لماذا لا تشبه بيوتنا بيوت الأفلام؟

أجيال الذوق الحديث في مناظر السينما المصرية

هبة الصغير

مصمم المناظر/ مهندس الديكور السينمائي وفقًا للتسمية الكلاسيكية، واحد من أهم عناصر العمل السينمائي، الذي يعتمد أساسًا على الصورة، فهو يحكي الفيلم بطريقته الخاصة جدًا، ويضع لمسته على كل عنصر من عناصر المشهد المرئي، ليكون صورة نهائية تحكي ما تريد الدراما أن تقوله.. وهو المتحكم في كل التفاصيل؛ من أماكن ونوعية الأثاث والأكسسورات وغيرها…

ولما كان تاريخ السينما في مصر ممتد وقديم، يعود إلى عام 1896؛ حين عرض أول فيلم سينمائي في الإسكندرية، ثم في القاهرة، ثم في بورسعيد، فقد قدم لنا هذا التاريخ العديد من مصممي المناظر البارعين الذين أسهموا في تكوين وعينا السينمائي البصري، وتركوا بصماتهم التي لا تنسى على كيفية استقبالنا للصورة المرئية..

الأقواس مختارة من كتاب “الذوق الحديث في أثاث وديكور السينما المصرية، 1950-1979” يبحث في أجيال الذوق الحديث من مهندسي المناظر المصريين الذين عملوا في ظل ظروف أقرب ما تكون إلى التقشف أحيانًا لكن ذلك لم يؤثر على تميزهم..

الأقواس من كتاب “الذوق الحديث  في أثاث وديكورالأفلام المصرية ١٩٥٠-١٩٧٩”، للباحثة هبة الصغير، وصدر عن دار العين بالشراكة مع منحة آفاق للثقافة والفنون.

القوس الأول

قبل أن أتعمق في القراءة والبحث عن الأثاث الحديث الذي ظهر بالأفلام المصرية خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وحين كنت لا أزال طفلة صغيرة، كنت أسأل أمي وأنا أشاهد الأفلام القديمة عن سر عدم امتلاكنا لبيت حديث مشابه. فشكل الكراسي لا يشبه كراسي بيتنا ولا المناضد ولا السجاد ولا أشكال الديكور. كنت أرى أن أشكال تلك البيوت تبدو أحدث من شكل البيت المصري الذي كنت أراه في بيتنا وفي بيوت أقاربي وأصدقائي. 

الباحثة هبة الصغير في طفولتها.

القوس الثاني

اعتدنا في الكثير من الأفلام المصرية على ألفة المكان وتبين وحدته من خلال لقطات الكاميرا الواسعة، حيث يتعرف المشاهد على مكان الأحداث مثلما يتعرف على الأشخاص. ولاحظت أن الكثير من الأفلام السورية افتقرت إلى ذلك؛ فمعظم اللقطات لقطات ضيقة لا تطلعنا .على المكان بشكل واضح. وحين تنتقل الكاميرا من جزء إلى آخر بالمكان (البيت أو الفندق أو مقر العمل) كنت أشعر بعدم وجود رابط (وحدة) بين أجزاء المكان وبعضه

من فيلم (راقصة على الجراح) -صممت مناظره أسمهان صوفان.

القوس الثالث

و ملاحظتي أن نمط إنتاج الأفلام المصرية محل الدراسة لم يؤثر على جودة الديكور أو المنظر السينمائي، فكان هناك اهتمام من جانب القطاع الخاص والقطاع العام بإخراج صورة غنية بصرياً للمشاهد. وبالرغم من أنه بالتأكيد كانت هناك أوقات صعبة مر بها إنتاج الفيلم المصري، تسببت في أن بعض المنتجين قد آثروا استخدام ديكورات استُخدمت في أفلام سابقة مع بعض التعديلات البسيطة كي يدخروا بعضاً من مصاريف الإنتاج، كما مر القطاع العام بالعديد من الأزمات المالية التي كبدته خسائر هائلة حتى حله عام 1971، إلا أن مصممي المناظر المصريين قد عملوا بأقل التكاليف كي يخرجوا صورة غنية بصريًّا ويستثمروا إبداعهم في مجال السينما.

من فيلم (أوهام الحب) 1970 من إنتاج المؤسسة العامة للسينما – صمم مناظره أنسى أبو سيف، ونسق مناظره نهاد بهجت.

القوس الرابع

كان الوقت الذي بزغ فيه الجيل الثالث من مصممي المناظر مثل نهاد بهجت هو نفس الوقت الذى كان الذوق الدنماركي الحديث.. أو بمعنى أشمل ذوق دول الشمال (Nordic Countries) قد بدأ في الانتشار بقوة. ويمكن اعتبار الخمسينيات والستينيات العصر الذهبي للأثاث الدنماركي الحديث، على الرغم من أن بدايته كانت قبل ذلك بكثير، وقد ظهر أثر الذوق الدنماركي الحديث بقوة في أفلام السبعينيات المصرية.
كما رأينا في بعض أفلام السبعينيات استخدامًا للبوستر (ملصق الحائط) بالأفلام التي صمم نهاد بهجت مناظر بيوتها. وقد أعطى البوستر طابعاً معاصراً وربما متقدما على زمنه، حيث نشأ جيلي (جيل التسعينيات) في ظل وجود وانتشار الملصقات التي كانت قد ظهرت بالفعل في أفلام السبعينيات مثل فيلم (التلاقي) و(حافية على جسر الذهب). 

من فيلم (حافية على جسر الذهب) 1976- صمم مناظره نهاد بهجت- أرشيف المصور محمد بكر)

القوس الخامس

لم يكن بحثي عن شخص بل عن حلم.. حلم الطفولة وتجسيد الخيال.. حلمت في طفولتي أن أمتلك سريراً كسرير سعاد حسني في فيلم صغيرة على الحب؛ السرير الذي يفتح بالضغط على زر ومرآة كتلك التي تتزين بالنجوم..
تتلمذ ماهر عبد النور على يد أستاذ العمارة ومؤسس مجلة “العمارة” التي كانت تؤيد العمارة الحديثة “سيد كريم”. وحين تخرج ماهر عمل مهندساً للمناظر بالسينما حتى تخطى عدد الأفلام التي عمل بها مئتي فيلم، من بين أشهرهم في مصر “صغيرة على الحب”. ومع كل ما قدم لا يوجد عنه سوى فقرة واحدة على الإنترنت لا تخبرنا الكثير عن هذا الرجل.

صورة ماهر عبد النور من مقتنيات كارمن وياسمين ماهر عبد النور..

القوس السادس

كان ماهر عبد النور يطلع على كل ما هو جديد في عالم العمارة الداخلية والأثاث والديكور بالإضافة إلى العمارة الخارجية من خلال شرائه للكتب والمجلات المتخصصة في هذا الشأن. تألفت تلك الكتب والدوريات والمجلات من ثلاث لغات؛ الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
وقد تصفحت العديد من تلك الدوريات والمجلات التي اقتناها ماهر عبد النور. ولا يمكن إلا أن تتبادر إلى ذهني صوراً من الأفلام التي عمل بها مهندساً للمناظر ورسم من خلالها شكل البيوت الحديثة وأنا أطالع تلك المجلات؛ فإن معظم تلك الدوريات والمجلات كانت تتحدث بشكل أساسي عن البيت الحديث.

من مقتنيات ماهر عبد النور

القوس السابع

تلك الرحلة الطويلة من الفصل الأول وحتى الفصل الأخير لم يكن باعثها فقط شغفي الطفولي بأشكال الأثاث الغريب والمميز، بل مع الوقت أصبح باعثها التوصل لما وراء الشكل لمعرفة منابع المعرفة لدى من استخدموا ذلك الأثاث وتلك الديكورات في خلق تصور معين لشكل بيت مصري وبالتالي كشف قدرة الفنان المصري على فتح أبواب الخيال وامتلاكه لملكة التخيل وأدوات تحقيقه. وطوال عملي على هذا الكتاب كنت مدفوعة كذلك بأهمية دور تذوق الجمال؛ إذ لا يمكن للعقل البشري أن يتطور بمعزل عنه. ذلك لأن تذوق الجمال هو واحد من منابع الأفكار والابتكارات. وعدم وجود تطور في جماليات الصورة السينمائية يعني بالتالي عدم تطور ملكة التخيل وجفاف منبع أو أكثر من منابع المعرفة والإلهام.

القوس الثامن

اطلعت على عدد من الأفلام الفرنسية التي تعود إلى الثلاثينيات والأربعينيات؛ ووجدت أنهم كانوا يستخدمون كلمة “Decorateur” ما ترجمها المصريون “الديكور” مثلما نرى في أحد الأفلام المصرية التي تعود للأربعينيات لمهندس المناظر ولي الدين سامح، إذ يُكتب اسمه تحت بند ديكور بفيلم (دنيا) من إنتاج الأربعينيات. وأحياناً كانت تستخدم كلمة Decorateur بالإضافة إلى كلمة Mise en scene  (تخطيط المشهد ويشمل الديكور أي تكوين الكادر المرئي ككل) ما سوف نلاحظه كذلك في بعض الأفلام المصرية للمخرج ومصمم المناظر المصري توجو مزراحي بالإضافة إلى كلمة “مناظر”  مثل في فيلم “المندوبان”.