رحلة البحث عن قبر المتنبي

فك ألغاز أبو سورة

مبين خشاني
صورة الغلاف: للسيد سلمان الخطيب في قبر المتنبي بهيئته القديمة قبل أن يتم إثباته وبنائه كما هو اليوم

هل قتل أجدادي المتنبي؟

لا أذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم المتنبي وعرفته، ولكني أذكر بالتأكيد المرة الأولى التي سمعت بها اسم “أبو سورة”، كان الاسم يرد في سياق الحديث كنقطة دالة لوصف أماكن قريبة من نهر دجلة، مثل جسر مدينة النعمانية، ومنطقة الكرادة الزراعية وغيرها من الأماكن في قضاء النعمانية غرب محافظة واسط.. كنت في سنوات طفولتي الأولى حين سمعت الاسم وبدأ يتكرر كثيرًا بعدها بحيلة يفعلها الدماغ حين تطرأ عليه معلومة جديدة. وكونت عن هذا الاسم صورًا عديدة، إنه اسم مكان بالطبع ولكن خيالات الطفولة صوّرته لي شخصًا يدير مكانًا للأفعال الشريرة، وهذا التصور سببه أن الاسم كان يستخدم كشفرة بين أولاد المنطقة إذا ما أرادوا الانطلاق في مغامرات صبيانية شقية فيها شيء من الخطورة بالنسبة لطفل مثلي. كانت الشفرة تحديدًا “مشروع أبو سورة”، وهو جدول متفرع من نهر دجلة يمتد عبر بساتين الكرادة لغرض إرواء الأراضي الزراعية غرب مدينة النعمانية. ومن خلال أحاديث أولاد المنطقة العائدين من “مشروع أبو سورة” بشعورهم المبلولة وجلودهم التي تجدد خلاياها بعد تعرضها لأشعة الشمس، بدأت أعرف تفاصيل أكثر عن المكان تخفَّز خيالي لكنها تُزيد الغموض ولا تبدده، عرفت أن مشروع أبو سورة هو فرصة الأولاد لممارسة السباحة الآمنة لأنهم يخافون من الشط، نهر دجلة، وهذا الخوف القادم من اعتقاد شعبي سائد وهو أن “الشط كل سنة يأكل واحد” لذلك يخاف أي ولد في عمر الصبا أن يكون هو الواحد الذي سيأكله شط دجلة.
بعد ذلك عرفت عن طريق العائلة أن أبو سورة هو اسم لمرقد الشاعر المتنبي، لم أكن أعرف عن المتنبي شيئًا سوى ما قالته لي أختي حين سألتها في تلك اللحظة “شاعر قديم لقب بالمتنبي لأنه قال عن نفسه بأنه نبي”.. بعد ذلك سرد لي أبي أخبارًا عن قبر المتنبي، لكنها كانت ضبابية لا أذكر منها الآن سوى أن سياج المرقد مسبوك عليه بيته الشعري الشهير “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي”.. كما حكى معلومة أخرى بسيطة عن مقتله وهي أن “الحكاية المشهورة هنا عن مقتله تفيد بأن قاتل المتنبي هو من قبيلة الكلابيين، قبيلتنا، ولكن هذا الأمر غير صحيح”. لم يزد أبي في التفاصيل ولم أسأله بعدها.

بعد فترة ليست قصيرة، اقتربنا من يوم 21 مايو/ آذار، مجمع الأعياد [عيد النيروز أو شم النسيم]. وهو يوم عيد تقريبا في كل العالم وكل الحضارات ولكن في بيئتنا اسمه عيد “الدخول” مع تفخيم اللام قدر المستطاع، ويعني الدخول في الربيع وقد ورد ذكره، أي العيد، بهذا الاسم في القصيدة العامية الشهيرة لمظفر النواب، قصيدة روحي التي يقول فيها (يلي شوفتك شبّاج للقاسم.. ودخول السنة من الكَاك). وطقس الاحتفال في هذا العيد هو الذهاب إلى أماكن خضراء فسيحة كالمروج والبساتين وتبادل الأكلات العراقية. وفي تلك السنة اختارت عائلتنا أن نقضي العيد في أبي سورة. وبلغ بي الحماس بأني بدأت أعد الثواني والدقائق كي يجيء وقت السفر، وقد جاء. وصلت أخيرًا إلى القبة التي كنت أراها من بعيد. وقفت تحتها وتفحصت أعمدتها الصلبة، قرأت كل كلمة مكتوبة في المكان، تلمست الأبيات الشعرية المسبوكة بالحديد على سياج المرقد، وركضت في ساحة المرقد، لعبت مع الأطفال، جربت الكثير من الأطعمة، وفي النهاية قررت بأنه المتنبي وليس أبو سورة، لأن الإجابة التي سمعتها من أبي في المرة الأولى لم تكن مقنعة لكنها بقيت الإجابة الوحيدة لفترة طويلة، إذ أخبرني حين سألته عن معنى الاسم بأن نبعًا أو عين ماء كانت بالقرب من المرقد، وفيها سورة ماء يراها المارة من على بعد، لكنها انطمرت فيما بعد.

مرت سنوات تكررت فيها الزيارات إلى مرقد المتنبي في مناسبات شتى، لكنني لم أتمكن من السباحة في”مشروع أبو سورة، ولم أتعلم السباحة حتى اليوم بسبب الخوف المتوارث من فم دجلة الشره. لكني عرفت خلال هذه السنوات أخبارًا أكثر عن المتنبي وحفظت الكثير من أبياته التي كانت موجودة في الكتب المدرسية، إلا أن قصة مقتله بقيت مبهمة مثل قصة لقبه. حتى استفزني ذات يوم دراسي مدرس اللغة العربية في الصف الثالث المتوسط، وكان درس الأدب يومها قصيدة للمتنبي مع سيرة مقتضبة مكونة من أسطر قليلة فيها اسمه ومولده وعلاقته بسيف الدولة. استفزني الأستاذ بأن قال “إن من قتل المتنبي هم أعمام هذا الزلمة”، وأشار بأصبعه نحوي. لم انزعج لقوله ذلك لأنها كانت وقتها نكتة مكررة وغير مؤثرة، لكن المزعج في الأمر أن هذه القصة غير صحيحة ولا أعرف كيف ترسخت في الخيال الشعبي لمنطقتنا. خصوصًا وأن قصة مقتل المتنبي مشهورة وترد في العديد من المراجع لكن صلابة الخيال الشعبي من الصعب كسرها، بالإضافة إلى أنه لم يتصدى أحد لهذه المهمة.

قبر المتنبي الآن

وردت قصة مقتل المتنبي في الفصل الأخير الذي عنوانه غنيمة الإياب من كتاب (مع المتنبي) لطه حسين. وأحب أن أوردها هنا كما وردت في الكتاب “وقد انتهى إلى واسط، فيما يقول الرواة، في شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وثلثمائة، بعد أن ألم بالأهواز، فلما انتهى إلى واسط نزل على صديق له يعرف بأبي نصر محمد الجبلي، وهذا الصديق هو الذي كتب إلى الخالديين بما عرف من جلية أمر المتنبي، بعد أن فارقه وخرج من واسط قاصدا إلى بغداد، وليس عندي ما يحملني على الشك في خبر أبي نصر الجبلي هذا، فالصدق ظاهر فيه، وهو ملائم كل الملاءمة لطبيعة الأشياء، وخبر أبي نصر الجبلي هذا معروف، فهو قد أنبأ الخالديين في كتابه بأن فاتگا الأسدي، خال ضبية القرمطي، الذي هجاه المتنبي في الكوفة قبل رحيله إلى ابن العميد، قد نزل به قبل مقدم المتنبي على واسط بأيام، وجعل يسأل عن المتنبي حتى ارتاب الجبلي بسؤاله، ثم لم يشك في أنه يريد به السؤال لينتقم لابن أخته ويرد عنه وعن نفسه عار ذلك الهجاء القبيح، وجعل الجبلي يرد فاتگا عن هذا الشر الذي أضمره، فلم يبلغ منه شيئًا، فلما وصل المتنبي إلى واسط حذّره الجبلي من فاتك هذا، ونصح له أن يستصحب الأحراس، فأبی مستکبرًا، وعرض عليه أن يتولى هو حراسته بإرسال نفر من أصحابه يسيرون بمسيره وينزلون بنزوله، فأبی مستكبرًا أيضًا، وخرج وليس معه إلا ابنه وغلمانه، فلما كان في بعض طريقه إلى بغداد، قريبًا من دير العاقول، تلقاه فاتك وأصحابه من الأعراب، فكان بينهم شيء من قتال، ثم كثره فاتك بأصحابه فقتلوه وقتلوا ابنه وغلمانه جميعًا، وأخذوا ما كان معهم من متاع وكتب ومال”..

قصة القتل هذه مؤيَّدة، وترد في أغلب المصادر والتراجم، لكن طه حسين سجّل بعض الملاحظات على دوافع القتل وأسبابه وهي ملاحظات تؤخذ في الاعتبار، وبعده كثيرون بحثوا دوافع قتل المتنبي وكل له نظريته الخاصة في هذا الأمر. الغريب أن طه حسين لما سجل ملاحظاته على قصة المقتل أورد ذكر ضبة ونسبه لبني كلاب وقال عنه ضبة الكلابي. على الرغم من أن، ضبة، يرد في الكثير من التراجم والمراجع مثل الأعلام للزركلي، وأعيان الشيعة للأمين، وحتى في تجارب الأمم لابن مسكويه، أو في أخبار ابن الأثير بأنه ضبة الأسدي العيني، ولم يرد ذكره ككلابي إلا في كتاب طه حسين، بل زيادة على ذلك ورد ذكر ضبة في شروحات ديوان المتنبي بإن الكلابيين قتلوا أباه وفسقوا بأمه. لا أعرف تداعيات ذكر طه حسين لضبة بهذا النسب، ولعل هذا هو جذر الاعتقاد الشعبي السائد بأن قتلة المتنبي من الكلابيين.

ما ذكرته أعلاه من قصة مقتل المتنبي وملاحظات طه حسين ونسبة ضبة للكلابيين، صار جوابي الذي أردُّ به على من يقول إن قتلة المتنبي من عشيرتي، وكنت أشعر أنني بهذه الطريقة أتخلص من عبء تركة ثقيلة لا ذنب لي فيها، خصوصا وأن الشاعر لا ينسى ثأره، ولا طاقة لأحد مثلي أن يحمل هم مقتل مالئ الدنيا وشاغلها. وأنا هنا بكل تأكيد لا أعكس نزعة قبلية لأنني وبكل صراحة ليس لدي مثل هذا النزوع، ولكني أتطهر من هم كان مرافقًا لي في سنوات طفولتي وصباي، خصوصًا مع ازدياد حبي للمتنبي بمرور الوقت، حيث صار مرقده سلوتي وصرت زائرًا دائمًا له، وحين يزورني بعض الأصدقاء من المحافظات الأخرى كنت آخذهم إلى المرقد وأسرد لهم قصتي معه.

محاولة فك الألغاز

يروي الدكتور عادل البكري الطبيب والشاعر والكاتب العراقي (1930-2018)، في حوار له منشور على موقع مؤسسة الكوثر الثقافية، قصة اكتشاف قبر المتنبي “اكتشفت في 1964 في الفترة التي كنت فيها مديرًا لصحة واسط قبر الشاعر المتنبي، فبعد التحاقي مديرًا عامًا لصحة واسط قمت بجولات تفتيشية لجميع أقضية ونواحي المحافظة للتأكد من سير العمل فيها، ومن جملة هذه الأقضية قضاء النعمانية فالتقيت مع القائممقام، وذكر لي أن قبرًا يقال له “أبو سورة” قريب من النعمانية لشاعر مجهول لا يعرف من هو، قُتل في هذا المكان، وخطر ببالي أنه الشاعر المتنبي فرجعت إلى المصادر التاريخية وكانت أكثر من عشرة مصادر، تذكر كلها أن المتنبي قُتل في قرية (جَبُّل)، فرجعت إلى النعمانية وأجريت كشفًا على المكان فلم تظهر لي آثار قرية من قريب أو بعيد، فراجعت القائممقام الذي لم يكن من أهل البلدة، فدعا جماعة من وجهاء البلدة وسألهم، فأكدوا وجود آثار لقرية في وسط النهر، قريبة من الضريح تدعى (يبّل) بإبدال الجيم ياءً، فقلت إنها هي وقد أغرقها النهر، رجعت إلى مركز المحافظة واتصلت عن طريق المحافظ بأمانة بغداد ومديرية الآثار العامة والمجمع العلمي العراقي وبعض الشخصيات الأدبية، فحضروا إلى النعمانية وعاينوا الضريح، وقرَّ رأيهم واتفقوا على أنه قبر المتنبي وتقرر بالحال تجديد الضريح وإقامة مهرجان دولي للمتنبي مع نصب تمثال له في بغداد.

ويذكر البكري أن المتنبي يقال له أبو سورة في مدينة النعمانية، وأنا أعتقد أن الاسم جاء نسبة لنهر سورا في قربة جبُّل شمال مدينة النعمانية، حيث يرد ذكر هذا النهر في الصفحة (24) من كتاب تاريخ الكوت للبكري نفسه، في سياق ذكر أنهار الكوت “ونهر سورا الذي يتفرع منه نهران عظيمان يخترقان بلدة جَبُّل). ثم يعود البكري في الصفحة (47) من كتابه ويذكر أن قرية جبُّل قد اختفت معالمها “ولم يبق من بلدة جبّل شيء في الوقت الحاضر، وقد زالت معالمها نهائيًا، وطغى على آثارها نهر دجلة حتى لا يكاد يرى منها سوى جزء صغير من بنيانها في وسط النهر، في موضع بين الكوت وناحية الأحرار”. وهنا يحصل لبس كبير لأن ناحية الأحرار تقع جنوب مدينة النعمانية، وبذلك يتضارب نص حوار البكري مع نص كتابه، ولربما سبب هذا اللبس هي معلومة قائممقام مدينة النعمانية الذي أخبره بوجود قبر أبو سورة في قريبة يبّل شمال النعمانية. تعددت الروايات حول مكان مقتل المتنبي ولكن ما تكرر في أكثر المصادر هو أن واقعة القتل حدثت في دير العاقول، وهي الأقرب إلى الصحة حسب طرح الدكتور عبد الوهاب عزام في كتابه (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام)، حيث قام بزيارة ميدانية إلى مدينة النعمانية ووصل دير العاقول سنة 1926؛ أي قبل أن تكتشف لجنة البكري القبر عام 1964. ويورد الدكتور عزام في كتابه أنه سأل أعرابًا كانوا قد نزلوا هناك عم إذا كانت توجد أرض أخرى هنا تسمى أرض الدير فنفوا، وسألهم عن أسماء العاقول وقنى وصافية ولكنهم نفوا ذلك جازمين، وهذا يؤكد ما أورده البكري في كتابه بأن دير العاقول قد زالت معالمها بفعل نهر دجلة. ويضيف عزام بأن المسافة بين الأرض التي نزل فيها وبغداد هي ستة عشر فرسخًا، وهي مقاربة للمسافة بين بغداد ودير العاقول التي تبلغ خمسة عشر فرسخًا كما وردت في معجم البلدان وغيره.
هذا الموضوع لغز لا يمكن حسمه بسهولة، خصوصًا وأن من الواضح أن صاحب رواية مقتل المتنبي أبو نصر الجبّلي، لقبه منسوب إلى قرية جبّل التي ذكرها البكري.

(الصورتان من كتاب “ذكرى المتنبي بعد ألف عام” لعبد الوهاب عزام)

زيارة إلى القبر

ظل الأمر يشغلني لفترة حتى تمكنت من زيارة العلامة السيد حبيب الخطيب (1941-2021) قبل شهر تقريبًا من وفاته، ويعد الخطيب من وجهاء مدينة النعمانية وهو وكيلًا لمرجعيات النجف منذ مرجعية محسن الحكيم وصولًا إلى السيستاني فضلًا عن كونه أحد أعضاء لجنة اكتشاف قبر المتنبي، سألته عن قصة اكتشاف القبر فأملاني النص الآتي “بتشجيع من والدي والدكتور عادل البكري واهتمام الدكتور مصطفى جواد، أثير موضوع معرفة مكان قبر المتنبي، وتشجعت الدولة، بعد أن حضر إلى النعمانية عند والدي بدعوة منه كل من الدكتور مصطفى جواد، الدكتور أحمد سوسة، الدكتور عبد الجبار البصري وجماعة كبار من أهل الفكر. وقاموا بزيارة إلى القبر وتصويره على حالته واستنطقوا بعض سكان المنطقة وبعد ذلك أصدرت وزارة الإعلام أمرًا بتعيين لجنة لمعرفة حقيقة هذا القبر واللجنة تضم كل من ذكرنا أنفًا مضافًا اليها السيد سلمان الخطيب (والدي) والدكتور عادل البكري، حضر العدد مكتملًا وبعدها مرض السيد سلمان الخطيب فأنابني للحضور بدلًا عنه وبتعيين رسمي. وتأكدت اللجنة من المصادر التاريخية ان هذا القبر هو قبر المتنبي وبادرت الدولة ببنائه كما هو اليوم، وقامت احتفالات سنوية لزيارته من قبل جمهرة من الشعراء والأدباء لإنشاد الشعر عند قبره من شعره وأشعارهم”.


(صورة للجنة إثبات قبر المتنبي عام 1964 ويظهر فيها كل من د. مصطفى جواد، د. أحمد سوسة، د. خليل العطية، د عادل البكري، د. فيصل الوائلي، السيد سلمان الخطيب، السيد حبيب سلمان الخطيب، قائمقام النعمانية وآخرون).


(صورة يظهر فيها الدكتور عادل البكري والسيد سلمان الخطيب في المناسبة ذاتها)

بعد ذلك سألته عن سر تسميته بأبي سورة فأجابني “تأكدت اللجنة أن المتنبي من أبناء محلة (سورا) بالكوفة وهذا هو سبب تسميته “بو سورة”، ولكن لم يرد في حوار البكري ولا في كتابه هذا التعليل لتسمية المتنبي بأبي سورة وللأسف لم أستطع الحصول على وثائق تخص لجنة التحقق من القبر ولا على أي نص يوثق أعمال هذه اللجنة سوى ما ذكره البكري، وما أملاني إياه السيد حبيب الخطيب. من المتفق عليه أن المتنبي ولد في محلة كندة في الكوفة، أما قرية سورا التي ذكرها لي الخطيب فهي قرية تقع في بابل -الحلة وعُرفتْ بأنها محلة للسريان وفيها نهر، ذكره ياقوت الحموي، يعرف بنهر سورا ومجراه ما بين قرية ذي الكفل وبين قرية القاسم، ويعرف بأنه أكبر أنهار الفرات. كذلك تعرف سورًا أيضًا بجسرها ويسمى جسر سوراء، وهو يربط بين الكوفة والمدائن وبغداد وكان معبرًا للجيوش الإسلامية أيام الفتوحات العربية كما يذكر بشير يوسف فرنسين في موسوعة المدن والمواقع في العراق. ووفقًا ما يرد في بعض المصادر بأن المدائن وشمال الكوت حيث دير العاقول كانت تسمى بسواد بغداد، وعليه أقول لعل قرية سورا كانت تُنسب لسواد الكوفة لكني لم أجد ما يربط المتنبي بهذه القرية حتى ينسب إليها. 

ورد اسم نهر آخر في سورا، ذكره الإدريسي وياقوت، واسمه نهر الصراة وقال عنه الإدريسي” نهر صغير يسمى الصراة، يصب ماءه في الجانب الغربي من بغداد فيسقي بساتينهم وضياعهم ويدخل المدينة فينتفع به ويشرب منه ونهر عيسى تجري فيه السفن من الفرات إلى بغداد وليس به سد ولا حاجز وأما نهر الصراة فلا تقدر السفن على ركوبه، ولها ديوان مفرد من أجل الدواوين وتنفجر فيها أنهار كثيرة تشق أسواقها ومحلاتها وعليها المباني والدور والبساتين والضياع”، وتوجد خريطة لأرض العراق أوردها عزام في كتابه آنف الذكر، ويظهر فيها نهر الصراة ويتضح بها مساره الذي يتفرع من نهر الفرات ويصل إلى مدينة النعمانية حيث قبر المتنبي حاليًا. ونفس هذه الخريطة أوردها يوسف أحمد الشيراوي في كتابه (أطلس المتنبي) الذي يتتبع فيه سيرة المتنبي جغرافيًا، وتمثل الخريطة أرض بغداد أيام ياقوت. إضافة إلى خريطة ثانية أوردها الشيراوي لعودة المتنبي من فارس إلى الكوفة، وهي العودة التي لم تتحقق. لعلي هنا أكون قد وصلت إلى أطراف خيوط تخص ألغاز قبر المتنبي وتسميته بأبي سورة لكن لا أستطيع حسم الأمر والجزم بأي شيء. أنا قمت بمغامرة يستحقها مالئ الدنيا وشاغل الناس لأنه حتى وبعد كل هذه السنين على وفاته لا تزال تثار حوله الموضوعات وتنجز فيها اكتشافات مهمة. لا أنكر أن دوافع المغامرة لم تنته عندي، وقد أعود إلى تكرارها مرة أخرى من أجل الحصول على أجوبة شافية للطفل الذي كنته، طفل يحب المتنبي ويرفض أن يتحمل وزر قتله، ويخاف أبو سورة بسبب مغامرات أولاد الحي الأشقياء.

(خريطة أرض العراق كما وردت في كتاب عبد الوهاب عزام)


(خريطة سواد بغداد أيام ياقوت، ويظهر فيها نهر الصراة ومساره كما وردت في كتاب أطلس المتنبي للشيراوي)


(خريطة لطريق عودة المتنبي من فارس إلى الكوفة كما وردت في كتاب أطلس المتنبي للشيراوي)