غلاف كتاب رحلتي حول العالم، درية شفيق

درية شفيق: رحلتها حول العالم

كتاب نادر

أسماء يس

أن تسافر امرأة مصرية وحدها في رحلة حول العالم كان أمرًا مستحيلاً في منتصف القرن العشرين، والسفر حق اكتسبته النساء تدريجيًّا، كان مجرد خروج المرأة من بيتها يعرضها للانتقاد، فكيف بالسفر بعيدًا دون وصاية أو صحبة أب أو أخ أو ابن! لكن درية شفيق فعلتها؛ سافرت في رحلة طويلة، شرقًا وغربًا، وحدها. فعلتها مرة واحدة، وهو أمر يحتاج إلى قوة كبيرة.. صحيح أنها سافرت للدراسة في باريس وهي في العشرين من عمرها، لكنها عادت مرة أخرى لتحقق حلمًا قديمًا؛ فقد عرفت في درس الجغرافيا الأول، وهي طفلة، أن الأرض كروية؛ فأرادت أن تتحقق من كروية الأرض! لكنها عندما قامت بهذه الرحلة كان لديها أهداف إضافية كبرى.
دائمًا كان هناك فارق كبير بين خطوتها الواسعة لتحقيق أهدافها وبين الوعي بالعالم وشروطه، كانت درية ترفع لافتات تعلن بها عما تدافع عنه، ودائمًا كانت واحدها، ترى في نفسها صوت المرأة المسلمة، وصوت المرأة المصرية، وصوت الساعين للحرية، وفي مجتمع كان، ولا يزال، ينزعج من الأفراد الذين يمثلون أنفسهم، ولا ينضوون تحت راية الجماعة، كان ما تفعله صادمًا، ومثيرًا للدهشة، بل ومثير للعداء، لكنها أيقنت ألا شيء مستحيل وأننا ما دمنا لا نطلب القمر فكل شيء ممكن وميسور. 
سافرت درية لتبحث عن الحقيقة المطلقة، وتجاوزت فكرة كونها امرأة تكسر كل القواعد وتتجول بين العواصم وحدها؛ كانت تُعامل كما يُعامل رؤساء الدول، وتُستقبل استقبالاً يستحقه المتميزون. وعادت لتدون تفاصيل رحلتها في كتاب بعنوانرحلتي حول العالم“.. لهذا كانت هذه الرحلة تكريسًا تامًا لها كامرأة مستقلة، لا تمثل إلا اسمها، لقد خرجت نهائيًّا من حدود المجال، فكانت الريادة، وكانت اللعنة..

دعوات منهمرة

في 1954 تلقت درية شفيق خطابًا من جارلاند إيفانز هوبكنز، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية الأصدقاء الأمريكيين في الشرق الأوسط، يدعوها فيه لزيارة الولايات المتحدة في جولة تستمر لستة أسابيع، لتحاضر في عدة محافل أمريكية بشأن القضايا والمشكلات التي تواجه المرأة المصرية المعاصرة. وكانت فرصة سعيدة، وافقت عليها، ورأت أن تجعلها رحلة طويلة تجوب فيها العالم.
بعد إضرابها عن الطعام في أوائل 54، اعتراضًا على تشكيل لجنة تأسيسية خالية من النساء لوضع الدستور الجديد لدولة يوليو، فاقت شهرتها محيط الشرق الأوسط؛ شرق أوسط الكرة الأرضية، ونشرت وكالات الأنباء أخبارًا عنها وعن ورفيقاتها، وتلقت دعوات من كل أنحاء العالم بصفتها زعيمة وصاحبة دور استثنائي. وكانت هذه فرصة للاستجابة للدعوات، والتأكيد على سعي المرأة في مصر إلى مساحة أكبر ودور جديد.
كانت الرحلة تحتاج إلى مئات الجنيهات، وهو مبلغ تستطيع محفظة زوجها أن تقدمه، لم يكن نور الدين رجائي يبخل عليها بكل ما يستطيع تقديمه. فرتبت أمرها على أن تمر على روما ولندن وباريس قبل السفر إلى أمريكا، وأن تمر في طريق عودتها عبر المحيط الهادي بطوكيو وكلكتا ودلهي وكوالالمبور وكراتشي وبيروت، وكأن الخطة كانت أن تتأكد فعلاً من أن الأرض كروية!

بأي لغة تظنين أنك ستحاضرين الأمريكان؟

سألها نور، وانتبهت أن إنجليزيتها لا تمكنها من إلقاء محاضرة بالإنجليزية بالطلاقة نفسها التي تحاضر بها بالفرنسية أو العربية، كان أمامها شهر واحد قبل السفر فأرسلت برقية للجمعية الأمريكية تخبرهم فيها أنها أجَّلت موعد وصولها، وقررت البدء في دروس مكثفة للإنجليزية، مستعينة بأسطوانات مسجلة، بمساعدة ابنتيها وإحدى صديقاتها؛ على أن تدرس درسًا واحدًا في اليوم.
قبل سفرها تلقت خطابًا من مارجريت كوربت أشبي؛ السياسية والنسوية البريطانية، تخبرها أن الجميع متشوقون لسماعها، وأنها رتبت لها لقاءً مع بعض البرلمانيات في مجلس النواب. واقترحت أن تلقي محاضرتها حول وضع المرأة القانوني في ظل النظام الجديدنظام يوليو“. في 19 أكتوبر 1954؛ وقَّع جمال عبد الناصر اتفاقية الجلاء مع إنجلترا، وفيه بدأت درية رحلتها، بعد أن لوحت مودعة أسرتها وزميلاتها عضوات جمعية بنت النيل في مطار القاهرة.

الكفاح المرير

على مدى رحلتها تتبعتها الصحافة، وطاردتها بأسئلة بشأن ما يحدث في مصر، ولم يكن ما يحدث في مصر يعجبها، كانت دولة الضباط تتجه اتجاهات طالما انتقدتها، كانت الحرية والحقيقة، وهما اللذان سعت إليهما دائمًا، في خطر داهم، خصوصًا وقد بدأ عبد الناصر حملة الاعتقالات الشهيرة، لذا حاولت أن تتحاشى ذكر الحكومة المصرية في مقابلاتها، وهو ما لم يغفره لها النظام الجديد أبدًا.

كان واضحًا في ذهن درية أن هذه الرحلة ليست للمتعة الشخصية والفسحة، بقدر ما هي للتعريف بالمرأة المصرية في كل مكان في العالم، وهي مهمة قامت بها على مدى سنوات من الكفاحالمرير، فقد اعتقدت حقًا أنه لا يمكن لأمة أن تتقدم ونساؤها مكبلات، وألا وجود لأمة مكبلة ونساؤها أحرار. في روما، حيث كانت محطتها الأولى، وجدت مؤتمرًا صحفيًّا بانتظارها في المطار، ووجه إليها الصحفيون أسئلة رأت السفارة المصرية أن تؤجل الرد عليها لتكون مستعدة؛ مثلكم عدد الشيوعين في مصرأوإلى أي مدى يعارض الإسلام حقوق المرأةأوما رأيك في دخول المرأة إلى الحياة العامة؛ لكنها رأت ألا تؤجل الإجابة عن هذه الأسئلة، كي لا يترك ذلك انطباعًا أنها غير قادرة على الرد. وبشأن دخول المرأة إلى الحياة العامة قالت إن هذا هوأقوى حدث في القرن العشرين بعد اختراع القنبلة الذرية!”.
في باريس كانت أكثر سعادة، وشعرت أن رحلتها تبدأ حقًا من هناك، واستطاعت إقناع السفارة المصرية بتغطية نفقات محاضرة عامة موسعة عقدت في فندق بلازا عن المرأة والشعر في مصر.. يقول بيير سيجر، ناشر ديوانها الثانيالحب الضائععن المحاضرة التي ألقتها باللغة الفرنسيةلاقت نجاحًا كبيرًا.. كانت خير من يمثل مصر، وأفضل سفير لها.. أولاً كانت امرأة جميلة جدًا.. وكانت جذابة ومليئة بالحيوية..“. عقب المحاضرة انتقدتها صحفية فرنسية بشدة لأنها دافعت عن حق المغرب في الاستقلالأفهمتني الصحفية أنني ضيفة غير مرغوب فيها لأنني عبرت عن الحق، فقلت لها لا تنسي أنني عربية“.

نيويورك كالقصيدة!

في مذكراتها كتبت درية أنها حين وصلت إلى النصف الغربي للكرة الأرضية؛ إلى نيويورك تحديدًا؛ أصيبت بصدمة وكأنني سقطت من علٍ، ظللت فاغرة فاهي، تحيط بي حركة دؤوبة ومجنونة، أين أنا؟ الجميع يسير بسرعة لا أستطيع أن أسايرها بخطواتي الشرقية، لا أعتقد أن هناك مجازًا في هذا القول..
وحين سألها صحفي أمريكي عن الرقابة في مصر لم تستطع أن تهاجم الحكومة، مع أنها كانت هناك لتتكلم، لكن هل تستطيع؟ دافعت عن الحكومةرغم اعتراضي عليها تمامًا“. قالت للصحفي:
بلادي مضطرة لفرض الرقابة لبعض الوقت.. مسألة أمنية.
لو فرضت الرقابة عندنا 24 ساعة ستسقط الحكومة..
يا لكم من بلد محظوظ!

 

في أمريكا ألقت 40 محاضرة، وانتقلت بين أغلب الولايات، والتقت السياسيين والناشطين في مجال حقوق المرأة، وأجرت حوارات صحفية وإذاعية، وكتبت عنها الكثير من الصحف والمجلات، وزارت الكونجرس؛ في وقت كانت تتم فيه إحدى محاكمات المكارثيةوهي حركة نشأت في أمريكا في الخمسينيات لمحاكمة المشتبه بقربهم من الشيوعية أو التورط فيهاورأت أن هذه المحاكماتسبَّة في جبين بلد ديموقراطي“..
عن درية شفيق  كتب الكاتب الأمريكي جون جنتر، صاحب كتابفي داخل أفريقيا  أنهازعيمة الحركة النسائية في مصر، وقوة سياسية لا يستهان بها، وإلى جانب هذا فهي واحدة من أجمل نساء الشرق الأوسط“!

الاتجاه شرقًا

في أقصى الشرق، لكن الشرق بالنسبة لمن؟
في اليابان طالبت درية أعضاء البرلمان الياباني بإصدار تشريعات تقضي على نظام الجيشا؛ أدهشها للغاية أن تستسلم النساء في اليابان لنظام يجعلهن مكرسات لخدمة الرجل وإمتاعه. وفي باكستان انتقدت رئيس الوزراء شاودري محمد علي علنًا، لاتخاذه زوجة ثانية. واستجابت لمطالب الجمعيات النسائية في باكستان وركزت محاضراتها على الظلم الذي يقع على المرأة من جراء الزواج الثاني. وقد أثارت محاضراتها قلاقل وردود فعل بالغة الحدة.

أما الهند فقد كانت لها مكانة خاصة عندها، قبل الرحلة وبعدها، هناك شعرت أنها تقترب من أرض مقدسة، وأنها وجدت طريقها المتمثل في الحقيقة. عندما عرفت أن جواهر لا نهرو، رئيس الوزراء، سيمر بكلكتا في أثناء وجودها هناك، طلبت إلى القنصل المصري أن يدبر لها لقاءه. ووفقًا لما قاله القنصل المصري لاحقًا؛ كان نهرو على علم بدرية وبنشاطها في النهوض بالمرأة، وقد رحب بلقائها، واستمر اللقاء ساعتين، وعندما انتهى اللقاء فضلت عدم الحديث عنه كي لا تصل تقارير عن تفاصيله إلى القاهرة! كان الزمان زمان التقارير!

 

العودة إلى القاهرة

في القاهرة كانت دولة الضباط ترى في صمت درية شفيق عن الحديث عن عبد الناصر تحديًّا مستترًا، كما كانوا يرون في التغطية العارمة لرحلتها في كل أنحاء العالم تحالفًا معمراكز الرجعية المناهضة للثورة، فلما عادت وجدت نفسها هدفًا للصحافة. وفي حين وصفتها ديلي ميرور بأنها كليوباترا الجديدة، بدأت الصحف المصرية، وللمرة الأولى، تكتب عنها بوصفهاالزعيمة المعطرةأوزعيمة المارون جلاسيه“.. وفي الوقت الذي كان نفوذ عبد الناصر يعلو، وتصل سطوته مداها، كانت المؤسسات الديموقراطية تنهار، وبدأت الدولة في السيطرة على كل المؤسسات، ومن بينها تنظيم بنت النيل، الذي كان يستحوذ على كل التنظيمات النسائية، كان عبد الناصر يريد أن يكون الزعيم الأوحد، وبدأ شيئًا فشيئًا في سيناريو القضاء على المرأة الوحيدة التي حازت اللقبالزعيمة“!