لحظة ظهور ” أسوار ” المدينة

تمهيد أولي حول فينومينولوجيا المدينة- الجزء الرابع

عبد الناصر حنفي

رحلة ظهور المدينة

حتى هذه اللحظة التي وصلنا إليها في رحلتنا، فإن المدينة لم تبدأ بالظهور بعد، ولكن عند هذه النقطة ينبغي التمييز بين مستويين لظهور المدينة، أولهما لا يتضمن سوى مجرد تكاثر أو انتشار ما هو معماري وتكاثف الطرق التي تربط بين كتله، مع بعض التغاير والتطور التاريخي في وظائفه وأنماطه وتشكيلاته، وتلك هي المدينة المتعينة التي يمكننا تحديد لحظة ظهورها بدقة بالرجوع إلى سجلها التاريخي، أما اللحظة الأخرى، أو المستوى الآخر لظهور المدينة والذي يعنينا هنا فهو لا يطرح نفسه إلا مع تحول المعمار من جاهزية “تتيح” تنمية مجال الحضور لصالح الفعل الإنساني، إلى مؤسسة تتيح وتمنع هذا الحضور في الوقت نفسه.

ولو أننا حاولنا أن نرصد لحظة هذا التحول فسنجد أنها تتطابق مع لحظة ظهور “سور المدينة”، أي تلك الكتلة المصمتة التي تستطيع أن تطوق بداخلها حياة كاملة لم تعد ترغب فيما هو خارجها، ولا تنظر إليه إلا بوصفه استثناءً في طريقه إلى الزوال، ومع ظهور “السور” تكاد المدينة تتحول إلى رحم جماعي كبير.

قُرئت الجاهزية التي يمثلها سور المدينة دائمًا بوصفها أمرًا يعود إلى الشأن العسكري والاستراتيجي، ولكن ما هو أكثر أهمية في هذا الصدد هو ذلك التوقيع الذي تسجله هذه الجاهزية، أي التوقيع على وثيقة تؤشر لبداية وعي المدينة بنفسها ككيان موحد يتأسس في مقابل العالم الخارجي، وبوجودها المتمايز، الذي يدشن لبدء عملية متواصلة من الانسحاب عن العالم، ولظهور مفاجئ بقدر ما هو نهائي لذلك “الرحم الجماعي الجديد” الذي بات يحتضن البشر.

ومنذ هذه اللحظة تبدأ المدينة في طرح نفسها بوصفها مشروعًا يسعى إلى الظهور وهو ما تفعله عبر تنميتها لمجال حضور يأخذ في الانتشار فيما يسعى أساسًا وقبل كل شيء إلى مقاومة تأجيله وعدم اكتماله.

مرحلة حضور المدينة باعتبارها كيانًا مؤجلاً باستمرار ستستغرق على النطاق الزمني كل تلك الكيانات الحضرية الما قبل مدينية، كما أنها ستستغرق على مستوى المكان كل تلك الفراغات التي لم تؤطر ولم يُسيطر عليها بعد. وهو ما يعني أن المدينة منذ لحظة ظهورها الجنيني الخافت لم تكن تحمل ما هو أقل من تلك الرغبة العارمة في استبدال العالم وإزاحة فراغه مرة وإلى الأبد، أي أنها تطابقت منذ البداية مع الرهان الاستراتيجي للتمثيل ومع مشروعه الخاص بنفي الفراغ على نحو نهائي.

ينظر التمثيل إذن إلى لحظة ظهور المدينة ليس فقط كحضور لحيز مغلق على ذاته وآخذ في الامتلاء، بل أيضًا بوصفها ما يدشن ويلوح بإمكانية التأطير الكامل لذلك الميدان الذي لا زالت ألعاب القوى تهيمن عليه، أي الفراغ المكاني، فما دام هذا الفراغ هو “القلعة الأساسية” التي يحتمي بها لعب القوى، فإن حصارها يعني حصار كل ما يمكن أن يظهر عبر لعب القوى واختلافاتها، أي أننا هنا أمام التمثيل وهو يستكمل رهانه ومغامرته في أن يجعل من نفسه بديلاً ومكافئًا لما أتاح وجوده ومنحه حياته، بإجباره على أن يتموضع في فراغه الداخلي بحيث يصبح فضاء التمثيل وحده هو ساحة الظهور لكل صراعات القوى، وهكذا فمع تدشين المدينة كمشروع مؤجل على هذا النحو يبدأ التمثيل للمرة الأولى في تعاطي استراتيجية هجومية ضد عالم القوى، إن التمثيل هنا يتخطى دور المنافس والبديل الذي منحه لنفسه من قبل لينصب ذاته بوصفه خصمًا مكافئًا في معركة شرسة.

مع لحظة ظهور سور المدينة إذن ستبدأ جاهزيات الحكاية/المعمار في السيطرة على ذلك الفراغ الذي أطر بمواصلة التمدد والانتشار تجاه الفراغات البينية للكيانات المعمارية، ليبدأ فضاء المدينة في الظهور على نحو مؤسسي يجمع في نطاقه دائرة تتسع باستمرار نحو الفراغ الذي يحتجز ويقتطع من العالم، إنها لحظة استعادة المدينة لذاكرة الكتلة المصمتة التي تحاول فصل نفسها عما هو خارجها وتمنع أي تسرب لامتلائها الداخلي.

منذ البداية، طرحنا فرضية أن عنصري المعمار والحكاية كافيين بذاتهما لتحليل ووصف مسار إنتاج ظاهرة المدينة، وها نحن نصل إلى ذلك التكوين المعماري/الحكائي، والذي سيبدأ منذ الآن في التحول من مجرد جاهزية، إلى مؤسسة تسعى إلى السيطرة على فضاء المدينة عبر إتاحتها لفئات وأنماط معينة من الفعل والحركة، ومنع ما سواها، بحيث تحول هذا الفضاء إلى محفز للحركة من جهة، وقامع لها من جهة أخرى، وهو ما شكَّل أساس ظهور كل مؤسسات السلطة التي طورتها المدينة، فعبر هذا الحضور المؤسسي سيتوالى جلب كل ما هو معرفي، وجمالي، وأخلاقي، كل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي، كل ما هو ذاتي خاص بالفرد، أو عام يخص الجماعة، وباختصار فإن كل ما هو إنساني سيجلب ويستحضر ويعاد توزيعه وتشكيله وفقًا لمجال حضور المدينة الذي سيوالي اتساعه ليبدو وكأنه بحجم العالم، وبحجم الوجود.

وعبر نمو مجال حضور المدينة، ومع اكتمال سيطرته على فضائه الداخلي، سيبدأ في تحويل الفراغ الخارجي المحيط به إلى مسافات تفصله عما سواه وتربطه به في نفس الوقت، أي أن حركة الانسحاب المؤسسي من فراغ العالم ستتلوها حركة أخرى تعود لتزيح هذا الفراغ وتجبره على التراجع.

وعبر هذه المسافات وبفضلها، سيتمكن مجال حضور المدينة من إعادة إنتاج ذاته دائمًا، ليس فقط داخل حدوده الخاصة، ولكن أيضا في مناطق جديدة ومستحدثة، تلك المناطق التي هيئتها المسافة وحولتها إلى فضاء يطلب وينادي ويمهد لحضور المدينة. وهكذا تنمو ظاهرة المدينة في هذه المرحلة بوصفها حركة دائبة تهدف بالمقام الأول إلى استعمار الفراغ.

المدينة والإله، والمكان المطلق: وهو ما نجده بارزًا بوضوح مع نموذج الإله الذي كرسه فضاء المدينة، فقد بدأ هذا النموذج في مغادرة كتلته المصمتة التي منحتها له مرحلة الكتلة الأداة، ليحل في الفضاء المعماري الداخلي للمعبد، ويتمركز حوله، ثم مع ظهور المدينة انطلق مع مجال حضورها وتجاوزه ليهيمن بصورة مسبقة على كل فراغ ممكن. وقد تطور فضاء المعبد من كونه “بيت الرب” أي ذلك المكان الذي يقيم فيه الإله، ليصبح “بيت العبادة” أي تلك النقطة التي تحظى بترابط مباشر مع حضور الإله بحيث تحيل إليه على الفور، أي أن الإله قد انتشر عبر بيته الذي لم يعد يستوعب حضوره ولا يساعده على إتمام المهمة المناطة به في تأطير الفراغ إذ أنه سيبدأ في عملية انتشار تطال بصورة قبلية ومسبقة كل ما هو خارج، انتشار يطارد الفراغ أينما وجد ويحل محله، وعلى هذا النحو سيمنحنا التمثيل حكايته عن الحضور المطلق الذي لا يخضع للعب القوى ولا لاختلافاتها، فنحن هنا أمام حضور يقدم نفسه بوصفه متجانسًا مع ذاته ومطابقًا لها في أي نقطة من نقاط مجال هذا الحضور، وهو أيضا حضور لا يمكن تقسيمه أو توزيعه كما لا يمكن الإضافة إليه أو الحذف منه، وأينما وقعنا على هذا الحضور فنحن نقع عليه جملة وليس على جزء منه، وحتى عندما نعاين جزءًا منه فسنجد أنه يحتوي على نفس ما يحتويه الكل، أي أن الأجزاء هنا تساوي نفسها وتساوي الكل في الوقت نفسه.

وهكذا، فمثلما منحنا المعمار الزمن المجرد والمطلق، فإن المدينة قد منحتنا المكان المجرد والمطلق، وكلاهما قد بدأ ظهوره مندمجًا ومتواريًا في مجال حضور ما هو إلهي قبل أن يصبح من الممكن تمييزه عنه. ومع لحظة ظهور المكان المطلق سينكسر ذلك التكافؤ التام بين الذات وبين الإله، والذي استمر عبر ظهور المجال المستقل للفعل مع الكتلة الأداة، وكذلك عبر ظهور الانتشار المطلق في الزمن مع الكتلة المعمارية، فهنا، ومع المدينة التي تقود لحظة ظهور الانتشار المطلق في المكان سيجري منح هذه الخاصية وربطها بحضور ما هو إلهي فقط دون ما هو إنساني، وهو ما أدى إلى خفض مجال حضور الذات، مقابل تعالي مجال حضور ما هو إلهي، ومنذ هذه اللحظة لم يعد أيا من هذين المجالين بمثابة فائض “مباشر” لحضور المجال الآخر، مما أتاح استقلال مجال الإلهيات وبدء ظهور الفضاءات الدينية التي عملت على إعادة ربط ما هو إنساني بما هو إلهي عبر ملء الفراغ الهائل وغير المسبوق الذي خلفه انفصالهما.

ومع محاولة المجال العام لحضور المدينة –الذي أصبح الآن موزعًا على مدن عديدة ومتناثرة– إحكام سيطرته على تلك المسافات البينية بين المدن سيبدأ كيان الدولة بالظهور. وفيما لم تبدأ المدينة في الوعي بحدود حضورها الذاتي وسيطرتها على فضائها الخاص إلا عبر جاهزية السور، بحيث باتت منذ هذه اللحظة تقدم نفسها باعتبارها ما يتجاوز مجرد مجموعة من الكيانات المعمارية المتجاورة، فإن الدولة قد حصلت على وعيها الخاص بذاتها عبر الحكاية مباشرة وبفضلها.

وهنا ينبغي أن نتوقف قليلاً لتأمل الحالة التي يمثلها “سور الصين العظيم”، والذي ينطوي على محاولة قلقة بقدر ما هي مؤسية لدولة تحاول أن تؤسس لحضور ذاتها وكأنها مجرد مدينة، وهي محاولة قلقة أولاً لأنها تراهن على استخدام جاهزية السور حيث يجب أن تعمل الحكاية، فليست جاهزية السور في النهاية سوى تأطير مؤقت للفراغ على نحو يهيئه لاستقبال نشاط الحكاية والخضوع له، ومن ثم تحويله إلى فضاء مخترق على نحو كامل بالمسافات التي تستحدث باستمرار، ولذلك فقد أقدمت هذه الدولة عبر تلك المحاولة الوحيدة والفريدة والتي لم تتكرر على ابتلاع ما لا تستطيع هضمه أو اجتراره. كما أنها محاولة مؤسية ثانيًا لأنها تمثل نزوع الدولة لاختطاف عصا قيادة العالم من المدينة، وهو نزوع جرى عقابه بحيث بات حدثًا فريدًا لم يتكرر بعد ذلك قط.

وتؤشر حالة سور الصين على طبيعة العلاقة بين الدولة والمدينة، فالدولة توجد عند حواف حضور ظاهرة المدينة، أي باعتبارها مجرد فائض لهذا الحضور الذي يفيض بين المدن المتباعدة، وبالتالي فهي تخضع في حركتها لما تقرره المدينة لنفسها، أي أن الدولة ليست سوى عرض جانبي، وربما طارئ، لمجال حضور المدينة وهو يحاول السيطرة على حالة انتثاره وتعدده وتوزيعه وانتشاره في فضائه الخاص.

وكما يسجل ظهور سور المدينة لحظة بداية طرحها لمشروعها، فإن اختفائه المفاجئ وانعدام الحاجة إليه، ونقل وظائفه إلى مجال اختصاص الحكاية يسجل لحظة إعلان المدينة لانتصارها النهائي ولاكتمال قطيعتها التامة مع الفراغ الطبيعي الذي طردته من فضائها بلا رجعة، إنه لحظة تحققها بالامتلاء الذي لم يعد هناك ما يهدده بالإزاحة، أي لحظة نجاح التمثيل للمرة الأولى عبر تاريخه في أن يلتقي ولو مؤقتًا مع رغبته المؤجلة دومًا في أن يحظى تحت سيطرته بالامتلاء الكامل الذي طرد منه، إنها لحظة عودة أو استعادة التمثيل لجنته المفقودة، وعبر هذه اللحظة سيفاجئ التمثيل نفسه بقدرته على الاندفاع في التعاطي مع مكوناته التي تتحرك في مجال “ما هو مؤكد” ولا يمكن مراجعته.

نحن هنا مدعوون إلى اختبار هذه النتيجة باعتبارها في النهاية مجرد فرضية نظرية، وهو اختبار يمكن إجراءه بالعودة إلى الحقل المتعين للتاريخ الخاص بظهور المدن، حيث سنجد أن لحظة اختفاء جاهزية سور المدينة ستترافق دائمًا مع انتشار استثنائي وفريد لما هو مؤكد، بحيث سيبدو الأمر وكأن تلك الظواهر المعرفية المنضوية في مجال حضور المدينة والخاضعة له قد بدأت في الإعراب عن نفسها بثقة مفاجئة وكأنها قد كوفئت فجأة بإكسابها المزيد من الكثافة والقدرة على الحركة معًا، وهو ما سيبدو وكأنه قد تم بسخاء بالغ طالها من مصدر مجهول لا يلزمها بشيء مقابل ما أخذته، وتلك المكافأة ستجعلها تشعر بامتلاك موضوعاتها على نحو لا يمكن منازعته أو الاسترابة فيه، مما سيولد طاقة اندفاع مباغتة ومدهشة نحو المزيد من تملك تلك الموضوعات. وتراكم هذا الاندفاع هو ما خلق الظاهرة التي اعتدنا أن نسميها “بالحداثة” (modernity).

أما هؤلاء الذين لا يفضلون الرحلات التاريخية فبإمكانهم أن يعاينوا حالة محدودة جدًا لفعالية جاهزية السور الكامنة في قدرته على التأطير والمنع وهي تنتقل بكامل اندفاعها إلى مجال حضور الحكاية، وهو ما يمكنهم الحصول عليه عبر استحضار لحظة اختفاء سور برلين، والذي رغم محدودية امتداده في المكان، وكونه يحجز مدينة بعينها عن نفسها ويقسم مجال حضورها، فبوصفه حاجزًا لانتشار حالات ومكونات تمثيلية خاصة بما هو سياسي، أطلق موجة من الطاقة والاندفاع نحو التأكيد السياسي المفرط. وهكذا، ففيما يقترن ظهور السور بحالة من الانسحاب والتراجع إلى الداخل واختزان الطاقة واحتجازها، فإن اختفاءه سيقترن بحالة عكسية من الاندفاع إلى الخارج وانطلاق الطاقة.

وهكذا، فمنذ لحظة تجاوز المدينة لحاجتها إلى جاهزية السور أصبح أي استرجاع لها إما علامة على أزمة مهددة (كما نجد في الأسوار الإسرائيلية ضد فلسطين، والسور الأمريكي ضد المكسيك) أو إشارة إلى إهانة مذلة (مثلما نجد في أغلب الثورات انطلاقًا من القرن التاسع عشر، والتي اشتقت “المتاريس” من جاهزية السور واستخدمتها لتقطيع ترابط المدينة بوصفها مجالاً موحدًا ومتجانسًا).

وعبر تلك المرحلة التي يتحقق فيها انتصار مجال حضور المدينة على الفراغ الخارجي، سيبدأ انكشاف ما ستعده المدينة ثقوبًا في فضائها الداخلي، أي تلك الأفعال التي تفلت من مجالها، وتستعصى على إدماجها في ترابطاتها وإخضاعها لجاهزياتها التي تشكل دوائر القصد التي سيتعين على تلك الأفعال أن تتوجه إليها وتلتزم بمساراتها.

وإزاء هذه الأفعال المزاحة باستمرار خارج الفضاء المعرفي للمدينة، وخارج مجال حضورها، ستكشف المدينة بقوة عن وجهها غير المتسامح.

ولنلاحظ مع فوكو أن مفهوم الجنون بوصفه كانتهاك ينبغي أن يواجه بحسم ويقصى بعيدًا أو يعزل بهدف استعادة سواء القصديات وتأكيد شرعيتها السلطوية، لم يظهر سوى في هذه المرحلة من تاريخ حضور المدينة.

ومع فالتر بنيامين في كتابه عن “بودلير” يمكننا أن نرصد مؤشرًا آخر للحظة اكتمال انتصار المدينة على الفراغ فبنيامين يلفتنا إلى ظهور مفاجئ لحالة “التسكع” أو التجوال الحر غير القصدي داخل مدينة باريس في نهاية القرن التاسع عشر، وهو ما ينبغي أن نراه كمحاولة أخيرة للتعاطي مع فراغ المدينة باعتباره مكافئ للفراغ الطبيعي اللا محدود والذي لا يفرض شكلاً معينًا للحركة داخله، ومن ثم فهي ليست محاولة رومانسية أخرى لاستبدال المدينة بالطبيعة، أو لإحلال قصديات محل أخرى، بقدر ما هي رعشة يائسة تسعى لمواجهة القصديات التي تفرضها المدينة وتنظمها عبر رفع مطلب أو مفهوم اللا قصد، أو نفي القصد ذاته بوصفه شرطًا للحضور داخل فضاء المدينة، إنها محاولة تنطوي على نزوع نوستالجي أكثر من كونها اعتراضًا، أي أنها تحية وداع لعالم يختفي، وهي في نفس الوقت صرخة شقاء لفعل هامشي يطالب بحقه في الوجود قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فالمدينة، وتحديدًا مدينة الحداثة، بعد أن احتفلت بانتصارها على الفراغ الخارجي، لم تعد تسمح بظهور أي فعل غير قصدي ينتهك ترابطات فضائها الداخلي.

إن مدينة الحداثة المنتصرة والمزهوة بنفسها هي أكثر الكيانات دموية في التاريخ الإنساني، وأقلها تسامحًا على الإطلاق، ويكفي في هذا الصدد أن نتوقف عند فئة محدودة من ضحاياها لنتلمس مدى عنفها إزاء ما قد يبدو وكأنه يقدم استجابة أقل مما هو مطلوب، ولننصت إلى رودلف رومل وهو يقدم إحصائية تقريبية تفيد بأن “169 مليون شخص قتلوا في القرن العشرين على أيدي حكوماتهم” (نقلاً عن جاك سيميلين، العنف المفرط: هل نستطيع أن نفهمه، ترجمة “عبد الحميد فهمي الجمال” – المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية عدد 174 ديسمبر 2002- مطبوعات اليونسكو – القاهرة- ص 11 )، وإذا ما تجاوزنا الدلالة السياسية المباشرة فإننا نستطيع هنا أن نقرأ هذه الإحصائية التي تشير إلى حالة غير مسبوقة من العنف الدموي الذي مارسته مدينة الحداثة على الإنسان وهي تبسط سيطرتها على فضائها الداخلي.

وفي هذا الإطار يمكننا تفهم ذلك التعاطف غير المألوف وغير المبرر الذي أبدته المدينة إزاء الرهانات والمحاولات الجمالية الراديكالية للغاية التي أطلقتها موجات الحداثة المتعاقبة لعزل الظاهرة الفنية والممارسات الجمالية عن مجال حضور المدينة بقصدياته وترابطاته، حيث احتفت هذه الموجات بحضور ما هو غير قصدي، وما لا يمكن استعادته أو تكراره، أي أنها احتفت ومجدت كل ما سيبدو وكأنه يفلت من مجال حضور المدينة، وهنا كان التعاطف وسيلة المدينة الأكثر قسوة لابتلاع ما يناهضها، فعبر هذا التعاطف تحولت تلك الراديكالية العارمة إلى مجرد واحدة من جاهزيات المدينة، وهي جاهزية أنيط بها تأطير كل ما يفلت تمهيدًا للسيطرة عليه، ولذلك فلا ينبغي أن نفاجأ عندما نرى ما كان يعد فعلاً تخريبيًّا في مرحلة الحداثة يتحول إلى فعل مألوف وتكراري وخاضع للتنميط مع ما بعد الحداثة، أي يتحول إلى فعل لا يجد لنفسه فرصة في الحضور إلا عبر مجال تلك المؤسسات الأكاديمية التي تفخر عادة بأنها تضع مثل هذا النوع من الأفعال ضمن قائمة إفطارها.

ولكن ليس لصراع القوى أن يترك “التمثيل” –بحالاته العامة والخاصة وترابطاته وفضاءاته– ليهنأ طويلاً بالانتصار الذي منحته إياه المدينة.

فبعد أن أصبح مجال حضور المدينة يكاد يكون هو نفسه مجال وجود كوكب الأرض، بدأ التمثيل في استعادة ومواجهة شقاءه الخاص والأبدي، فعبر عمليات إزاحة الفراغ إلى خارج كوكب الأرض يعود ذلك الفراغ للظهور داخل العلاقات المتناهية الصغر لمكونات المادة الفيزيائية ليسجل حضوره بوصفه ما يفلت داخل مسافات وترابطات التمثيل، كما يعود للظهور أيضًا خارج الفضاء الأرضي بوصفه فراغًا كونيًّا شبه لا نهائي ولا يمكن تأطيره.

وما أن يظهر هذان الفراغان حتى تنسحب نحوهما كل الأسئلة الكبرى والأولية التي تعمل كحكايات يؤطر بها التمثيل علاقته بموضوعاته ويقود ظهورها.

وهكذا يعاود التمثيل الظهور بوصفه كيانًا مهددًا يتمتع بخفة تتيح إزاحته، والآن، وعبر تلك اللحظات التي نمر بها، ينخرط التمثيل في عمليات تأطير هذين الفراغين عبر استحداث المسافات وخلق التباعدات داخلهما تمهيدًا لإحالتهما إلى مجرد امتداد لفضائه الخاص.

وهذا الصراع الذي يخوضه التمثيل حاليًا من أجل الدفاع عن مجال حضوره لا يبدو وكأنه يمثل مرحلة جديدة مقبلة لمجال حضور المدينة، وهذا على الرغم من أن التمثيل، كعادته في استباق صراعاته وتأطيرها لصالحه، قد بدأ بالفعل في مداعبة ذاته والاحتفال بانتصاره عبر تنميته لحكاية الفراغ الكوني الذي يتحول إلى فضاء كوني محدود خرج من رحم حكاية “الانفجار الكبير”، وهو ما قد يسفر في النهاية عن ظهور “مدينة كونية”.

وأغلب الظن أن الصراع الحالي للتمثيل قد يؤدي إلى نتائج غير سارة بالنسبة لمجال حضور المدينة إذ أنه قد يتجاوزه أو يحيله إلى شيء آخر مختلف تمامًا، وهو أمر يمكن توقعه انطلاقًا من التغايرات التي تعمر بها اللحظة الآنية.

لقد حاولنا طول الوقت أن نؤكد على إمكانية – إن لم نقل ضرورة – التعبير عن التحولات التاريخية الكبرى لمجال حضور ما هو إنساني، بوصفها في النهاية نتاجًا لتحولات معينة في علاقاته مع عناصر الكتلة/ الفراغ/ الحركة، وعلى هذا النحو كان ظهور الكتلة الأداة تدشينًا لظهور ما نسميه الحضارة البشرية، فيما قفزت بنا الكتلة المعمارية والمدينة إلى خطوات لاهثة ومتلاحقة نحو إعادة تشكيل العالم، وقد كانت الكتلة الأداة بمثابة تطوير للكتلة المصمتة التي أنتجها اختلاف القوى، مثلما كانت الكتلة المعمارية تطويرا للكتلة المجوفة التي أنتجها لعب القوى، وهكذا، وبرغم كل شيء فقد كان عالم القوى يقود خطانا ويسبقها، ويدعونا للحاق به، غير أن صراع القوى قد أنتج أيضًا نمطًا آخر من الكتلة لا ندخلها عادة في حسباننا، إنها الكتلة المتحركة ذاتيًّا، التي اعتدنا أن نطلق عليها الكائنات الحية، ومنذ وقت طويل بدأت محاولات إدماج خاصية قابلية الحركة التي تتمتع بها الكتلة الأداة مع خاصية الفراغ الداخلي القابل لاحتواء ما يتموضع داخله والتي تتمتع بها الكتلة المعمارية، بحيث يجري في النهاية ملء هذا الفراغ أو موضعته بما ينتج الحركة، وهو ما أدى في النهاية إلى إنتاج الكتلة الآلة التي بتنا الآن نعايش لحظيًّا حوارها الذي لا ينقطع مع صراع القوى والذي يتقلب بنا ببطء لا يخلو من العنف تجاه عالم مختلف كليًّا عما أنتجه تطور الكتل السابقة .

ولكن أيًا كانت تطورات هذا الصراع أو نتائجه فإن النقطة التي وصل إليها تحليلنا هنا تشكل نهاية مناسبة لخطوات رحلة صعودنا تجاه ظاهرة المدينة، على الأقل الآن.

كنا إذن طوال تأملاتنا السابقة نندفع بتحليلنا تجاه ما يشكل الحدود القصوى لحضور المدينة، سواء تعلق الأمر بما قاد هذا الحضور في النهاية إلى الظهور، أو بالحدود النهائية لأفق نمو وانتشار هذا الحضور.

أما تأملنا التالي فسنخصصه للتجول سريعًا في الفضاء الداخلي للمدينة وتحليل بعض سياسات توزيع مجال حضورها، وهو ما يلقي بنا في خضم صراع أساسي يكاد ينتظم كامل تاريخ حضور المدينة، ويخترق معظم مساحات فضاءاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أي صراع الفضاء المعماري للمدينة مع فراغ الرحم. ولنبدأ تأملنا في هذا الصراع عبر تناول “سياسات الموت” في المدينة.