاقة الهزيمة بالنقد السينمائي؟

لأن 5 يونيو جعلتني وغيري نؤمن بالشعار الذي رفعه رفاق مايو 1968 في باريس، وهو أن الكاميرا تطلق 24 طلقة في الثانية وليس 24 كادرًا، مما أدى إلى ظلم كثير من المخرجين وكثير من الأفلام. نجيب محفوظ أشار إلى ذلك في حواره مع رجاء النقاش الذي صدر في كتاب عن “الأهرام” ومعه الحق. السينما تساهم في تغيير الواقع، وتساهم في الوعي، لكنها لا يمكن أن تحل محل الحزب السياسي أو المحارب في ميدان القتال. يمكن تفسير المبالغة في الدور السياسي للسينما، ولكن لا يمكن تبرير هذه المبالغة. أشعر بذلك بصفة خاصة إزاء حسن الإمام وحسين كمال. ذات يوم أخبرني السينمائي الفلسطيني الصديق محمد بكري أن هناك دراسة عني وضعها الناقد الإسرائيلي موريس مزراحي بعنوان “سمير فريد ودوره في تسييس السينما في مصر” وقد انزعجت كثيرًا.

لماذا؟

لأنني أفضل أن يكون دوري الأهم الدعوة إلى سينما المؤلف على سبيل المثال.

هل هناك أسماء مخرجين آخرين ظلموا لأسباب سياسية؟

بالتأكيد. حسن الإمام وحسين كمال على سبيل المثال. وأتحدث عن نفسي فقط. نقاد آخرين لم يظلموهم. ومن ناحية أخرى كانت هناك مبالغة مني في تقدير قيمة صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح على حساب مخرجين آخرين عظام مثل كمال الشيخ وهنري بركات. أتذكر الآن عندما ذهبت مع عدد من أعضاء جماعة السينما الجديدة نطالب نجيب محفوظ في مؤسسة السينما أن يعطينا سينما ديانا دون الشروط التقليدية لعرض فيلم “أغنية على الممر” فيلم المعركة الذي أخرجه علي عبد الخالق. وقتها قال نجيب محفوظ بحكمته النادرة “خذوا سينما ديانا، واعرضوا فيها الفيلم حتى لو لم يكن هناك أي متفرج، ولكن هل تريدون أن تهزموا في سيناء وتنتصرون في سينما ديانا”!

مرت دقائق صمت.. ثم قال
كانت فترة عصيبة. أحاول منذ فترة تصحيح ما حدث مني تجاه بعض الأفلام وصناع السينما. أن أرد الاعتبار لأفلام لم أدرك جمالها عندما عرضت للمرة الأولى في تلك الفترة.

الممنوع والمسموح في بيت ليبرالي

هل ارتبطت بتنظيمات سياسية؟
أبدًا.. طوال عمري لم أرتبط بأي حزب..
كيف عرفت اليسار إذن؟
لم
أدخل أي حزب سري أو علني. أنا سارتري النزعة. تربيت وأنا في ثانوي على كتب سارتر المترجمة في بيروت. حفظت (ما الأدب) الذي ترجمه غنيمي هلال، أو على الأقل أجزاء كبيرة منه كما يحفظ القارئ الشعر. كان سارتر وربما لا يزال مثلي الأعلى. وكان شعاره اليسار ضدي واليمين ضدي فأنا على حق.. لهذا لم أنتم إلى أية تنظيمات سياسية، ولكن هذا لا يعني أنه ليس لي موقف سياسي.
كيف أصبح لك موقف سياسي؟
 سعيد الحظ جدًا جدًا في أساتذتي؛ أستاذي الأول كان والدي، الذي كان صحفي يوقع باسم سعيد فريد. وكان اسمه الأول مُركَّبًا (محمد سعيد)، وكان وفديًّا، وفي بيتنا كانت توجد مكتبة كب.
أين كان بيت العائلة؟
في العباسية، في شارع فاروق (الجيش بعد الثورة)، كنا عشرة أشقاء أنا أكبرهم. أذكر أن والدي كان يجمعنا ويقرأ لنا بصوت عال ونحن في الابتدائي والإعدادي. قرأ لنا على سبيل المثال مسرحية توفيق الحكيم “أهل الكهف”، وقال لنا إنها مستلهمة من القرآن الكريم الذي يروي أحسن القصص. وقرأ لنا كتاب “المسيح عيسى بن مريم” لعبد الحميد جودة السحار. وفي مدرسة خليل أغا الثانوية (قسم أدبي/تاريخ) كان أستاذ التاريخ يونان لبيب رزق المؤرخ الكبير فيما بعد، وكان أستاذ اللغة العربية أنور المعداوي أحد أكبر نقاد الأدب منذ الأربعينيات، وهو الذي علمني وأرشدني إلى ماذا أقرأ، فجعلني أقرأ لنجيب محفوظ وأنا في ثانوي، ومنعني من قراءة بعض الكُتَّاب.
كيف؟
قال لي إن هناك كتاب عليك ألا تقرأ لهم إلا عندما تكبر في السن كي تكون لديك مناعة.

مثل من؟
مثل يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وأنيس منصور ومصطفى محمود. لا تقرأ لهم حتى تكبر وتعرف ماذا تأخذ منهم وماذا تترك.
والسياسة؟
يتنا كان وفديًّا، أي ليبراليًّا، ومنذ صغري كنت أشعر بهذا المناخ. كان أبي صحفيًّا برلمانيًّا قبل الثورة، واقتصاديًّا بعدها. كانت صوره في البرلمان مع زعماء الوفد معلقة على حوائط البيت، وخاصة مع فؤاد سراج الدين الذي كان يشبهه. وعلى الحائط أيضًا كانت هناك “مِنَشَّة” من العاج هدية من مصطفى النحاس. وعندما ذهبت إلى المدرسة الثانوية بدأت أسمع عن الاعتقالات وعن الإخوان والشيوعيين. وكان أنور المعداوي يصطفي من الفصل مجموعة صغيرة جدًا منهم أنا ووحيد محب المخرج في التليفزيون، لكي يلتقون معه على مقهى إنديانا بالدقي. وذات يوم سألته “يا أستاذ أنت مع مين.. مين الصح؟”. رد بجملة لا أنساها “أنا مع الذين في المعتقل.. لو المعتقلين يمين أنا يميني ولو كانوا يسارًا أنا يساري”. سألت “ولو كان الجميع في السجن؟”، قال “إذن سأكون معهم داخل السجن”. هذا ما فهمت بعد ذلك أن اسمه ليبرالية. عدم احتكار الحقيقة. وعلى هذا المقهى تعرَّفت إلى رجاء النقاش الذي قدمه لي المعداوي قائلاً وهو يضحك ضحكته المجلجلة “استلمته من البلد، ومثله الأعلى في الشعر محمود غنيم، وأنظر إليه الآن من كبار نقاد الأدب”، وقد ارتبطت مع رجاء النقاش بصداقة طويلة وعميقة، وهو من أحب الناس إلى قلبي رغم اختلاف وجهات النظر في بعض الأمور.. واستمر حظي السعيد جدًا جدًا مع الأساتذة عندما دخلت قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية بالزمالك. لحقت بعمالقة على مستوى القرن العشرين في سنواتهم الأخيرة؛ محمد مندور رئيس القسم مات في مايو 1965؛ وهو نفس شهر تخرجي في المعهد. وصقر خفاجة أستاذ الأدب اليوناني مات 1964. وغنيمي هلال أستاذ الأدب المقارن مات 1966. ويوسف مراد أستاذ علم النفس. ومحمد القصاص. وعلي الراعي. وعبد القادر القط. كلهم علموني وزملائي قيمة الحرية. كان مندور في جلساته مع الطلبة في الحديقة على النيل (مكان مجمع اللغة العربية الآن) يسمي عبد الناصر ساخرًا الذي هزم الأحزاب وحده!


السياسة.. اليسار..
كنت في المعهد أختلف مع محمد مندور لإيمانه بالواقعية الاشتراكية، مع أنني دخلت المعهد من أجله، وعملت في الجمهورية لأنه يعمل بها. كنت أرى أن الفنان لا بد أن يكون حرًا من كل قيد، متأثرًا بسارتر وأنور المعداوي. وكان المطلوب في السنة الرابعة للتخرج أما كتابة مسرحية أو بحث. فكتبت مسرحية شعرية بعنوان “الطوفان” تحت تأثير مسرح العبث، وفيها يرفض نوح إنقاذ العالم من الطوفان. رفض مندور أن يجيزها، فكتبت وفي خلال شهر نوعًا من العناد، بحثًا بعنوان “دلالات الصمت في مسرحية (في انتظار جودو) تأليف صمويل بيكيت”، ناقشه الراعي والقط، وكان مندور يعاني مرض الموت. ذهبت إلى لويس عوض في الأهرام ليساعدني في كتابة البحث.. ومن يومها، وحتى آخر أيام حياته ظلت تربطني به علاقة أبوية وثيقة. رجاء النقاش هو الذي أقنعني بضرورة أن أهتم بالسياسة قدر اهتمامي بالأدب والفن. أما الموقف اليساري فجاء من ممارسة التمرد والمعارضة وخاصة بعد هزيمة 1967.

لا أدري لماذا أشعر بأن ما تقوله إسقاط من اللحظة الحالية على أيامك الأولى؛ أي أنك تعيد قراءة البدايات وفقًا لما تتمناه الآن، وليس بالطريقة التي كنت تعي بها العالم وقتها..

أفهم قصدك.. لا شك أن اللحظة الحالية لها دور في صياغة اللحظة الماضية، لكن هناك وثائق. ارجع على سبيل المثال إلى ما قلته في استفتاء الطليعة “الشهير” حول جيل الستينيات عام 1969. (أخبار الأدب سألت معظم الشخصيات ومنهم سمير فريد نفس الأسئلة بعد 25 سنة). قلت وقتها إن رأسي يدور، ولم أعد أعرف بالضبط موقفي السياسي من العالم.

لماذا؟
كانت 1968 سنة حاسمة في حياتي على كل المستويات. كان فتحي غانم وهو يرأس تحرير الجمهورية قد فتح لي أبواب العالم عندما وافق على سفري إلى مهرجان كان في مايو 1967 قبل شهور من الحرب. لم أكن قد سافرت حتى إلى الإسكندرية أو الأقصر، ولم أكن أعرف الكثير من أحياء القاهرة. خرجت من العباسية إلى كان. وقتها لم يكن يحضر المهرجان آلاف من الصحفيين كما هو الحال الآن، بل عشرات، لذلك فمن يذهب إلى مهرجان كان يحصل على رتبة في النقد السينمائي على مستوى العالم. انهالت الدعوات عام 1968 وكان من بين أسبابها حضوري مهرجان كان 1967.. دعوة من ليبزج وأخرى من طشقند وثالثة من قرطاج. وقمت بأطول رحلة في حياتي حتى الآن، لأن المهرجانات الثلاثة كانت متعاقبة من أكتوبر حتى نوفمبر، كما مررت على باريس.
من ناحية أخرى كان المركز الثقافي التشيكوسلوفاكي قد تحوَّل إلى مركز من مراكز التجريب في السينما والمسرح والموسيقي والفنون التشكيلية بفضل مديره المصري الرسام أحمد فؤاد سليم صديقي العزيز، حتى إنني قدمت فيه الأفلام القصيرة الأولى لخريجي معهد السينما بالجيزة ممدوح شكري وناجي رياض ومدكور ثابت. وكنت من أشد مؤيدي السينما التشيكوسلوفاكية الجديدة، ولذلك كنت أيضًا من أشد مؤيدي ربيع براج عام 1968.
ومن ناحية ثالثة كانت المصادفة قد جعلتني أنشر مقالاتي الأولى وأنا تحت التمرين عام 1964 مع نشر المقالات الأولى لأكثر من 30 كاتب شيوعي كانوا قد خرجوا لتوهم من المعتقل، كنت أعمل معهم في القسم الثقافي، وارتبطت بصداقات عميقة مع بعضهم، وبخاصة أمير إسكندر وإسماعيل المهدوي وعبدالسلام مبارك ومحمد صدقي ومحسن الخياط. وقبل أن أقوم بالرحلة الطويلة راهنت الزملاء الكبار الشيوعيين على أن الاتحاد السوفيتي لن يتدخل في تشيكوسلوفاكيا كما حدث في المجر عام 1956 لأن الدنيا 1968غير الدنيا 1956. فلما وقع التدخل في 21 اغسطس وصل الخلاف مع أحدهم إلى حد الاشتباك بالأيدي. وكنت مع أحمد سليم وآخرين نرعى اعتصام التشيكوسلوفاك الاحتجاجي في قصر المركز ونمدهم بالطعام وأحدث الأخبار. نتيجة للتدخل السوفيتي أرسلت دعوة طشقند إلى السفارة السوفيتية بالقاهرة واعتذرت عن عدم قبولها، لكن استدعاني أحد المسئولين في السفارة وقال لي: إن رفض الدعوة إهانة لموسكو التي تقف مع مصر وإنني لا أدرك أن ربيع براج من صنع اليهود. فقلت له: وحتى لو كانوا يهودًا، هذه الحركة تطالب بألا تكون الاشتراكية على حساب حرية الفرد. وعندما قال: نحن مستعدون لدعوتك إلى براج قبل أو بعد أن تذهب إلى طشقند لترى ما يحدث بنفسك.. شعرت بالحرج، وقلت: من أنا لأرفض بعد هذا الحوار.
تعلمت الكثير من تلك الرحلة، لكنها جعلتني أزداد حيرة على الصعيد السياسي، ومن هنا ذكرت في استفتاء “الطليعة” تعبير (رأسي يدور)! في ليبزج بكى أمامي صحفي ألماني شاب بعد أن أفرط في الشراب في إحدى الحفلات عندما علم أنني ذاهب إلى باريس، وسبَّني قائلاً: أنت الأفريقي الذي هزم اليهود جيوشكم في ست ساعات تذهب إلى باريس، وأنا ممنوع من الذهاب إليها، وهي على بعد خطوات لأنني من ألمانيا الشرقية حيث لا أحد يسافر إلا في مهام خاصة للحزب. وفي موسكو قضيت الليلة الوحيدة التي اعتقلت فيها طوال حياتي حتى الآن في سجن المطار لأنني حصلت على تأشيرة الدخول من تونس وليس القاهرة وجوازي مصري. وعندما قررت السفر في الصباح قدموا لي الاعتذارات المكثفة، ولما أصررت أن أعرف لماذا؟ أخبروني بما سبق. سألت: وما الغريب في أن أحصل على التأشيرة من تونس وأنا مصري؟ فكان الرد: لم يكن هناك أي خطأ، ولكن الموظف المسؤول في المطار رأي أن تحبس للصباح على سبيل الاحتياط! بعد طشقند قضيت عشرة أيام في موسكو مع صديقي العزيز سيد عيسى. وكان يوسف إدريس يُعالج من الاكتئاب في مستشفى الكرملين، والتقيت معه عدة مرات، وفي إحداها شاهدنا طابورًا طويلاً من الشباب في الشارع في عز البرد. فسأل إدريس المرافق: ما هذا؟ قال: طابور مقهى الشباب. سأله: وما طابور مقهى الشباب؟ أجاب: كل اثنين يقضيان عشر دقائق في المقهى. ولماذا؟ لأن عدد المقاهي محدود للغاية.
لماذا؟ لأن الوقت إذا كان مفتوحًا يتحول الحوار إلى السياسة. سأل يوسف: وما المشكلة؟ رد المرافق: يصبح اجتماعًا غير حزبي.. ألا تعرفون، كل مشكلة تشيكوسلوفاكيا من كثرة المقاهي، فهي في براج مثل باريس تمامًا.
التزمنا الصمت، وتحول لون وجه يوسف إدريس إلى الحمرة الشديدة من الغيظ لأن المرافق يعرف العربية، وعندما تركنا أخذ يسب ويلعن. عدت إلى القاهرة ونشرت في شهرية السينما في مجلة “الكاتب” أنني بالمصادفة ذهبت إلى باريس وموسكو وتونس في أثناء احتفالات أعياد وطنية. ووجدت في موسكو صور ماركس ولينين وإنجلز وأعضاء المكتب السياسي للحزب الـ11، وفي تونس وجدت صورة بورقيبة وزوجته، أما في باريس فلم تكن هناك غير أعلام فرنسا. ورويت ما شهدته في الدول الاشتراكية لأستاذي محمد عودة، وهو من أعز وأغلى أساتذتي، تمشينا معًا من الجمهورية في وسط البلد الى بيته في الدقي وأنا أحكي وهو يستمع. وفي النهاية قلت له: هل كان زملاؤنا يُضربون عرايا في معتقل الواحات كي تصبح مصر مثل روسيا؟ وكان رده: أنا أعرف أضعاف ما تعرفه ولكني أصمت كي لا تشمت فينا الرجعية.

ألم تدخل التنظيم الطليعي؟
عُرض على زميلي وصديقي العزيز جلال سرحان دخول هذا التنظيم فلم أصدق أن جمال عبد الناصر  يقوم بعمل تنظيم سري وهو يحكم مصر. ببساطة ولك أن تعتبرها سذاجة لم أصدق. قلت له يا جلال على أية حال أنا في الاتحاد الاشتراكي بالعافية لأنهم يخصمون من مرتبي قرشين صاغ كل شهر اشتراك.

كنت تكتب بحرية في الجمهورية، أعني تعبر عن دعوتك للسينما الجديدة ورفضك للسينما الرجعية.. فهل تعرضت لمشكلات فيما تدعو إليه أو ترفضه؟
المشكلات العادية لأي صحفي أو كاتب له موقف من التجديد. ما لم يكن عاديًّا أنني عندما هاجمت فيلم “أبي فوق الشجرة”، علَّق مفيد فوزي “كيف أهاجم الجماهير التي أقبلت على الفيلم وهي التي اختارت جمال عبد الناصر”. حينها شعرت بالرعب، وأرسلت إليه ردًا نشره، قلت فيه إن روايات أرسين لوبين توزع ألوف النسخ، وروايات طه حسين توزع المئات!
نفس الأسلوب اتبعه حسين حلمي نقيب السينمائيين. كانت دفعات معهد السينما تتوالى منذ 1964 والنقابة تمنعهم من العمل، فلما هاجمت النقابة رد بأنني لا أستوعب مبادئ جمال عبد الناصر. وكتبت ردًّا ونشر الرد. وفي الموقفين لم أتعرض لأي أذى. وفي عهد السادات اتبع حسام الدين مصطفى معي نفس الأسلوب، حتى إنه أرسل للجمهورية ذات يوم برقية نُشرت في الصفحة الأولى بأنني ضد مبادئ الدولة.
حسام الدين مصطفى مندهشًا جدًا بعد ذلك لأنني وقفت معه عند منع فيلمه “درب الهوى”. ووقفت ضد النقابة لأنها حاولت فصله بعد ذهابه إلى إسرائيل.

هل تمردت على عائلتك؟
مرتين؛ الأولى وأنا في ثانوي، كنت أحب الرسم وأكبر اللوحات الفرنسية التي كان ينشرها حلمي مراد في “كتابي” ومنها لوحات عارية. مزق والدي لوحة “الغداء على الشعب” لفرنسوا بوشيه بعد أن ظللت أرسمها بالفحم لمدة شهرين. فغضبت وذهبت عند خالي كامل في المنصورة طوال الصيف لأرسم على راحتي. والمرة الثانية عندما أراد والدي أن ألتحق بكلية الشرطة، كان ابن عم والدي أحمد حسني وزير العدل وابن خالته عباس رضوان وزير الداخلية، وكان دخولي مضمونًا من ناحية ما يُسمى كشف الهيئة، وحاولت إقناع والدي بأنني لا أصلح دون جدوى، وفي يوم الكشف ذهبت إلى سينما سهير!

 

صدفة داخل الترولي باص

أريد أن أعود إلى الأصول

جدي الأكبر الدكتور إسماعيل يسري المُلقب بمؤسس الطب الشرعي في مصر، وهو من أصول تركية.

كتب عنه خالد فهمي صاحب كتاب رجال الباشا..

أرجو أن تُهديني نسخة من الكتاب. كان هناك فرعان في العائلة؛ فرع الأطباء والعلماء وفرع مُلّاك الأراضي، وكان جدي لأبي من مُلّاك الأراضي، لكنه باع كل ميراثه حوالي 300 فدان. وكذلك ميراث زوجته جدتي، وكانت ابنة عمدة بني غريان مركز قويسنا. أما جدي لأمي فهو الشيخ محمد يوسف غنيم من علماء الأزهر من قرية نفرة بالمنوفية أيضًا. عاش جدي لأبي عمرًا مديدًا لم يعمل فيه ولا دقيقة، وعندما استنفد ثروته كان أولاده قد كبروا وعاش مع والدي. توفي وأنا في أولى ثانوي، وكنت أجلس معه كثيرًا وتعلمت منه الكثير لأنه كان مثقفًا ويحب القراءة وعنده مكتبة في بيت القاهرة وأخرى في بيت بني غريان. لكنه مع الأسف لم يرني قط لأنه كان قد فقد بصره. قيل من القراءة في الكتب الصفراء القديمة، وقيل بسبب موت عمي حسن أحد أبنائه بضربة شمس وهو في مقتبل العمر فظل يبكي عليه حتى فقد بصره، أو للسببين معًا. المؤكد أن جدتي انحنت وهي تبكي على ابنها حسن ولم تستطع أن تفرد ظهرها بعد ذلك حتى وفاتها بعد ثلاثين سنة. ولهذا سمى والدي أحد أبنائه حسن، وسميت أنا ابني الثاني حسن، وسمي ابني الأول محمد أول أبنائه حسن.

هل وُلدت في العباسية؟
بالقرب منها في شارع الخليج المصري؛ كان والدي يملك عمارة ورثها عن زوجة أولى ماتت صغيرة. ولم تنجب. وكنا نسكن في شقتين متواجهتين في الدور العلوي. كان هذا الشارع في البداية يطل على خليج، والانتقال فيه بالقوارب مثل فينسيا، ثم رُدِم الخليج من أجل الترام، وهدم الشارع كله لتوسيع الشارع الموازي عام 1955 وأصبح اسمه بورسعيد، فانتقلنا إلى العباسية.

كان والدك يريدك ضابط شرطة.. فهل وافق على التحاقك بمعهد المسرح؟
لم يمانع، بل توسَّط لي عند الدكتور مندور، وكانا صديقين، وعملا معًا في صحف الوفد. قال لي ذات يوم إنه كان يقصد من كلية الشرطة حمايتي من نزق الرسم والأدب والفن!

وهل كان معهد المسرح يحتاج إلى واسطة؟
نعم.. كان مجموعي ضعيفًا في الثانوية العامة، ولكنه يدخلني أكثر من معهد وكلية. وكان معهد المسرح في الزمالك غير معهد الأكاديمية في الهرم في كل شيء. كنت من بين أفراد آخر دفعة في الزمالك ولا يتجاوز عددنا عشرة أو 15. ورغم الواسطة، ورغم تشجيع أنور المعداوي على دراستي للمسرح وقوله إن مندور وبقية الأساتذة في المعهد يستمتعون بالدراسة فيه بعيدًا عن زحام الجامعات، قررت أن أترك المصادفة تختار.

المصادفة؟
نعم.. كان الترولي باص رقم 33 من العباسية إلى الزمالك في أول محطة معهد المسرح، وآخر محطة كلية الفنون الجميلة. وقلت إذا جاءت المحطة الأولى وكان كل الركاب جالسين سوف ألتحق بمعهد المسرح، وإذا كان هناك من يبحث عن مقعد فهي الفنون الجميلة. وعندما جاءت المحطة الأولى كان الجميع جالسين.

هل اخترت السينما أم تركتها للمصادفة أيضًا؟

بدأت أنشر عام 1962 في سنة أولى معهد. نشر لي رجاء النقاش في “الآداب” اللبنانية أول مقالاتي حين كان مراسلها في مصر. نشرت في الأدب والمسرح والسينما والرسم والنحت في مجلات كثيرة دون تخصص واضح.. وعندما عملت في الجمهورية كنت حائرًا، في البداية قال لي حلمي سلام، أول رئيس تحرير عملت معه، لا داعي للتخصص، كن صحفيًّا فنيًّا. وبعد أسابيع قلت له إنني أريد أن أتخصص إما في المسرح أو السينما، وأميل أكثر إلى السينما لأنني متطرف جدًا في رؤيتي للمسرح من الناحية الجمالية، وأجد المسرح في مصر بعيد عن وجهة نظري بمسافات شاسعة. حلمي سلام حسم الأمر، وقال: هناك العديد من المتخصصين في المسرح، ولا يكاد يوجد ناقد متخصص واحد في السينما في الصحافة.

وهل اخترت الجمهورية؟ المعروف أن والدك كان من كبار الصحفيين في الأهرام؟
طبعًا والدي قال لي ما دمت اخترت الصحافة يمكنك أن تعمل في الأهرام، وكانت علاقته ممتازة مع هيكل. لكني قلت له إن الأهرام صحيفة رجعية أما الجمهورية فهي صحيفة ثورية، ويعمل بها كبار النقاد والكُتّاب، وإنني أريد أن أكون بينهم كي أتعلم منهم. وقلت له سوف أذهب إلى حلمي سلام وأقدم له مقالاتي المنشورة وأطلب العمل إذا نالت إعجابه، وهذا ما كان. كنت سعيد الحظ في الأساتذة وفي رؤساء التحرير.

وماذا كان موقف والدك من اختيارك؟
كل ابن يعمل في نفس مهنة والده يواجه بالرفض، لأن الوالد لا يرى إلا مصاعب المهنة أمام ابنه. ولكن والدي لم يرفض، بل كان يشفق عليّ، كان في الحقيقة يشفق على كل الصحفيين وكل الصحافة. هو وكل جيله الذين عملوا في العهد الليبرالي قبل الثورة. كان على سبيل المثال يقول إنه لا يستوعب انتماء الصحفي إلى صحيفة معينة فهو ينتمي إلى المهنة. وإنه قبل الثورة كان الصحفي الذي يقضي في صحيفة واحدة 6 شهور هو الصحفي الفاشل، فهذا معناه أنه لا يلفت نظر أحد لينتقل للعمل عنده. كأنه كان من عالم آخر. وعندما عرف بصدور قانون تنظيم الصحافة تساءل ساخرًا “وهي الصحافة كانت اشتكت من قلة التنظيم”!

أنا أريدك أن تركز على فكرة المدينة. الجو الذي نشأت فيه.. يصعب تخيل ناقد سينمائي نشأ في قرية.. السينما بنت المدينة..
فعلاً أول مرة ذهبت فيها إلى القرية ربما بعد تخرجي في المعهد. كنت مولعًا بالسينما منذ صغري، وكان في العباسية والظاهر أكثر من سينما؛ ريالتو وكارمن وفليري وشريف وسهير. شتوي وصيفي. وكنت في ذلك مثل أقراني. شعرت فقط بعلاقة خاصة مع السينما عندما شاهدت فيلم هيتشكوك “الدوامة” في سينما شريف كل يوم طوال مدة عرضه وكانت نحو أسبوع. نعم كل يوم لمدة 7 أيام على الأقل. وقتها كان زملائي في المدرسة الثانوية يقولون: أنت مجنون السينما وليس فقط سارتر ونجيب محفوظ!

وفي أثناء دراسة المسرح؟
كنا خمسة أصدقاء من نفس الدفعة نتناقش كثيرًا حول الفن والعلاقات بين الفنون، وخاصة العلاقة بين المسرح والسينما، وهل سيموت المسرح وتعيش السينما. للأسف كلهم توفوا وآخرهم نبيل بدران. في البداية مات محمود حافظ ونحن في سنة رابعة؛ كان يعيش الحياة على نحو صاخب. وهو من عائلة أحمد أمين. وإسماعيل العادلي وتوفيق عبد اللطيف. وكان ينضم إلينا أحيانا كثيرة علي ذوالفقار شاكر ابن شقيق محمود شاكر من خارج المعهد. وكان من أصدقاء الدفعة أيضًا جورج بطرس الذي توفيّ بدوره. كان غريب الأطوار يكتب مسرحيات تجريبية وأكثرهم اهتمامًا بالسينما، وهو الذي عرفني على جمعية الفيلم عام 1965.

وما القيم/ الدروس التي تعلمتها قبل أن تبدأ مسيرة السينما والصحافة؟
ربما تندهش، لكن أول درس حفظته عن ظهر قلب كان من جدي. علمني ألا أردد الكلمات دون أن أعرف معناها. على سبيل المثال العباسية؛ نسبة إلى عباس حلمي الثاني. الإسماعيلية نسبة إلى الخديو إسماعيل. باب الشعرية نسبة إلى باب من أبواب القاهرة الفاطمية، وكان في الأصل الشعراني وحوله العامة إلى الشعرية. وهكذا، حتى الآن يمكن أن أقضي ساعة لترجمة عنوان فيلم إسباني مثلاً!
ومنذ صغري علمت أن أحمد حسني وزير العدل فصل أحد القضاة لأنه رفض رشوة، كما أثبت التفتيش القضائي، فلما قيل له كيف؟ رد: لا بد أن في سلوكه ما دفع الراشين لرشوته. لا يوجد عندي قاضي يغري أحدًا برشوته. ولما سألوه: أليس من الوارد أن يكون مظلومًا؟ قال: الأرجح أنني ظلمته، لكن ظلم قاضي أفضل من قاضي يظلم؛ القضاء هو الحائط الوحيد للفقراء.. إذا عاش الفقير وهو مقتنع بأن القضاء يحميه يتحسن حاله، أما إذا فقد الثقة في القضاء من الممكن أن يخرج إلى الشارع ويضرب الرصاص.

في إحدى المحاضرات قال أحد الطلبة وهو يجيب على سؤال “ديكارت بتاع الشك”، فأوقف غنيمي هلال المحاضرة، وقال سوف أتحدث معكم عن “ديكارت بتاع الشك”، وشرح ما خلاصته أن وصف ديكارت بأنه “بتاع الشك” يعني أن قائل ذلك أولاً لا يعرف شيئًا عن ديكارت. ثانيا يستخدم أسلوبًا لا يليق. ثالثًا لن يستطيع أن يصل إلى أي معرفة عن أي شيء لا عن ديكارت ولا غيره. هذه أمثلة عن الدروس/ القيم التي حضرت في عقلي في الصبا ومطلع الشباب. وطه حسين الذي رأى السينما قبل الجميع.

طه حسين الذي رأى السينما قبل الجميع

قبل الستينيات كانت هناك كتابات السيد حسن جمعة.. وكتابات أخرى.. ألم تكن نوعاً من النقد السينمائي؟

كتابات السيد حسن جمعة وحسن إمام عمر وغيرهما من كبار الصحفيين في أهمية كبيرة في معرفة بعض المعلومات والتعبير عن أجواء السينما في العشرينيات والعقود التالية.. ولكن مشكلة هذه الكتابات أنها كانت من دون أي منهج وتفتقد إلى التوثيق. لو كان جمعة مثلا قد ذكر تاريخ عرضقبلة في الصحراءلما كان الخلاف هل كان أول فيلم مصري روائي طويل أمليلى“. إنهم المسئولون عن الحيرة التي نعاني منها حتي الآن.

يعني لم يكن هناك نقاد سينما في مصر قبل الستينيات؟

كان هناك نقاد سينما ولكن عددهم محدود للغاية.. زكريا الشربيني وعثمان العنتيلي فيالأهرامرشدي كامل فيالكاتب المصريولكن أعمالهم لم تجمع ولم تدرس. حتي مقالات أحمد كامل مرسي لم تجمع ولم تدرس.. وقد اقترحت على سمير سرحان إصدار سلسلة كتب بعنوانالنقد السينمائيعن هيئة الكتاب لجمع مقالات هؤلاء النقاد وغيرهم ودراستها.. وصدر الكتاب الأول عام 1992 وبه مقدمة تذكر ذلك بتوقيع سمير سرحان ولكن لم يصدر غيره حتي الآن..

النقد السينمائي الحديث في مصر بدأ في الخمسينيات عندما أسس يحيى حقي ندوة الفيلم المختار، وكانت تصدر نشرة مع كل فيلم يرأس تحريرها فريد المزاوي.. جمعت الندوة كل المثقفين الذين يهتمون بالسينما وكل الكتاب والنقاد وكل هواة السينما، وعلى صفحات نشرة الندوة بدأ النقد السينمائي الحديث على يد المؤرخ عبدالحميد سعيد والمعماري أحمد الحضري وهاشم النحاس وأحمد راشد وفتحي فرج وكلهم خريجو آداب فلسفة وغيرهم.. ونفس هذه المجموعة هي التي أسست جمعية الفيلم عام 1960.. وهي نفسها التي فتح لها يحيى حقي صفحات مجلةالمجلةعندما رأس تحريرها حيث نشروا فيها أهم دراسات عن السينما وعن المخرجين وأهم مقالات في نقد الأفلام.. أما في الصحافة فلم يكن هناك غير صبحي شفيق وإن لم يعط نفسه تماماً للنقد السينمائي، والمخرجين سعد نديم وكامل يوسف في جريدةالمساء“.

كانت السينما توضع في مرتبة أدنى من المسرح حتى ذلك الوقت..

كانت هذه وجهة النظرالسائدة بين كبارالكتاب والمفكرين.. لم يكن هناك من اهتم بالسينما غير محمد حسين هيكل على نحو ما.. الوحيد الذي رأى السينما كان طه حسين الذي لا يبصر لكن كانت لديه البصيرة الأعمق.. نشر طه حسين فيالكاتب المصرييدعو كبار الكتاب إلى الكتابة للسينما قائلاً أن التعالي على السينما يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي تركها بين أيدي الدهماء.. ونشر مقالين عن سيناريوهات سارتر التي كتبها للسينما للدلالة على ما يقول.. وأعتقد أنه بسبب هذه الدعوة كتب توفيق الحكيمرصاصة في القلب“.. وكتب نجيب محفوظ للسينما في فترة توقفه عن الكتابة الأدبية بعد ثورة يوليو..

منذ أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات كانت الواقعية الاشتراكية في زهوتها في الآداب والفنون.. كيف كان أثر ذلك على النقد السينمائي الجديد وهو يخطو خطواته الأولى؟

مجموعة ندوة الفيلم المختار من الأب الروحي يحيى حقي إلى فريد المزاوي والحضري وغيرهم لم يتأثروا بالواقعية الاشتراكية. وكان أغلبهم من هواة السينما ولذلك أسسوا جمعية الفيلم وهي أصلاً لصنع أفلام الهواة، ولذلك أيضاً كانت كل الكتب التي ترجموها عن حرفية السينما. الكتاب الفكري الوحيد المترجم كانالفن السينمائيللمخرج والمنظر السوفيتي بودوفكين وترجمة صلاح التهامي أحد رواد السينما التسجيلية عام 1957، وهو أيضاً السينمائي الوحيد الذي تأثر بالواقعية الاشتراكية في ذلك الوقت..

بدأت كتابة النقد السينمائي عام 1965.. في فترة ذروة تبعية السينما للأيديولوجيا حيث سيطر القطاع العام..

في البداية كنت أفهم القطاع العام على نحو مبسط جدا: وزارة الثقافة بدأت تنتج الأفلام، إذن لابد أن يكون إنتاجها افضل من إنتاج شركات القطاع الخاص التي تسعي إلى الربح.. ولكني أدركت بعد ذلك أن الستينيات شهدتثورةسينمائية في أوروبا وأمريكا في نفس الوقت الذي تراجعت فيه السينما المصرية عن السينما العالمية بعد أن كانت مواكبة لها.. كانت تلاحق العالم ثم أصبحت وراءه.

ماذا تعني بتعبير ملاحقة العالم؟

لم يكن هناك فرق جوهري بين الأفلام المصرية بمختلف أنواعها والأفلام العالمية أي التي توزع على مستوى العالم.. الحرفية متقاربة والإبداع متقارب بصفة عامة.. كان هناك مفهوم واحد للسينما في العالم في التمثيل والإضاءة والسيناريو وتكوين الكادر.. ولم نكن متخلفين عن إدراك هذا المفهوم، ولكن بتطبيقات مصرية بالطبع. وبالنسبة لنظام النجوم لا فرق بين مديحة يسري وراقية ابراهيم وليلي فوزي مثلا وبين كاترين هيبورن ولانا تيرنر وآفا جاردنر.. كانت أغلب الأفلام تبدأ بمنظر عام لمدينة القاهرة مثلاً ثم منظر عام لحي الغورية أو الزمالك.. وكذلك في هوليود أو باريس منظر عام للمدينة ثم منظر عام للحي.. ولكن عندما بدأتثورةالسينما في الستينيات، من جودار في فرنسا إلى أندرسون في بريطانيا ووصلت إلى روشا في البرازيل، كانت السينما في مصر تعود إلى عصر ستالين في الثلاثينيات.. أفلام تصنع بتكليف عن العمال والفلاحين وثورة اليمن إلى آخره.

كانت الأفلام المصرية تعرض في مسابقة مهرجان كل منذ دورته الأولى عام 1946، وهو أكبر مهرجان سينمائي في العالم، وحتي عام 1956.. كان من العادي وجود فيلم وأحيانا فيلمين داخل المسابقة.. ولكن ومنذ الستينيات أصبح وجود فيلم مصري في مسابقة مهرجان كان حدثاً غير عادي.

ولكن كانت هناك أفلام هامة من إنتاج القطاع العام، وعرضت في العالم..

طبعا، ولكن قليلة.. “الحراممن إخراج بركات مثلا.. يوسف شاهين فيالأرض“.. “مومياءشادي عبد السلام.. “زوجتي والكلبإخراج سعيد مرزوق.. بصفة عامة كانتثورةالسينما في العالم تتضمن الابتعاد عن الأدب.. أو ما يسمي في فرنسا أفلامالجود كواليتيوأحسن أفلام القطاع العام في مصر كانت أدبية منالجود كواليتي“.. “المومياءحالة فردية ولم يمثل اتجاهاً مع الأسف.. وكذلكزوجتي والكلب“.. كانا تعبيرا عن مولد سينما المؤلف بالمعنى الكامل.. وهما من نتاج حركة التجديد بعد 1967.. حركة 1968 والتي بدأت عملياً مع نهاية القطاع العام عام 1971..

تتكلم عن سنوات ذروة صلاح ابو سيف وتوفيق صالح..

ذروة صلاح أبوسيف كانت في الخمسينيات وبداية الستينيات قبل القطاع العام.. “القاهرة 30″ أول أفلامه من إنتاج القطاع العام.. فيلم حكومي عن روايةالقاهرة الجديدةلنجيب محفوظ.. في الرواية 4 شخصيات تمثل التيارات الفكرية في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، أما في الفيلم فقد حذف طه مؤمن المنتمي إلى الإخوان المسلمين.. هذه حكومة تنتج.. ذروة توفيق صالح.. نعم من حيث الكم.. أخرج أكبر عدد من أفلامه القليلة من إنتاج القطاع العام، ولكن مع مشاكل كثيرة إنتاجية ورقابية.. هكذا كانت سلبيات القطاع العام من جهة.

والمخرجين الآخرين؟

ومن جهة أخري كان مفيداً للأجيال الجديدة حيث لم يكن من الممكن أن يبدأ خليل شوقي فيالجبلإلا مع وجود القطاع العام، وكذلك حسين كمال في ثلاثية الأبيض والأسودالمستحيلوالبوسطجيوشيء من الخوف“.. ولا أن يخرج سيد عيسى تجربته الكبرىجفت الأمطار“.. النموذج الوحيد للواقعية الاشتراكية قبل أن يدرس في موسكو.. ومن الأجيال السابقة قدم كمال الشيخ أحسن أفلامه الأدبية ولكنه لم يكن اشتراكيا ليقدمالمخربونعن محاولات تخريب القطاع العامهذا فيلم تكليفوكذلك عاطف سالم فيثورة اليمن“.. لا تقل لي أنه كان يؤمن بثورة اليمن.. وحسام الدين مصطفي فيجريمة في الحي الهادئالمعادي للصهيونية وهو أول وآخر مخرج مصري ذهب إلى إسرائيل حتي الآن.. إلى جانب أن الفيلم عن حدث سياسي من دون أي تحليل سياسي.. “جميلةليوسف شاهين كان إنتاج حكومي عملياً قبل القطاع العام وكان مزيفاً بدوره.. قال يوسف شاهين أنه عندما صوره لم يكن يعرف أين تقع الجزائر.. باختصار أن تبعد مخرجاً عن عالمه وتضعه في عالم آخر بتكليف يعني إنتاج فيلم كاذب ومزيف.. هذه رؤيتي الآن.

وكيف تعاملت مع هذه الأفلام وقتها؟

كما قلت لك على نحو مبسط، والحكم لمن يدرس نقدي لها.. لا أستطيع أن أكتب النقد وأقوم بتقييمه في نفس الوقت.. التقييم للآخرينولكن منهجي لم يتغير، وإنما تطور مع تراكم الخبرة وزيادة المعرفة.

ما هو منهجك في النقد؟

يقوم منهجي على تحليل حقائق الفيلم من داخله ومن خارجه.. ويكون موفقاً بقدر التوازن بين الحقائق الخارجية والداخلية.. ما هي هذه الحقائق. مثلاً فيلمماشفيلم أمريكي من إخراج روبرت ألتمان عام 1969 عن مستشفي ميدان أثناء حرب فيتنام. هذه مجموعة حقائق الفيلم، والتحليل بالترتيب إلى أي مدى هو فيلم وإلى أي مدى هو أمريكي وموقعه بالنسبة لأفلام مخرجه وعلاقته بالزمن الذي أنتج فيه، وكيف عالج صانعه موضوعه، وما هو موقفه من هذا الموضوع ودلالات هذا الموقف.

لا يمكن عزل أي عمل فني أو أدبي عن التاريخ السياسي والاجتماعي.. ولكن هذا لا يعني أنه انعكاس ميكانيكي أو تلقائي.. الأهم أن يكون الفيلم فيلماً، أي من الناحية الشكلية والجمالية.. وبعد ذلك هل جنسية الفيلم تجارية أي ترتبط فقط بمنشأ شركة الانتاج أم هوية ثقافية ترتبط بثقافة الفنان/ المؤلف أيا كانت..

عادة لا أقرأ ما نشرته مرة أخرى، ولكني دائماً أتذكر قول جان بول سارتر أن الكلمة المطبوعة تدمغ صاحبها إلى الأبد.. وعندما أرجع لسبب أو آخر لمقال نشرته أجد أن المقال الذي يرضيني نسبيا ذلك الذي استطعت فيه تحقيق التوازن بين داخل الفيلم وخارجه، وهي مسالة صعبة، وتتحقق وتتطور بالممارسة.. ولكن لابد من وجود أسس ومفاهيم محددة وواضحة وإلا تصبح ممارسة في الفراغ.. عندما أصدرت كتابي الأولسينما “65” عام 1966 كتب عنه أنيس منصور فيالأخبارووحيد النقاش فيالأهراموإسماعيل المهدوي فيالجمهورية، نشرت المقالات الثلاث في أسبوع أو أسبوعين.. والثلاثة قالوا أن هناك ناقد يفكر في السينما ويرى أنها لغة وأن الفيلم له مؤلف صاحب رؤية، و يبحث كيف استخدم المؤلف اللغة في التعبير عن رؤيته، وأن هناك فرق بين المخرج والمؤلف صاحب الرؤية..

هناك إذن أساس أو فكرة أو نظرية، لكن الممارسة هي التي تبلور النقد. وقد أسعدني كثيراً أن يطلب مني زكي نجيب محمود أن أكتب لمجلةالفكر المعاصرالتي كان يرأس تحريرها عام 1968 مقالاً نظرياً عن كيف أفكر في السينما وبالفعل كتبت هذا المقال وأجازه الأستاذ والمعلم الكبير، ونشر، وأرى قراءته ضرورية لمن يريد أن يعرف أو يدرس مشروعي النقدي.

ولماذا لم تعد نشره في كتاب؟

حتى الآن أخجل من نشر كتاب نظري.. أتطلع إلى نحو عشرة آلاف كتاب في مكتبتي وأرى أنني لم أقرأ الكثير منها. تماماً كما أخجل من نشر موسوعتي عن الأفلام المصرية رغم أنني أعمل عليها منذ عام 1967.. الموسوعة بدأت ذلك العام بمبادرة من بدر الديب وهو من أساتذتي الذين أعشقهم وبدأتها تحت إشرافه.. أخيراً قال لي أنشر ما أنجزته ولو كان ناقصاً أو لا يرضيك تماماً فليست هناك نهاية للبحث والتدقيق.

الخيط الرفيع بين الناقد والمستشار

بدأت النقد مع دخول الدولة ملعب السينما.. كيف كنت ترى الأمر وقتها؟
الدولة أنشأت معهد سينما عام 1959 وتخرجت أول دفعة 1963، وبدأت الإنتاج في نفس العام. كنت أرى من الطبيعي أن يعمل الخريجون في إنتاج الدولة، وإذا بها معركة كبرى استمرت نحو عشر سنوات. الدولة تنتج الأفلام، إذن ستكون بمعزل عن مقاييس السوق، وإذا بالدولة تعمل بنفس المقاييس، ليس في كل الأفلام بالطبع، ولكن في أغلبها. قلت لك كانت نظرتي بسيطة.

وماذا فعلت مع سيف المعز وذهبه؟
كان السيف مُسلَّطًا على الجميع، أما الذهب فيما يتعلق بالسينما فكان دعوة النقاد والكتاب والصحفيين لكتابة أفلام أو شراء قصص وروايات منهم، أو دعوتهم للاشتراك في لجان القراءة على الأقل. حتى شركات السينما الأمريكية كانت تدفع لبعض الصحفيين.

كيف؟
أذكر أنني كتبت نقدًا لفيلم (بيكيت)، وفوجئت عند نشره بأن رئيس القسم أضاف في نهاية المقال عبارة “ومن الخير أن يشاهده الناس”، فذعرت وتشاجرت معه. في نفس اليوم اتصل بي مدير شركة بارامونت في شارع سليمان الحلبي بجوار الجمهورية، ودعاني إلى مكتبه وعرض عليّ مكافأة مالية! وقد انزعجت كثيرًا ورفضت فعرض عليّ كشفًا بأسماء نحو عشرين صحفيًّا وقال إنه أمر عادي، لكني رفضت.

لم تتعاون مع القطاع العام..

ولا الخاص.. رفضت تمامًا. قبلت فقط عضوية لجنة السينما بالاتحاد الاشتراكي وكان يرأسها أحمد بدرخان. ولم يكن هناك مقابل مالي لجلساتها. وحضرت اجتماعًا أو اجتماعين احترامًا لاسم الرجل، ولو أنني لم أكن من المعجبين بأفلامه بصفة عامة. وهاجمت كتابه عن السينما الذي أصدره عام 1936 في مقال بمجلة “الطليعة”.

لكنك كنت عضوًا في لجنة الإنتاج بمؤسسة السينما عام 1970…

نعم، كنت شديد التفاؤل بعودة ثروت عكاشة إلى وزارة الثقافة، ولهذا قبلت للمرة الأولى التعاون مع القطاع العام. لكني قدمت استقالتي بعد شهور قليلة، وأرسلت الاستقالة من مكتب بريد العتبة، وأرسلت صورة منها إلى كمال الملاخ ونشرها في الأهرام في اليوم التالي.

لماذا؟
دعك من أن رئيس اللجنة ورئيس المؤسسة عبد الحميد جودة السحار عرض عليّ كتابة سيناريو عن إحدى الروايات مقابل خمسة آلاف جنيه. قلت له: لكني لا أكتب السيناريوهات. قال: الرواية ماشية كده على طول حتفصل الأحداث عن الحوار. إيه المشكلة؟ دعك من هذا العرض الذي رفضته، لكني استقلت، وكما أوضحت للوزير لأن السحار طلب من اللجنة الموافقة على إنتاج فيلم للسيد زيادة لتغطية مصاريف زواج ابنته. وفي نفس الوقت، وكما أوضحت في مقال بـالجمهورية رفضت اللجنة مشروعات مهمة، منها (إخناتون) لشادي عبد السلام!

هل كان من الممكن أن تحسن أوضاعك المالية بعيدًا عن عطايا المؤسسات الرسمية.. أي أن تعيش من عائد الكتابة؟
هذا ما حاولته ونجحت فيه. كان مرتبي 17 جنيهًا، ولم أكن أريد الاستعانة بوالدي، وكنت أسكن في شقة مفروشة كي أكون بجوار بيت العائلة، وكان إيجار الشقة 15 جنيه. ولكن كان المقال في أي مجلة مصرية أو عربية بخمسة جنيهات وعشرة جنيهات إلى جانب الكتب التي نشرتها. وفي تحليل استفتاء “الطليعة” عن جيل الستينيات عام 1969 كتب لطفي الخولي أن سمير فريد صاحب أعلى دخل بين كل أبناء جيله فقد كان من بين الأسئلة سؤال عن الدخل الشهري، وكان دخلي 60 جنيها.

عملت بعد ذلك مستشارًا في شركة حسين القلا؛ ألم يؤثر ذلك على عملك كناقد؟
هذا بعد 15 سنة أو نحو ذلك. عام 1983 عملت معه 30 شهرًا بالضبط، واستقلت عام 1985.

لماذا قبلت؟
عرَّفني إليه يوسف شاهين، ووجدت أن مشروع حسين القلا في السينما يحقق كل أحلامي للسينما في مصر. عرض حسين القلا أجرًا قبلت بنصفه فقط، وكان كل العاملين في الشركة يوقعون عقودًا لمدة عشر سنوات، ولكني صُغت عقدي بنفسي، واستبعدت منه هذا البند، وكتبت مكانه أنه في حالة الخلاف يبلغ أي من الطرفين بأنه سيترك العمل قبل شهر دون تعويض. كنت بذلك أريد أن أشجعه وأقنعه عمليًا بأنني لا أفكر فيه مثل أغلب الذين تعاملوا معه ومع كل أصحاب الملايين عمومًا. وقلت له عندما تنجح الشركة سوف أطلب المزيد ولكن دعنا الآن نعمل.

وماذا كان مشروعه؟
ستوديو حديث (ستوديو جلال) في وقت كانت فيه كل الاستوديوهات مدمرة وكأنها قصفت بالقنابل. ودور عرض حديثه (كريم 1، وكريم 2، والجمهورية) في وقت كانت فيه دور العرض قد تحولت إلى أوكار للجريمة. لا صوت ولا صورة ولا معقد ولا تكييف. وشركة إنتاج سينما وتليفزيون. وشركة توزيع سينما وتليفزيون وفيديو. وأفلام مصرية وأفلام أجنبية. ومكتب في باريس. واشتراك نموذجي في سوق مهرجان كان لم يحدث من قبل ولا من بعد. كان شعاره كل يوم فيلم مصري.. كريم 2 أو صالة الـ 100 كرسي من اختراعي؛ كانت في الأصل قاعة أقامها يوسف شاهين لكي يشاهد فيها الأفلام وحده أو مع الأصدقاء. كانت كريم أول قاعة في مصر بها شاشتين. كريم 2 عرضت لأول مرة في تاريخ مصر أسابيع للأفلام التسجيلية بتذاكر. واستوردت الشركة الأفلام الأوروبية واليابانية ولم تقتصر على الأفلام الأمريكية. الشركة فتحت الباب لمخرجي ما أطلقتُ عليه بعد ذلك حركة الواقعية الجديدة في السينما المصرية. أول عقود إنتاج كانت مع محمد خان وعاطف الطيب ورأفت الميهي وخيري بشارة. وبأضعاف الأجور التي كان من الممكن أن يحصلوا عليها من الشركات الأخرى. صلاح أبوسيف لم يكن يعمل، أعلى أجر لمخرج كان 35 ألف جنيه لحسين كمال. قلت لحسين القلا إن صلاح أبوسيف يستحق 50 ألف لأن حسين كمال تلميذه، ووافق وكان فيلم (البداية). قلت له لابد أن ننتج ردًا على “الوداع يا بونابرت”، والرد المناسب “سليمان الحلبي” لألفريد فرج. وافق وكان ألفريد فرج يعيش في لندن، واقترحت عليه أن يدفع له عشرة آلاف جنيه إسترليني، وافق!

لماذا انهار المشروع تمامًا؟
الإجابة من حق حسين القلا، بل ومن واجبه. ولكن رأيي الخاص أنه لم يصمد في مواجهة “أقطاب السوق”. لقد خرج عن الخطوط التي وضعوها ويريدون استمرارها دائمًا. أجر عاطف الطيب عندهم ألفين أو ثلاثة آلاف جنيه فكيف يتعاقد معه القلا بعشرة. أعلى سعر لتذكرة سينما جنيه فكيف يكون سعرها في كريم ثلاثة. هم نتاج “لخبطة الاشتراكية مع الرأسمالية”، ليس لديهم سياسات للحاضر أو المستقبل. مثل البقالين يعيشون يوم بيوم ويتعاملون مع بضاعتهم، وكأن لها مدة صلاحية، بينما صلاحية الفيلم لا تنتهي طالما تمت المحافظة على أصله/النيجاتيف.

ألم تشعر بالخطر كناقد عندما عملت مستشارًا لشركة إنتاج وتوزيع وعرض؟
من حيث المبدأ لا شك أن العمل مع شركة كمستشار أو غير ذلك يهدد استقلال الناقد. لكن كما قلت لك وجدت مشروعي هو مشروعه، والمحك هو ما نشرته في أثناء عملي في الشركة.

كيف يكون المرء ناقدًا لفيلم شارك في صنعه.. كيف يمكن الفصل في هذه الحالة؟
طبعًا مسألة صعبة جدًا، على سبيل المثال مقالتي عن فيلم (الطوق والأسورة)، كنت سأكتبها سواء كان لي دور في صنع الفيلم أم لا. ومن ناحية أخرى الشركة وزعت أفلامًا من تمثيل عادل إمام ونادية الجندي لا تعجبني كناقد، ولم أمتدحها قط لأنني أعمل في الشركة. ومن ناحية ثالثة ساهمت في أفلام كثيرة لأصدقاء من دون أجر في قراءة السيناريو. بل وفي تعديل الفيلم بعد مشاهدة نسخة العمل، ولكن عندما كنت أكتب عن الفيلم كنت أنجح في أن أشاهده وكأنني أفعل ذلك للمرة الأولى. حتى عندما أقرأ عن أي فيلم قبل مشاهدته أراه وكأنني لم أقرأ عنه شيئًا.

ألم تنشر قط أي مقال تحت الضغط. أو دون قناعة؟

حدث مرة واحدة فقط. حين طلب مني يوسف السباعي عام 1978 كتابة مقال لدعوة الجيش إلى شراء تذاكر لفيلم “العمر لحظة”.

ولماذا استجبت؟
بصراحة كان والدي على المعاش في الأهرام، وخشيت أن أرفض طلب يوسف السباعي فيضايقه على أي نحو. ربما أظلم الرجل ولم يكن يفكر في ذلك ولكن هذا ما حدث، فقد أشار إلى والدي في حديثه قائلاً: لقد قلت لوالدك إنك شخص ممتاز وناقد متميز، ولكن لطفي الخولي والشيوعيين يلتفون حولك ويسيئون إليك. سلمت المقال للجمهورية، وسافرت إلى بودابست كي لا أراه منشورًا، وفي فندق رويال في العاصمة المجرية كنت في اللوبي مع أحمد قدري وحمدي الجابري عندما جاء خبر اغتيال يوسف السباعي في قبرص. شعرت باضطراب شديد، وخشيت من نفسي أن تفرح، ولم أفرح فعلاً. خشيت أن أشعر بالشماتة ولم أشمت أبدًا. وعندما عدت إلى القاهرة ووجدت المقال منشورًا قبل أيام معدودة من اغتيال الرجل، وتذكرت شكسبير وأنا شكسبيري متواضع، تذكرت استنكار هوراشيو كيف يصدق هاملت ظهور شبح أبيه ورد هاملت عليه “هناك أشياء كثيرة بين السماء والأرض لا نعرفها يا هوراشيو”.

توجد حكاية مشهورة انتشرت في روز اليوسف عندما كنت أعمل بها، وهي أنه في أثناء تقييم أهم أفلام إحدى السنوات وكنت في لجنة التحكيم اشترطت قبل أن تجلس اختيار فيلم بعينه..
هل تقصد في أثناء عملي مع حسين القلا. كلا لم يحدث ذلك قط، لم أشترك في أي لجان تحكيم من أي نوع طوال عملي معه لمدة 30 شهرًا كما ذكرت. لم يحدث ذلك قط. ثم ما معنى أن يشترط عضو لجنة تحكيم مثل هذا الشرط. وكيف يقبل باقي أعضاء اللجنة. صحيح أنني أدافع عن وجهة نظري بقوة في أي لجنة تحكيم أشترك فيها، ولكن لإقناع الآخرين بوجهة نظري.

أريد أن أعرف أكثر عن فكرة المستشار في السينما.. كيف كنت تراها وكيف مارستها؟
في البداية عرض عليّ القلا أن أكون مديرًا للشركة وهو رئيس مجلس الإدارة. فضلت المستشار، أي الذي يخطط وينصح ويوجه ولا ينفذ. هذا أقرب إليّ وما أقدر عليه أكثر. وكما قلت لك كان يحقق أحلامي عن السينما بعد أن وجدت أنها أحلامه. كنت أحلم بتوزيع أفلام كوروساوا وفيلليني في مصر. وكنت أتمنى أن يصنع خيري بشارة ورأفت الميهي وصلاح أبوسيف وغيرهم ما يريدون من أفلام بحرية. كنت أريد أن أذهب إلى مهرجان كان دون الشعور بالدونية. دون الشعور بأنني قادم من الغابة أتفرج على الأفلام البلجيكية والألمانية. كانت حساباتي دائمًا لا ذاتية ولا مالية. حققت ذاتي مبكرًا، ولم أعاني من قلة الأموال قط والحمد لله. لم أقم بمراجعة أي فلوس في حياتي بعد الحصول عليها.

تتحدث كثيرا عن الأحلام..

سفرتي الأولى إلى أوروبا. إلى مهرجان كان 1967 كانت مهمة جدًا. الطائرة هبطت في باريس قبل أن تواصل الرحلة إلى نيس. عندما شاهدت باريس من الطائرة تذكرت رفاعة الطهطاوي، وتذكرت جدي الأكبر إسماعيل يسري الذي درس الطب الشرعي في السوربون. قلت لنفس يا ليتني أجعل السينما في مصر مثل السينما في فرنسا، والنقد السينمائي في مصر مثل النقد السينمائي في فرنسا. لا أشعر بأن مصر أقل من أي بلد آخر حقق تقدمًا كبيرًا. ولذلك عندما ذهبت إلى مائدة مستديرة في بيروت 1969 وعلمت أن لنقاد السينما اتحادات وكنت أتصور أن الاتحادات للعمال فقط عدت ودعوت إلى اجتماع للنقاد لإقامة اتحاد. وفي نفس العام عندما علمت في المجر أن هناك مهرجانات قومية للسينما كنت أتصور أن المهرجانات دولية فقط عدت ودعوت سعد الدين وهبة، وكان مسئولاً عن قصور الثقافة في الأقاليم لإقامة مهرجان قومي، فكان مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة عام 1971. ثم مهرجان الأفلام الروائية الطويلة عام 1971. وأقيم في بلطيم وليس في العاصمة لأنني وجدت المهرجان القومي يقام في مدينة بيش الصغيرة وليس في بودابست.
وعندما اقترح كمال الملاخ إقامة مهرجان في الإسكندرية لدول البحر المتوسط عام 1975 عارضت الاقتراح في الجمهورية، ونشرت عدة مقالات لإقامة مهرجان دولي كبير لا لدول البحر المتوسط فقط. وفي القاهرة، وليس في الإسكندرية. وأقيم المهرجان دوليًّا وفي القاهرة عام 1976. شاهدت أنتونيوني عام 1967 في مهرجان كان وتحدثت معه قليلاً بعد عرض (بلوآب) ذلك العام. وربما لهذا لم تعد الأسماء الكبيرة في عالم السينما بالنسبة لي مثل آلهة اليونان القدماء. تحاورت في مهرجان كان مع عدد كبير من كبار مخرجي العالم بعد ذلك، وجمعت هذه الحوارات في كتابي “حوار مع السينما العالمية والعربية”. هل تعلم أن نقد الأفلام الأجنبية في الصحافة قبل الستينيات كان محدودًا جدًا وكأنها فوق النقد!

ألم تكن مستشارا لشركات أخرى؟
…لا

ولا مع ممثلين أو ممثلات؟
مع سعاد حسني فقط، ولكني لم أكن مستشارًا بل صديق، وطبعًا دون أجر. مناقشات واقتراحات في إطار الصداقة. وكذلك مع يوسف شاهين منذ (الاختيار) وحتى (إسكندرية.. نيويورك). شاهدت نسخة العمل واقترحت تعديلات ونفذت ولكن كأصدقاء. لم أتقاض أية أموال إلا من شركة حسين القلا، مقابل أعمال كثيرة وكبيرة وشاقة لا مجرد قراءة سيناريوهات. أنا الذي أشرفت على إتمام العمل في سينما كريم 1 وكريم 2 وإنشاء سينما الجمهورية بأكملها.

متى بدأت علاقة الصداقة مع سعاد حسني.. وكيف كانت العلاقة بين نجمة وناقد؟
تعرفت إلى سعاد حسني في أثناء تصوير فيلم “الزوجة الثانية” عام 1966. ولم تكن علاقة بين نجمة وناقد؛ فعندما كنا نلتقي كانت تنسي أنها نجمة وكنت أنسى أنني ناقد. ومن ناحية أخرى كان لها أصدقاء آخرون وكانت تسألهم رأيهم وتتناقش معهم أيضًا. تحولت العلاقة إلى صداقة شخصية وعائلية؛ فهي الوحيدة من نجوم السينما التي دخلت بيتي وعرفت عائلتي. ولا أنسى وقوفها معنا عندما توفيت أختي يسرية المحامية في الرابعة والعشرين من عمرها عام 1976. وقبل سفر سعاد إلى باريس، في الرحلة التي أصبحت بلا عودة، تجولنا في القاهرة عدة ساعات داخل سيارتها وكان يقودها سائق. وقدمت لي صورة من التقرير الطبي وقالت لي “خليه معاك أحسن يقولوا على باتمارض زي ما قالوا عن عبد الحليم حافظ.. فيه عيب خلقي في العمود الفقري تبدأ آلامه ومشاكله مع تقدم السن”.

وماذا اقترحت عليها؟
كان لي دور كبير في أن تمثل فيلم (الناس والنيل) الثاني الذي أخرجه يوسف شاهين. وقتها قالوا إن سعاد حسني لا تمثل إلا إذا وافق سمير فريد، وهذه مبالغة كبيرة. سعاد حسني موهبة غير عادية وكان من الممكن أن تكون ممثلة عالمية لأنها تثبت للمقارنة مع أعظم ممثلات العالم. والحقيقة أنها كانت تأخذ آراء كثيرة منها رأيي لكن في النهاية تقرر بإحساسها، وإحساسها كان يعادل ألف كتاب؛ مكتبة كاملة.
عاشت سعاد حسني فترات من المعاناة الشديدة على مستويات مختلفة، وفترات من الفرح الغامر بالحياة والحب والجمال.. كانت عبقريتها في قدرتها على استرجاع تلك اللحظات بسهولة وفي أقل من ثانية أمام الكاميرا.. وكانت عبقريتها في هذه العلاقة المذهلة مع الكاميرا مثل كبار ممثلي العالم، وهي ما يمكن أن نطلق عليها علاقة الكاميرا الخفية، كانت تنسى الكاميرا، وتصبح بالنسبة إليها وكأنها كاميرا خفية.
الاضطرابات في حياتها الفنية بل وحياتها الخاصة بدأت بعد النجاح الهائل لفيلم (خللي بالك من زوزو) الجمهور كما قال شابلن وحش له ألف ذراع وبلا عقل. والنجاح الذي لم يكن مسبوقًا في تاريخ السينما أفقدها توازنها. لم تعد تقبل بأقل من نجاح زوزو وكان ذلك مستحيلاً. لقد نسيت تمامًا أنها عندما رأت الفيلم في عرض خاص وكنت معها انزعجت منه بشدة، وكذلك انزعج منه صلاح جاهين وكانا شركاء في الإنتاج، وبلغ انزعاجهما حد أنهما باعا حصتهما إلى شريكهم الثالث تاكفور أنطونيان قبل أن يبدأ عرضه التجاري! قلت لها أكبر دليل على أنه ليس هناك روشتة لعمل فيلم جماهيري تجربتك أنتِ.. كنتِ واثقة أن الفيلم سيفشل ومع ذلك أصبح أكثر أفلامك جماهيرية.. لا يتم التخطيط لمثل هذا النجاح.. عوامل كثيرة تصنعه من المناخ العام والذوق السائد إلى الخبر المنشور صباح يوم العرض الأول في الصحف.

ماذا نشرت عن “خللي بالك من زوزو”؟

مقال بارد. لكن الآن أرى أنه فيلم مهم.

هذا في إطار مراجعة رأيك عن سينما حسن الإمام..

في إطار مراجعة سينما تلك الفترة من 1967 إلى 1973 بين الحربين بصفة عامة. لا بد أن يحترم الناقد النجاح الجماهيري، ويعرف أن هذا ليس من فراغ ولا يستهتر به.

هذا مفهوم معاكس لناقد الستينيات التي تربي (كما تربي المثقف عمومًا المؤمن بفكرة النخبة والطليعة) على أنه يقود الجماهير..

أنا لم أهتم قط بالجمهور. كلما كبرت في السن وعرفت التاريخ السياسي للعالم وتعمقت فيه أشعر باحتقار لفكرة الجماهير. بعد سقوط النظم الشيوعية وحائط برلين 1989، وسقوط القومية العربية بغزو الكويت 1990، وسقوط الاتحاد السوفيتي، 1991 تغيرت 180 درجة. لم أفهم ما معنى أن تقف الجماهير في طوابير سنة 70 لكي ترى جثمان لينين، وفي سنوات معدودة تصبح هوايتها تحطيم تماثيله. أصبحت أقرب إلى فكرة أن الجماهير قطيع. وفي رأيي أن العالم بعد 1989 يحتاج إلى مفكر كبير لتحليله، وأن هذا المفكر لم يظهر حتى الآن.ا
العالم في حاجة إلى دماغ من وزن دماغ كارل ماركس، وليس فوكوياما أو هنتنجتون ليحلل الفترة من جماهير حائط برلين 1989 إلى جماهير بيروت 2005 الشارع يقوم بالتغيير، ولكن هذه الجماهير ليست بالمفهوم الذي كان يتكلم عنه لينين عن 1917، أو دوبريه عن 1968 هنا شيء آخر. جميع الطبقات وجميع الأجيال تتعاون. يتحالفون من أجل هدف مطلق اسمه الحرية. نعم مطلق مثل الحياة والموت، وينجحون. إنه ليس نجاحًا آيديولوجيًّا. الحرية هنا حلم؛ الناس تخرج إلى الشارع لتحقيق حلم، والأقمار الصناعية والكمبيوتر وشبكة الإنترنت تقوم بالأدوار الأساسية. لو لم يكن هناك تليفزيون لما خرج الألمان لتحطيم حائط برلين بهذا الشكل. لا أدعي فهم الجماهير التي تتحرك الآن وكيف تتحرك.

كلمتك عن جمهور (زوزو) فكلمتني عن الجماهير السياسية…

وقتها، عام 1972، لم يكن هناك تفسير لنجاح الفيلم على النحو الذي نجح به إلا أن الناس تريد أن تهرب. كانت هناك ضغوط؛ طوابير على رغيف العيش، وعلى المربى البلغاري وأشياء لم تعشها أنت. هل تعرف المربى البلغاري؟

لا..

إنها مربى جاءت هدية من بلغاريا، ولم يكن يجري وراءها الفقراء أو الطبقة الوسطي فقط، بل الأثرياء أيضًا. لأن الثري إذا أراد أن يأكل مربى أوروبية إما أن يسافر إلى أوروبا أو يقف في طابور أمام الجمعيات التعاونية.

ما علاقة المربى البلغارية بالفيلم؟

أنا أتحدث عن ظروف عرض الفيلم لأننا نناقش نجاحه وليس الفيلم ذاته. الفيلم فعلا كان إلهاءً. وكذلك فيلم “أبي فوق الشجرة”، كلاهما كان إلهاءً. ولا أقصد هنا بالإلهاء أنني أهاجم، بل أصف. ولا شك أن الناس كانت في حاجة إلى الهروب من الكذب والخوف والحزن على الهزيمة. كانت الحالة، وحسب التعبير اللبناني العامي “مشربكة”.

هذا رأيك الآن أم آنذاك؟

هذا رأيي الآن؛ وقتها كنت أطالب بأفلام تصنع الوعي السياسي بالصراع العربي الصهيوني والصراع مع أمريكا الإمبريالية وكيف يتم تجاوز هزيمة يونيو إلى آخر منظومة ما بين الحربين.

كنتَ ناصريًّا..

الناصرية اختُرعت بعد عبد الناصر..

أقصد كنت مع تصورات نظام عبد الناصر..

طبعًا، كنت معها. بعد 5 يونيو كنت مع كل الناس الذين يرون أننا يجب أن نعمل لتجاوز الهزيمة، لكن النظام كان يزيِّن الهزيمة، أو بالأحرى كان الذين هزموا يدافعون عن أنفسهم لأنهم ظلوا يحكمون. كنا على يسار النظام. تظاهرات 1968 وحركة 1968 كلها كانت على يسار النظام. كان النظام يريد أن يعتبر 5 يونيو كارثة تم تجاوزها يوم 9 يونيو، أي أزمة 4 أيام فقط. أرادوا الاستمرار فلم يعترفوا بالهزيمة. فتحي غانم رئيس تحرير الجمهورية قال أمامي مساء 8 يونيو: لقد انتهى دورنا.. انتهى دور أجيالنا.

هل خرجت في تظاهرات التنحي؟

لا.. لم أشترك شخصيًّا في أي تظاهرات إلا في تظاهرات 1968 و1972 بشكل محدود في ميدان التحرير. كمؤازر مع السينمائيين ونقاد السينما الجدد. لم أرفض تظاهرات التنحي ولكني شعرت بالقرف من رقص أعضاء مجلس الشعب على الكراسي عندما قبل عبد الناصر التراجع عن قراره. كانت الكارثة أكبر من أن يبقى عبد الناصر أو يستمر.

أنا فلاش باك

متى كانت جماعة السينما الجديدة؟
1968

الدفعة الأولي من معهد السينما؟
الدفعات الست الأولى بالإضافة إلى مجموعة من خارج المعهد.

أريد أن أسأل عن المصير؛ كيف يمكن البداية بهذه الطليعية المتطرفة، وينتهي الأمر إلى أن أغلب نجومها هم نجوم السوق التقليدي بكل عيوبه المزمنة..
تفسيري عرفته من تاريخ السينما وتاريخ الحركات الطليعية في أوروبا وأمريكا؛ عرفت أن هناك شخصيات وتجمعات تقوم بدور القوة الدافعة ولا تظهر الثمرة الحقيقية لهم إلا بعد سنوات. يعني حركة 1968 في رأيي أثمرت 1980 وفي أفلام فنانين أغلبهم لم يشترك في تلك الحركة. جماعة السينما الجديدة في الستينيات أثمرت الواقعية الجديدة في الثمانينيات.

فكرة براقة.. لكني أسأل عن مصير نموذج مثل علي عبدالخالق..
وكذلك محمد راضي، لقد استسلما وغيرهما لمقاييس السوق. دور جماعة السينما الجديدة انتهى 1972 عندما لم يعد عمل خريجي المعهد في السينما قضية. وفي نفس العام تأسست جمعية النقاد من أغلب الذين كانوا في الجماعة.

والتجديد؟
حركة السينما الجديدة في 1968 من خلال جماعة السينما الجديدة، ثم من خلال جمعية النقاد 1972 كانت دعوة إلى التجديد. ولكن التجديد ذاته يتحقق من خلال مفهوم كل مخرج عنه. لم يكن هناك اتفاق على مفاهيم جمالية أو فكرية محددة.

أعتقد أن هناك أفكارًا دفعت “السينما الجديدة” إلى مصيرها. أفكار تبدو براقة “المتعة الذهنية” أو “سينما المثقفين” أو “السينما السياسية”. لكنها مجرد لعب بإطارات نظرية ترضي نرجسية المثقف الطليعي. وعلى العكس من ذلك كانت حركة 1968 في العالم تحطم التابوهات وتحاول تحرير الواقع والإعلاء من فكرة الحرية.
أتفق معك…

كيف كان ذلك في السينما المصرية؟
كما قلت أفكار 1968 تحققت في الثمانينات. احتاجت إلى فترة حرث. السبعينيات فترة خاصة جدًا في تاريخ السينما المصرية. السبعينيات أكثر فترة متحررة في تاريخ السينما المصرية بعد الخمسينيات أو مثلها. ما سبقها وما لحقها فترات محافظة جدًّا. وأكثر الأفلام المتحررة في السبعينيات لم تكن للمخرجين الشباب بل من إخراج صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وحسام الدين مصطفى وحسن الإمام وسعد عرفة وغيرهم. لم يخطر على بال أي مخرج شاب أن يُخرج فيلمًا مثل فيلم أبوسيف (حمام الملاطيلي) عام 1973 قبل الحرب. لكن التجديد بالمعنى الشامل كان مع الواقعية الجديدة في الثمانينات؛ مع محمد خان وخيري بشارة ورأفت الميهي وعاطف الطيب وداود عبد السيد وغيرهم. تحرر السبعينيات قام به جيل الخمسينيات، وجيل الستينيات عبر عن نفسه في الثمانينيات.
أين كان موقعك في هذه التناقضات؟
أدعو إلى التجديد وأناصره على طول الخط وضد السينما التقليدية ولكن مع تشجيع أي تطور في إطارها. من هنا وصفت أفلام مخرجي الثمانينيات المذكورة بالواقعية الجديدة. بدت لي السينما المصرية في ذلك الوقت. في النصف الأول من الثمانينيات مثل السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية. كانت تعيش نفس الظروف: ستوديوهات إيطاليا دمرت في الحرب العالمية الثانية وستوديوهات مصر دمرتها البيروقراطية الحكومية بعد عشرين سنة من القطاع العام. التصوير في الشوارع كان إجباريًّا في الحالتين، والشوارع تعني تلقائيًّا المهمشين. محمد خان كمخرج وسعيد شيمي كمصور أرَّخا للمكان في القاهرة ومدن أخرى في لحظة معينة. حركة تحول ميدان التحرير مرصودة بالكامل في أفلام محمد خان وسعيد شيمي الذي كان يسكن في هذا الميدان. هذا أمر غير مسبوق في تاريخ السينما المصرية إلا في بعض أفلام كمال الشيخ. صحيح أن الواقعية الجديدة في مصر لم تحقق نجاحًا دوليًّا كبيرًا، لكنها عبرت الحدود. كانت واقعة جديدة بعد أربعة عقود من الواقعية الجديدة الإيطالية. لم تحدث قفزة نوعية على صعيد السينما العالمية وإن حققتها على صعيد السينما المصرية، وهذا يكفي لدخولها التاريخ.
مرة أخرى أين كان موقعك؟ كانت هناك معارك بين المخرجين القدامى بمرجعياتهم التقليدية ومخرجي المعهد بأفكارهم الجديدة.. بين مخرجي الحرفة ومخرجي السياسية.. بين القطاع العام والقطاع الخاص.. الدولة نزلت الملعب شخصيات مثل ثروت عكاشة تخطط مشروعات لاستيعاب الثقافة والمثقفين.. أين كنت أنت؟
انظر على سبيل المثال إلى هذه المعركة على صفحات الجمهورية بيني وبين حسين حلمي نقيب السينمائيين عام 1967 عندما كانت النقابة تعترض على عمل خريجي المعهد في السينما إلا بشروط تعجيزية (تحرك تجاه أحد الرفوف وأخرج ملفًا كبيرًا وعثر على المعركة المذكورة وقرأتها).

لفت نظري أنك اعتبرت ثروت عكاشة وزير الثقافة صاحب البيان الأول للسينما الجديدة..
هذا ما حدث؛ أعني البيان الأول على الصعيد العملي عندما رفض خطة مؤسسة السينما وأعادها وقال إنها تسير على نفس المسارات القديمة.

هل كنت مع تدخُّل الدولة في السينما؟
نعم. في ذلك الوقت. كنت وغيري نعتبر أن القطاع العام ينفق من الأموال العامة، ومن ثَم من حقنا أن نطالبه بعمل الأفلام التي نطالب بإنتاجها. وكنت وغيري نحترم ثروت عكاشة ونقدره لأنه تعامل مع المثقفين كمثقف. لا علاقة لي بأدواره الأخرى السياسية. أتكلم عن الدور الذي كنا نراه كنقاد وسينمائيين وصحفيين ندخل مكتبه في قصر عائشة فهمي في أي وقت، وربما فقط بموعد مسبق قبل اللقاء بساعة. لم يكن في جبروت يوسف السباعي أو عزلة عبد القادر حاتم في قلعة التليفزيون مع عدد محدود من الذين يصرخون ليل نهار ضد كل من يخالفهم الرأي ويعتبرونهم شيوعيين. هناك صورة لثروت عكاشة ومعه قيادات الوزارة آنذاك. يظل رجل سلطة ولكن حوله مجدي وهبة ونجيب محفوظ وسعد كامل وعلي الراعي ومحمود أمين العالم وحسن فؤاد، لم يأت بدفعته في الجيش ليحكموا الوزارة.

هل كان التعامل مع ثروت عكاشة اختيارًا شخصيًّا أم تصورًا لا يرفض العمل مع أو من خلال الأجهزة الرسمية..
لقد تعاملت مع كل الوزراء والمسؤولين عن السينما منذ عام 1965.

كنت منحازًا إلى تجربة ثروت عكاشة ثم تجربة فاروق حسني بعد ذلك؟
ليست مسألة انحياز، بل مطالب معينة من وزارة الثقافة. أحلام للسينما في مصر أنحاز إلى من يحققها أو يحقق بعضها. على سبيل المثال حلم المهرجان القومي من 1969 حققه ثروت عكاشة وأوقفه يوسف السباعي 1972، وأعاده فاروق حسني 1991. ربما كانت المشكلة ولا تزال كلمة قومي. الآن أفضِّل أن يسمى مهرجان الأفلام المصرية، وأن يبدأ احتساب دورته من 1932 عندما قدمت الحكومة أول جوائز للسينما من الأموال العامة. على سبيل المثال حلم السينماتيك؛ تعرفت إلى عبد الحميد سعيد عام 1968 وبهرني إيمانه بقضية الأرشيف. طالبت بإنشاء الأرشيف في مقال عام 1968 واستجاب ثروت عكاشة. وأرسل إلى الجمهورية ردًّا ومعه قرار إنشاء الأرشيف. حلم إنشاء مجلة للثقافة السينمائية حققه ثروت عكاشة. والآن أطالب وغيري أن يحقق لنا فاروق حسني إنشاء السينماتيك، وأن ينطلق من أفلام الأرشيف التي تراكمت ويكون له مقر خاص. وأطالب وغيري بدعم السينما، أي دعم مشروعات أفلام بمنح لا تُرَد. المهم أن ثروت عكاشة محقق أحلام. وكذلك فاروق حسني. وحتى حسين القلا في القطاع الخاص. أقصد أن هناك أحلام معينة من يحققها أؤيده وأنصره وأتعاون معه. ومثل أي إنسان في كل مجال لديّ أحلام دائمًا أتمنى أن تحقق في مصر. لو قرأت مقدمة كتاب “العالم من عين الكاميرا” عام 1969 ستجد أنني أهاجم الأجيال السابقة وأدعو الأجيال اللاحقة إلى أن تلعننا إذا نحن سلمنا لها السينما كما هي. إذا لم نغير شيئًا في الواقع.

هذا إحساس مبالغ به في تحمل مسؤولية كبيرة لا بد أن تدفع إما إلى التعامل مع الأجهزة الرأسمالية لدولة تريد أن تلعب كل الأدوار. وإما إلى إحباط. لكن هذه فيما يبدو نظرة مثقف الستينيات عمومًا.. وأنا أريد أن أتعرف على تجربة جيل آخر تعامل مع أجهزة الدولة الثقافية.. كيف كانت العلاقة مع فنانين وأدباء مثل صلاح أبوسيف ونجيب محفوظ كانوا في هيئات الدولة على رأس مؤسسات ثقافية؟
نجيب محفوظ كما هو معروف كان يفصل تمامًا بين دوره كموظف ودوره ككاتب. مثل أحمد عبد الجواد في “الثلاثية” وتجربتي معه كقارئ منذ كانت طالبًا في الثانوية. وعندما فاز بجائزة نوبل نشرت في اليوم التالي مقالاً في الجمهورية قلت فيه إنه أبي الثاني. فقد أتى بي والدي إلى الحياة، ولكن نجيب محفوظ علمني ما الحياة. ليست لي معه تجربة خاصة ولكن لي تجربة طويلة مع صلاح أبوسيف. صلاح أبوسيف سينمائي كبير جدًا في تاريخ السينما في مصر والعالم العربي والعالم. ومقامه في السينما الناطقة بالعربية مثل مقام جون فورد في السينما الأمريكية على سبيل المثال مع أن علاقتنا بدأت بصدام كبير، حين لم يعجبني فيلم “الزوجة الثانية” لأنه حكاية من حكايات كيد النساء، بينما كنت أتوقع فيلمًا واقعيًّا عندما يخرج أستاذ الواقعية للمرة الأولى في الريف. كان ذلك في إطار حالة ما بين الحربين التي سبق أن تحدثت عنها، وكان صلاح أبوسيف يعتبر نفسه فوق النقد. ولكن المشكلة الأكبر أنه أقنعني أن يوسف شاهين خواجة وروحه ليست مصرية. كنت صغيرًا ولم يكن عندي مقاومة فكرية كافية. وضعني في جو مضاد لعالم يوسف شاهين حتى إن عنوان مقالي عن فيلم (فجر يوم جديد) كان “فجر يوم جديد من وجهة نظر سائح”!

لكنك راجعت رأيك…
بالطبع، وندمت كثيرًا على ذلك المقال. لم أكن قد التقيت قط مع يوسف شاهين. وفي عام 1969 اتصل بي تليفونيًّا ودعاني لمشاهدة فيلم (الأرض) في ستوديو النحاس. كنت بتأثير نظرية صلاح أبو سيف عن الخواجة قد رشحت في الجمهورية صلاح التهامي لإخراج فيلم (الأرض). كنت أحب الرواية منذ أن أرشدني إليها أنور المعداوي في ثانوي. وكنت أحب عبد الرحمن الشرقاوي وربطتني به علاقة شخصية قوية. قال لي يوسف شاهين في التليفون إن العرض خاص بالرقابة: وأريدك أن تحضر ضروري. قلت: وكيف أشاهد الفيلم؟ قال: هناك صف واحد من عشرة مقاعد (بلكون) في القاعة بجوار كابينة العرض ادخل واجلس في صمت.
شاهدت الفيلم وبكيت بدموع غزيرة عدة مرات في أثناء العرض. أنا لم أبك في حياتي في أثناء مشاهدة الأفلام إلا 3 أو 4 مرات. بكاء الإعجاب. نشوة الفن البحتة. لا علاقة لها بالمضمون. نشوة المستوى الرفيع. كنت أريد أن أضع الاسطوانة في فمي بعد أن سمعت سيمفونية بيتهوفن التاسعة للمرة الأولى وآكلها. بكيت في أثناء فيلم سيدني بولاك (إنهم يقتلون الجياد).. وفي أثناء فيلم تاركوفسكي (المرأة). وفي أثناء فيلم كوستاريتشا (الغجر). المهم لا أستطيع أن أصف لك شعوري عندما شاهدت (الأرض). نشرتُ عنه أكثر من 20 مقالاً وتعليقًا، وهو ما لم يحدث قط مع أي فيلم، وتضايقت من نفسي أكثر مما تضايقت من صلاح أبوسيف. هل هذا هو “الخواجة” الذي يتمتع بروح مصرية.

وماذا حدث بعد العرض؟
نزلت وصافحت يوسف شاهين مهنئًا وأخذته بالأحضان. تضايق المسؤول الكبير عن الرقابة في الوزارة، وكان حسن عبد المنعم، من وجودي. ودخلت معه في مناقشة حادة.
ما الذي تريدون حذفه من الفيلم؟ قال: ألا يوجد أحد في عائلتك من علماء الأزهر؟ قلت: جدي لأمي. قال: يرضيك منظر يحيي شاهين الأزهري وهو يبيع أهله للفلاحين كي لا يمر الطريق بأرضه؟ قلت: يرضيني.. ولا علاقة بين موقفه وبين جدي أو الأزهر.. 5 يونيو أيضا حدثت بنفس الطريقة وبأشكال أخرى من البيع والخيانة.. قال: وشخصية توفيق الدقن، أليست بدورها رمزًا للدين؟ قلت: تعتبرون مجاذيب الحسين من رموز الدين؟ قال: وحمدي أحمد المثقف “اللي بيتنطط زي القرد”. قلت: وما الذي يبقى من الفيلم إذا تمت كل هذه الحذوفات؟ لا أدري ماذا حدث بعد ذلك، لكن الفيلم عرض دون أي حذف. المهم أن ما حدث مع يوسف شاهين كان درسًا، ومن وقتها أصبحنا صديقين. قال لي يومها: أنت شايف برضه أن الأرض من وجهة نظر سائح؟! ووقتها أدركت أنه لم ينس عنوان المقال الذي نشر عام 1965. وهذا ما جعلني أنتبه إلى تأثير المقالات والنقد. لم أكن أعتقد أن النقد يؤثر في الفنان لأن الفنان أكبر من الناقد. كنت أعتقد أن الفنان لا يتكرر ولكن الناقد يتكرر. ربما يكون الناقد الجيد موهوبًا ولكن موهبته لا تقارن بموهبة نجيب محفوظ أو بلزاك أو بيتهوفن.

هي لحظة مهمة..
عرفت أن المثل الشعبي “ما عدوك إلا ابن كارك” صحيح جدًا. وصلاح أبوسيف ليس ملومًا هنا، بل أنا الذي لم تكن لدي مناعة كافية. وتوترت العلاقة بيننا، حتى إنه في بداية السبعينيات اشترك في إرسال برقية تطالب بمنعي من العمل في الأهرام. وقتها قال لي لويس عوض إن هيكل قرر إعادة ملحق الأهرام، وأن مجلس تحرير الملحق المكون من لويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم اختارني لتحرير صفحة عن السينما، وإن هيكل وافق وقال عندما تتفقون بالإجماع فهذا قرار. وذكر لي لويس عوض موعدًا لمقابلة هيكل، ولكن عشية الموعد التقى بي مرة أخرى وقال إنه في دهشة شديدة لأن الموعد ألغي بناء على احتجاجات من داخل الأهرام وخارجه، ومنها برقية من سينمائيين اشترك في التوقيع عليها صلاح أبوسيف.. قلت له إنني أدرك السبب ولا توجد مشكلة على أية حال!

وماذا فعلت مع صلاح أبوسيف؟
لم أخبره قط؛ لم أشأ إحراجه. لكني حزنت جدًا لموقفه بقدر ما لم أحزن بعدم انتقالي للعمل في الأهرام. لم تكن هذه المسالة مشكلة. منذ البداية اخترت الجمهورية وحققت ما حققته من خلالها.

هل استمرت العلاقة بينكما؟
استمرت وتطورت ونضجت. كان احترامي له كبيرًا دائمًا. وعبَّرت عن هذا الاحترام في دراسات عديدة عنه. أحببته بعد أن ترك “السلطة” أو تركته بعد وفاة عبد الناصر، مع أنني هاجمت بشدة فيلم (فجر الإسلام) فقد كان الفيلم استجابة لشعار “العلم والإيمان” الذي رفعه السادات. في الثمانينيات توثقت علاقتنا، وخاصة بعد دوري في إنتاج فيلم “البداية”. وفي السنوات الأخيرة من حياته اقتربنا من بعضنا كما لم نقترب قط. قبل يومين من وفاته ذهبت إليه في المستشفى وكان في غيبوبة، وبالمصادفة كانت زوجته خارج الغرفة، قبَّلت جبينه وانصرفت. إنني أكتب ما أشعر به تجاه أي فيلم دون حسابات من خارج الفيلم، أو هذا ما أسعى إليه على الأقل، ولا أتصور أن الخلاف في الرأي مهما كان يمكن أن يتسبب في كراهية.

ولكنه يؤثر..
لم أكن أتصور تأثيره، لكني أدركت ذلك عقب بعض ردود الفعل العنيفة..

غير نقد صلاح أبو سيف؟
طبعًا. قال لي سعيد شيمي إن مقالي عن فيلم (الغيرة القاتلة) أول أفلام عاطف الطيب أصابه بالإحباط الشديد. كنت قد التقيت مع عاطف للمرة الأولى في مكتب شادي عبد السلام، وشاهدت أفلامه القصيرة، وتوقعت أن يكون فيلمه الأول حدثًا. وقلت لسعيد إنني لا أحب أن أحبط أحدًا أو أسبب له أي ألم، قال: على أية حال ربما كان عنف مقالك من أسباب قوة فيلمه الثاني (سواق الأتوبيس). وقد اعتذرت علنًا في مقالي عن (سواق الأتوبيس) في الجمهورية عن مقال (الغيرة القاتلة) الذي نُشر في المُصور في أثناء منعي من العمل في الصحافة. وأصبحت وعاطف الطيب صديقين عزيزين، والحقيقة عندما أعرف أنني ضايقت أحد السينمائيين بمقال أغضب من نفسي.

لماذا؟
لأني لا أتوجه بمقالي للفنان، بل أتوجه بعملي إلى القارئ المتفرج لعلي ألفت نظره إلى أشياء تساعده على تلقي العمل الفني على نحو أفضل بحكم تفرغي لذلك العمل وبحكم عدم تفرغه. هذا هو الناقد بتعريف إليوت، وهذا هو الناقد كما أفهمه؛ متلق جيد، أو يفترض أنه جيد، ينقل تلقيه إلى الآخرين. إنه لا يتفوق على المتلقي العادي، بل يعرف تاريخ الفن وأسرار لغته، ولهذا يمكن أن يقدم للمتلقي العادي مفاتيح لا يراها. ربما لا يراها. قال سارتر النقد لقاء بين ثلاث حريات: حرية الناقد وحرية المبدع وحرية المتلقي. وكما قرأت سارتر مبكرًا وتأثرت به، قرأت إليوت مبكرًا عن طريق ترجمات رشاد رشدي وتأثرت به. وقد سعدت كثيرًا بترجمة ماهر شفيق فريد لأعمال إليوت النثرية الكاملة (يشرد بعيدًا للحظة) نفسي يكون هناك متحف لصلاح أبوسيف.. لقد اقتنع إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية بالفكرة وخصص لها ميزانية، ولكن محمد أبوسيف لم يوافق على المبلغ. أقنعت فاروق حسني بشراء مقتنيات أحمد كامل مرسي وفريد المزاوي ومحمد كريم. وكان لي دور في إنشاء قاعة شادي عبد السلام في مكتبة الإسكندرية. أحسن تكريم لاسم أحمد زكي أن يتحول مكتبه في شارع الهرم إلى متحف.
أرى الآن أنك تركز على فكرة المقتنيات والمتاحف والذكريات، وهو أسلوب فلاش باك في السينما…
وما الغريب؟ أنا فعلا فلاش باك!