المطبخ الأمريكي.. لماذا تفضله السينما ولا تختاره نساء الطبقة الوسطى في مصر

هبة الصغير

 

أذكر وأنا صغيرة أني كنت أجلس جوار أمي وأبي واخوتي نشاهد جميعًا مسلسل “من الذي لا يحب فاطمة” من إنتاج عام 1996، ولم أكن أفهم كل ما يحتوي عليه المسلسل من أحداث نظرًا إلى صغر سني وقتها، لكن شيئين حازا على انتباهي؛ الأول هو عنوان المسلسل الذي كنت أحبه، لأن عمتي اسمها فاطمة. والثاني شكل مطبخ مارجريت (أو فاطمة بعد دخولها الإسلام ضمن أحداث المسلسل)، وهو مطبخ مفتوح على الصالة بمنزلها في النمسا، كراسيه برتقالية تشبه كراسي البار، حيث يجلس عليها الشخص في مقابل الطاهي انتظارًا للطعام.

لم أكن الوحيدة التي لفت نظرها هذا المطبخ؛ فقد كان لافتًا للكثيرين، وعلى وجه الخصوص النساء اللاتي، بإرادة منهن أو بغير إرادة، أصبح المطبخ جزءًا لا يتجزأ من حياتهن ودورهن في المجتمع. أعجبت الكثير من السيدات بذاك المطبخ، لكني لم أره في بيت إحداهن.

لقطة من مسلسل من الذى لا يحب فاطمة توضح شكل المطبخ المفتوح

ليس جديدًا كما ظننا

حاولت إنعاش ذاكرتي خوفًا من أن تكون قد خانتني بعد مرور كل تلك السنوات، بشأن ردة فعل العديد من السيدات حول المطبخ المفتوح الذي ظهر بمسلسل “من الذي لا يحب فاطمة”، لذا أرسلت إلى عدد من أمهات صديقاتي اللاتي كن يتابعن المسلسل. وجاءت ردودهن متشابهة تتمحور حول الاختلاف والجدة مثل “كان جديدًا لم نكن رأينا تصميمًا كهذا من قبل”، أو “كان لافتًا وجديدًا”، أو “كان مختلفًا وجميلأ”.

في الواقع لم يكن تصميمًا جديدًا ولم يكن جديدًا على الشاشة المصرية أيضًا خصوصًا الشاشة السينمائية. ظهر التصميم الأول لمطبخ مفتوح على غرفة المعيشة في أوائل الثلاثينيات من خلال رسم المعماري الأمريكي الشهير فرانك لويد رايت Frank LIoyd Wright لبيت الزوجين مالكوم ونانسي ويلي Malcolm and Nancy Willey[1] قبل أن يظهر بالأفلام والمسلسلات.

أحب أن أقسم فكرة المطبخ المفتوح إلى قسمين؛ المطبخ المفتوح بالكامل على الصالة والمطبخ المفتوح جزئيًا بعمل فتحة في الحائط، أو بمعنى أصح شباك بعرض الحائط مع الاحتفاظ بباب المطبخ في بعض الأحيان. ويمكن القول إن مطبخ ويلي الذي رسمه فرانك لويد رايت كان مفتوحًا جزئيًا. وبحلول خمسينيات القرن العشرين كان المطبخ المفتوح هو الموضة الجديدة وبدأ في الظهور بأشكاله المختلفة سواء المفتوح جزئيًّا أو كليًّا والانتشار السريع بالبيوت الأمريكية لذلك سمي “المطبخ الأمريكي” بدلأ من “المطبخ المفتوح”.

بالطبع المطبخ المفتوح يعطي خصوصية أقل، لكن المدافعين عنه يقولون إنه يعطي فرصة للاجتماع أكثر، مشيرين إلى ميزة قد يراها البعض عيبًا، وهي تمكن ربة المنزل من تحضير الطعام، وفى نفس الوقت الاستماع لما يجري خارج المطبخ والمشاركة فيه، بل وربما جلس مجموعة من الأصدقاء يشاهدون عملية الطهي نفسها، حيث تصبح ربة المنزل أو الشخص المسؤول عن تحضير الطعام المركز. ازدادت فكرة وجود المطبخ المفتوح ببيوت الأمريكان مع نزول المرأة للعمل واستغراقها وقتًا أقل بالمطبخ، بل والاعتماد على الوجبات السريعة التي لا تتطلب استخدامًا كثيفًا لأدوات المطبخ.

لم يكن مهندسو المناظر السينمائية المصريين بمعزل عن تلك الصيحات العالمية؛ فحين كبرت قليلأ وبدأت متابعة الأفلام القديمة التي كانت تعرضها القناة الأولى المصرية، لفتني المطبخ المفتوح بفيلم من إنتاج عام 1956 وهو فيلم “علموني الحب” من تصميم المهندس ماهر عبد النور.

في ذاك الفيلم نرى مطبخًا شبه مفتوح على الصالة ببيت نوال (تقوم بدورها إيمان) شباكه أمام طاولة الطعام مباشرة. كان البيت ككل جميلأ وأنيقًا وبسيطًا في الوقت ذاته، لا يستخدم الأثاث الضخم المليء بالزخارف والحلي ولا يستخدم الأفكار الكلاسيكية في تقسيم المساحة، بل اعتمد فكرة الدرجات المنخفضة التي تفصل بين أجزاء البيت دون الحاجة إلى أعمدة ضخمة تأكل من مساحة البيت.

إلا أن المسلسلات على وجه التحديد هي التي تدخل كل بيت وفى الغالب في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة كانت ماتزال الأسرة تجتمع أمام التليفزيون لمشاهدة المسلسلات، لذلك بدأ النقاش حول المطبخ المفتوح الذي اعتبره الكثيرون “جديدًا”، لكنه في وقع الأمر لم يكن كذلك كما رأينا. ومع كل الأحاديث التي دارت حول جمال المطبخ وفكرته “الجديدة” إلا أن القليلين هم من فكروا في تصميم مماثل.

لقطة من فيلم (علموني الحب) 1957 توضح شكل المطبخ وتظهر بالخلف وحدات إضاءة مارياتن براندت من مدرسة الباوهاوس

ليس مجرد مكان للطهي بالنسبة للمرأة المصرية

سوف أضع المقدرة المادية التي قد تقيد رغبة أسرة من الطبقة الوسطى في إعادة هيكلة بيتها للحصول على مطبخ مفتوح -مثل ذلك الذي شاهدته في مسلسل “من الذي لا يحب فاطمة”- وسوف أفند السبب الأهم، وهو هنا سبب اجتماعي سياسي.

في العالم العربي، وفي مصر على وجه الخصوص تطهو النساء أكلات معقدة تحتاج إلى وقت ومجهود، واستخدام أواني عدة، ومن تلك الأكلات، وأشهرها المحشي. يتطلب إعداد المحشي الكثير من الوقت، مقارنة بأكلات أخرى كثيرة. وتساءلت هل يمكن لامرأة أن تقوم بعمل حلة محشى منذ البداية وإلى النهاية أمام الضيوف! في أغلب الظن إن أقدمت على عمل حلة محشي، وكان لديها مطبخًا مفتوحًا فسوف تحتاج إلى تحضير الطعام، وغسل الصحون قبل وصول الضيوف، فتكون الوجبة جاهزة فقط للتسخين، والمطبخ جاهز لأعين الناظرين، مما يتطلب وقتًا إضافيًا قبل وصول الضيوف.

وكلما ازداد عدد أفراد الأسرة كان من الصعب السيطرة على المطبخ والحفاظ عليه مرتبًا وجاهزًا لأعين الضيوف لوقت طويل. الكثير من النساء المصريات يعتبرن المطبخ مساحة لا بد أن تتمتع بخصوصية، والكثير منهن ينطلقن من المبدأ القائل إن “بيوت الناس عورات”.

الأمر الثاني، وهو الأهم أن للمطبخ في حياة السيدة المصرية أهمية سياسية؛ إذ تجتمع فيه النساء في أثناء العزائم، ويبدأن في سرد مشكلاتهن مع الرجال، بينما ينتظر الرجال بالخارج متأهبين لما لذ وطاب من الأصناف. وحرمان النساء من تلك المساحة المغلقة يعني حرمانهن من تلك المشاركة لأنه في وجود ضيوف كثر يراقبون كل شيء من نافذة مفتوحة يصعِّب ذاك الاجتماع السياسي.

ولقد عرفت من بنات جيلي الكثيرات ممن تمنين مطبخًا مفتوحًا بسبب لشكله الأنيق وارتباطه بالانتماء لطبقة معينة من النساء خصوصًا نساء الطبقة العليا والنساء ذوات الخلفيات الأوروبية أو الغربية أو الفنانات. حاولت معظمهن الالتفاف على ظهورهن للضيوف في أثناء الطهي، أو ظهور المطبخ في صورة غير لائقة أمام الضيوف بغلقة من الجانب المطل على صالة استقبال الضيوف وفتحه من الناحية المطلة على غرفة المعيشة التي من المفترض استقبال الضيوف الأكثر قربًا بها مثل أقارب الدرجة الأولى. أو استعمال شباك يطل على المائدة مع إغلاقه وقت اللزوم.

لذا أصبح المطبخ المفتوح بالكامل مرادفًا للخروج على التقليد، ومرادفًا للمرأة العاملة أو الفنانة التي تعد وجبات سريعة لا تتطلب قلب كيان المطبخ. أصبح المطبخ الأمريكي مرادفًا للشخصية المنفتحة على الحوار مع الرجال والنساء على حد سواء، لا النساء فقط في مساحة مغلقة، ويتجلى ذلك بقوة في أفلام الألفية الثالثة.

“أصحاب ولا أعز”.. المطبخ المفتوح وأفلام الألفية الثالثة

ارتبط المطبخ المفتوح دائمًا بالذوق الحديث (المودرن) وأقصد به البيوت التي تخلت عن الزخارف والأثاث الضخم والديكورات الكلاسيكية، وتبنت الأشكال الهندسية البسيطة ودمج الفن بالتكنولوجيا واستخدام الأثاث متعدد الأغراض والأثاث المدمج built-in. فمن الصعب أن تجد المطبخ المفتوح ببيت كلاسيكي أو قصر على الطراز الكلاسيكي. المطبخ المفتوح دومًا مرتبط بالذوق الحديث للبيت.

ويُلاحظ أن في أفلام الألفية الثالثة التي صورت بيوتًا على الطراز الحديث بمطبخ مفتوح قد جعلتها للعائلات التي لا يزيد أفرادها على أربعة أشخاص، إن لم يكن أقل، والنساء بها إما مشتغلات بمهن ذات صلة بالإعلام أو الفن، أو يترأسن مناصب عليا بأشغالهن أو ذوات خلفيات اجتماعية أوروبية أو غربية.

ومثال على ذلك فيلم (احكي يا شهرزاد) إنتاج عام 2009، مع شخصية هبة المذيعة (تلعب دورها منى زكى بالفيلم) فقد اختار مصمم المناظر محمد عطية لبيتها مطبخًا مفتوحًا بالكامل، ونراها تعد من خلاله أشياء بسيطة كالتوست والسندوتشات والسلطة. وأيضًا في فيلم (الأصليين) إنتاج عام 2016 اختار مصمم المناظر محمد عطية كذلك مطبخًا مفتوحًا بالكامل على الصالة لبيت ثريا؛ الفتاة غير التقليدية ابنة السفير التي عاشت في أكثر من دولة حول العالم لطبيعة عمل والدها مما ساعد على تنمية حس فني مميز لديها.

في فيلم (آسف على الإزعاج) إنتاج عام 2008، نرى أسرة صغيرة مكونة من أب وأم وابن. تعمل الأم مديرة بنك ولا تمتلك الكثير من الوقت لطبخ وصفات معقدة. نرى البيت في معظمه (فيما عدا غرفة مكتب الاب) على الطراز الحديث، وإن بدا المطبخ المفتوح المستخدم تقليديًا نوعًا ما.

أما في فيلم (لا مؤاخذة) إنتاج عام 2014، فقد استخدمت مصممة المناظر هند حيدر لبيت البطلة (كندة علوش)، وهي عازفة تشيلو بالفيلم، مطبخًا شبه مفتوح حيث يطل شباك بعرض الحائط على السفرة، وهي فكرة مناسبة لشخصية أبوين مع حبهما للابتكار والذوق الحديث والتنظيم فإنهما ليسا منفتحين بالقدر الذي يجعلهما يفكران في المطبخ المفتوح بأكمله. وكما قلت سابقًا فالمطبخ الذي يطل من خلال شباك مفتوح على الصالة هو الحل الأنسب لامرأة من الطبقة الوسطى التي تريد أن تجاري الفكر الحديث، ولكن ليس بكل تفاصيله التي قد لا تتناسب مع شخصيتها.

في عام 2022 أطلقت منصة نتفليكس النسخة العربية من فيلم “Perfect Strangers” الإيطالي الذي اتخذ الاسم العربي “أصحاب ولا أعز”. في هذا الفيلم اختار مصمم المناظر مطبخًا مفتوحًا بالكامل على الصالة، مع أن الفيلم الأصلي استعمل مطبخًا عاديًا بابه زجاجي مؤطر بخشب أبيض، حيث يمكن رؤية الطاهي من خلال المربعات الزجاجية للباب، إلا أن المسافة بين المطبخ والمائدة لا تعطي مساحة كبيرة للتفاعل بين من بداخل المطبخ وخارجه. وفي النسخة العربية للفيلم نرى الزوج الذي يقوم بإعداد الطعام مع زوجته، ثم حين ينسحب قليلأ للترحيب بالضيوف في بعض المشاهد تتجمع النساء ويهمسن في آذان بعضهن بعضًا، كي لا يسمع الرجال محادثتهن التي تدور حول أزواجهن. الفيلم بمفرداته وما جاء في تصميم مناظره حالة تمثل لانفتاح الشخصيات الظاهري على بعضها بعضًا وقبول حالة النقاش التي تتضمن الرجال والنساء معًا، لا انفصال بينهما ولا فصل تعسفي أو إسناد أدوار جندرية معينة للنساء على حساب الرجال؛ كتحضير المائدة-كما قد يحدث في بعض تجمعات الأصدقاء من الطبقة الوسطى -إلا أنه بنهاية الأمر يعود الفريقان بالفيلم إلى بعضهما بعضًا ويهمسان ضد الفريق الآخر!