عمل فني للفنان كاتيلان

كوميديا إصبع الموز وتراجيديا صاحبه

يوسف ليمود

الخلط بين شيئين

كالعادة، في تعليقات الوسط الفني المحلي على نتاجات وأفكار الفن المعاصر، جاءت معظم التعليقات على العمل الفني الذي هو عبارة عن إصبع موز مثبت على الحائط بشريط لاصق، خلال آرت بازل في ميامي، للفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان، دون المستوى المفترض، بل سطحية وسخيفة ومحبِطة للغاية وتبيّن مدى ابتعاد المجال الفني عندنا عن عالم الفكر الذي دونه أصبح أي انتاج فني معاصر مجرد شكل بلا محتوى أو معنى. لا يعنيني من أمر هذا العمل هنا سوى ما يثيره من إشكاليات نحن في أمسِّ الحاجة إلى الوعي بها والتمعن فيها. يعني أنا هنا لا يهمني تقييم هذا العمل فنيا، إذ ليس في نيتي أن أدافع عنه ولا أن أشجبه، ولكن بالنظر إلى قرن كامل من الممارسات الفنية التي أنتجت ما هو أغرب من هذا العمل، ليس أقلها تغليف فنانٍ إيطالي آخر في مطلع الثلاثينيات خراءَه في علبة (كانز) طبع عليها “خراء الفنان” وبيعه بما يعادل وزن العلبة ذهبا، فقد أصبح هذا العمل، الذي نحن بصدده الآن واقعا فنيًّا، مهما سخرنا منه أو شجبناه. نحن إذن نتعامل مع “واقع”، محطة من محطات تاريخ الفن، ورفضُنا أو إنكارنا لهذا الواقع لن يغير من كونه واقعًا حدث ويحدث وترك أثره بالفعل على ما سوف يأتي. المشكلة الأولى التي أرى أنه يجب الانتباه إليها هي عملية الخلط بين شيئين وعدم القدرة على التفريق بينهما: الأول هو العمل الفني نفسه كجسم للتأمل، والثاني هو عملية بيع هذا العمل والاتجار فيه بهذا الشكل المثير. عملية الخلط هذه جعلت الأمر كله أكثر تعقيدًا. فلو لم يتم بيع العمل أو لو كان للعرض فقط وليس للبيع لما أثار كل هذا الاستهجان. الاستهجان نتج عن السخرية الكامنة في مسألة بيع إصبع موز يساوي بالكاد دولارًا واحدًا بأكثر من مئة ألف دولار، من وجهة نظر الكثيرين. يعني الاستهجان لا يطال العمل الفني في حد ذاته كجسد بصري وفكري يريد أن يقول شيئًا ما عن العالم، حسبما أراد الفنان. تكمن مشكلتنا هنا في أننا لم نر العمل الفني نفسه إلا من خلال هذا المبلغ الكبير. والمبلغ الكبير يعيدنا مرة أخرى إلى إصبع الموز الذي بالكاد يساوي دولارًا واحدًا، أي إلى تفاهة المادة المصنوع منها العمل وعاديتها (دا الموز عندنا بالكوم يا جدع، يا نهار أزرق!). 

 

المهرج، 2019

المهرج، 2019

بين النزعة التحنيطية وشاعرية الزوال

يقودنا هذا إلى الإشكالية الأخرى وهي في الواقع مشكلة كبيرة تخص الممارسات الفنية في العالم العربي بشكل عام؛ ألا وهي إشكالية الخامة أو المادة المصنوع منها العمل الفني. مبدئيًّا يجب الاعتراف بأننا ما نزال أسرى فكرة التحنيط الموروثة من أجدادنا الفراعنة، إذ تشكِّل فكرة خلود العمل والحفاظ عليه من الفساد، هاجسًا عند كثير من الفنانين المحليين، إن لم يكن جميعهم. يدعم هذا الهاجس وبشكل يكاد يكون غير واعٍ، العملية التالية على إنتاج العمل، ألا وهي الجانب التجاري. فكلما زادت قيمة المادة المصنوع منها العمل أو الجهد البدني والحرفي المبذول فيه كلما زاد ثمنه، وبالتالي قيمته الفنية، فالتمثال المصنوع من الرخام أثمن طبعًا من الحجر الجيري أو الخشب أو الجبس، واللوحة الزيتية أثمن، بطبيعة الحال، من تلك المرسومة بالألوان المائية… وهنا أتذكر موقفا لنحات مصري عجوز كنت أقدّره، كان يتكلم في ندوة ما بإحدى المدن السويسرية، كممثل للفن المصري المعاصر، فذكر أنه أول من أدخل “الخامة النبيلة” في فن النحت في مصر عندما عاد من أوروبا، وأن الفنانين قبله كانوا يستعملون “الخامات الرديئة زي البلاستيك والصفيح وكده”. وأذكر صدمتي في مستواه الفكري، ناهيك بمغالطته التاريخية؛ إذ استخدم المصريون القدماء قبله بآلاف السنين كل أنواع الحجارة التي يسميها الخامة النبيلة. أقصد من هذا لفت الانتباه إلى تاريخ طويل من الانغلاق على مفاهيم تجاوزها تاريخ الفن منذ عقود بعيدة. هذا الاطمئنان إلى مفاهيم وأفكار لم تعد صالحة للحساسية المعاصرة، على أي من المستويات، لا فكريًّا ولا حتى بصريًّا، حيث استُهلكت كل أشكالها، بل وانحطت إلى مستوى ذائقة طبقة محدثي النعمة الجدد البائسة، أقول هذا الاطمئنان التعيس يحتاج إلى ما يهزه من أعماقه، وكنت أتمنى، وما أزال، أن تكون إشكالية إصبع الموز هذه، مناسبة جيدة لإثارة نقاش جاد بين ممارسي الفن عندنا، على الأقل، بشكل خاص، وبين الدوائر والطبقات الأوسع الأخرى، بشكل عام، حول فكرة المادة التي يستخدمها الفنان والغاية منها، وإلام ترمز، أو أيَّ هدف تخدم، ولماذا تم تفضيل خامة أو مادة بعينها على أخرى، ولماذا يستخدم فنان ما أشياء معينة من الواقع كإصبع موز على سبيل المثال؟ كل هذه الأسئلة هي الأساس الفكري لأي عمل فني ودونها سنظل ندور في دائرة الشكلانية المكرورة البائسة عديمة المعنى.

تسعمائة، 1990

تسعمائة، 1990

إصبع الموز لا وجود له

الفنان الأمريكي ريتشارد سيرا، على سبيل المثال، يستخدم الحديد الخام في إحالة إلى عصر الصناعة وجبروت القوة المحركة للعالم. والنمساوي هيرمان نيتش استخدم في عروضه ولوحاته الدم الحار المتدفق من الحيوانات المذبوحة، في إشارة إلى عوالم الكنيسة والكهنوت وعلاقتها بالسلطة والتجار بفكرة الإيمان. كذلك الإنجليزي مارك كوين استعمل دمه الخاص في صنع مجسمات لوجهه تحفظ تحللها الثلاجات التي هي نفسها فاترينات العرض. والألماني يوزف بويز استخدم الشحم وسيطًا يذوب بالحرارة ليشير إلى فكرة تحويل الطاقة الجنسية إلى طاقة روحية، مثلما استخدم كل ما وقع تحت يده من أشياء الحياة اليومية، حد إتيانه بكومة من الزبالة صارت عملاً فنيًّا ما يزال يتنقل بين قاعات المتاحف. والإنجليزية، تركية الأصل، تريسي إمين، أتت بمرتبة قذرة مبرقشة ببقع من الدم والمني لتسرد لنا تاريخها مع الاغتصاب الذي تعرضت له، وممارساتها الجنسية مع “طوب الأرض”. كذلك وضعت الأمريكية كيكي سميث كل إفرازات الجسد البشري في برطمانات مكتوب عليها المحتوى: دم حيض، مني، بول، براز، عصارة معدة، مخاط، لعاب… وها نحن أمام إيطالي يستخدم إصبع موز لتذهب مخيلتنا إلى جمهوريات الموز وعوالم المافيا والشركات العابرة للقارات، الخ. أمثلة الفنانين وعلاقاتاهم بالمواد والأشياء المختلفة لا تعد ولا تُحصى، وما كان لهم أن يعالجوا موضوعاتهم إلا بما اختاروه من مواد وعناصر تشكل نوعا من واقعية لا تجميل فيها. أما عن الجانب الزائل في أعمال بعض أو كثير من الفنانين، فنظرة واحدة إلى حقيقة أننا نحن أنفسنا زائلون، يمكن أن يخلق مجالاً شيقًا بيننا وبين العمل ذي الطبيعة الزائلة. كان يوزف بويز سعيدا بفكرة زوال كل أعماله فيما بعد (منها ما يأكله الصدأ وما يتحلل ويهترئ بفعل كيمياء العناصر والزمن) وكان يراها تمثل الجانب الأكثر شاعرية في عمله. وإصبع الموز هذا يقدم لنا فرصة ممتازة للتأمل في فكرة فساد الأشياء، وهذا يعيدنا إلى حقيقة العالم وطبيعة الأشياء التي هي في النهاية جسدنا، نحن أنفسنا. تخيلوا لو كان إصبع الموز هذا مصنوعًا من الذهب أو أي مادة صلبة أخرى، ما الذي كان سيقدمه لنا كل صباح سوى كذبة؟ كذبة أن الأشياء ثابتة لا تتغير ولا يطرأ عليها فساد، بينما ينخر الفساد في أجسادنا بلا رحمة ولا وعي منا. مرة أخرى، أنا هنا لست بصدد الدفاع عن هذا العمل ولكن عن حرية استخدام الفنان أي شيء من أشياء العالم في عمله، مهما رأيناه شاذًا. حتى إن دفاعي هذا أراه ساذجًا ومثيرًا للسخرية بسبب أن تاريخ الفن قد تجاوز من زمان بعيد مثل هذه الأفكار التي صارت بديهيات مفروغ منها. الآن وقد وصلنا إلى هنا فلا بأس من الإقرار أن إصبع الموز غير موجود في الواقع في هذا العمل، بحكم قابلته للفساد، وبحكم الحاجة المستمرة إلى استبداله بآخر كل بضعة أيام. نحن هنا أمام “فكرة” إصبع الموز، وليس إصبع الموز نفسه. ومن اشتراه اشترى حق امتلاك عرض فكرة العمل في أماكن أخرى في المستقبل، يعني سيكسب منه أضعاف ما دفعه، يعني نحن أمام إصبع من أصابع الرأسمالية التي أراد الفنان السخرية منها في هذا العمل، وقد نجح أيّما نجاح.

أمريكا، 2016

أمريكا، 2016

من المبولة إلى إصبع الموز

في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان بحث الفنانين عن أشكال ومفاهيم جديدة في الفن لا علاقة لها بالأشكال السائدة، والتي رأوا أنها نتاج الماكينة المجرمة نفسها التي صنعت الحربَ وكلَّ القيم والأفكار التي قادت إلى تلك البشاعة واللا إنسانية غير المسبوق حجمها. كفر الفنانون بكل قيم المجتمع وبحثوا عن قيم بديلة لعالم بديل، فكانت الـ دادا، أو الحركة الدادية، كما درج على لفظها التعبير العربي. وجد مارسيل دوشامب، منظّر وفيلسوف هذه الحركة، أو هذا الاتجاه، في فكرة الشيء الجاهز readymade أو الـ found object ما يبحث عنه. يعني لو رأى الفنان في شيء ما، أيّ شيء من أشياء الواقع اليومي المحيط بنا: زجاجة، مكواة، فأس، طاولة، كرسي… لو رأى فيه شيئًا ما مميزًا أو أراد أن يضعه في سياقٍ ما يسلبه صفاته ووظيفته التي صُنع أساسًا من أجلها، ثم قدّمه لنا على أن فن، فسوف يكون فنا. وهذا ما فعله دوشامب حين عرض جاروفا، وحين وضع قطعا من الرخام تشبه قوالب السكر داخل قفص يشبه قفص فئران، وحين ثبّت إطار دراجة فوق كرسي من كراسي البارات، وحين قدّم مبولته البورسلان الشهيرة كعمل فني في المعرض السنوي بباريس ليثير السخط والرفض، مثلما أثار نقاشًا فكريًّا طويلاً انتهى في النهاية لصالحه كأبٍ للفن المعاصر، حسب التعبير الشائع. والحقيقة أن فكرة الشيء الجاهز كانت موجودة وتُمارس بشكل تلقائي لم يجد من ينظّر له من قبل، في فكرة الإبقاء على المصادفة أو التعامل معها وتطويعها لتصبح جزءًا من نسيج العمل. تخيَّل أنك تعمل في لوحة ما وسقطت بقعة من اللون لم تكن تقصدها ولكن لنباهتك وجدتها جميلة أو يمكن الإبقاء عليها والبناء حولها. هذا بالضبط هو ما بلوره دوشامب وجعل منه نظرية تسري على كل ما يمكن أن تلمسه يد الفنان. في هذه النظرية، كانت بؤرة التركيز على الشيء نفسه، أو العنصر الذي وقع عليه الاختيار لسرد شيء ما أو للإشارة إلى فكرة ما. تطورت النظرية فيما بعد حين انسحب التركيز عن الشيء نفسه كشيء، لتصير الفكرة أو المفهوم هي بؤرة التركيز، ومن هنا ولد ما سُمى بالفن المفاهيمي. في هذا الأخير، أصبح بإمكان الفنان أن يرسل ورقة إلى القائمين على معرض ما في بلد آخر، يشرح فيه الأدوات المطلوبة لعمله ومقاييسها والمسافات التي يجب أن تكون بين العناصر بعضها ببعض… إلى آخره. أي أن فكرة العمل صارت هي الأساس، صارت هي العمل نفسه. كما لم يعد الفنان بحاجة إلى التمتع بالمهارات الحرفية التي كانت “أساسًا” لعمله كفنان فيما سبق، مثل قدرته على الرسم أو النحت على سبيل المثال. صار الفنان فيلسوفًا مفكرًا، واستبدل قدراته التقنية والحرفية بقدرات معرفية شاملة، فصار متأملاً للعالم وصاحب رأي، بالضرورة، فيما يحدث حوله من ظواهر سياسية أو اجتماعية، إن لم يكن صاحب رؤيا. من هنا نستطيع أن نقترب بشيء من الثقة، وبقليل من الاستنكار، من إصبع موز فناننا هذا، ماوريتسيو كاتيلان.

من هو ماوريتسيو كاتيلان؟

ماوريتسيو كاتيلان

ماوريتسيو كاتيلان

“واجب الفن هو طرح الأسئلة وليس الإجابة عليها. فإذا كنت تبحث في الفن عن جواب حاسم، فأنت بلا شك في المكان الخطأ. كتاب أو مجلة أو فيلم، هم مثل اختبار روشاخ، ما تراه هو أناك الداخلية الكامنة. يعكسون بدقة قصوى مَن تكون، أكثر ممن يكون الفنان”… “بالنسبة لي، فإن السؤال الحقيقي هو: هل توجد حياة قبل الموت؟ الشيء الذي يرعبني حد الموت هو خوف الناس حولي من كل شيء”… “السياق الذي يحكم عملاً ما هو جزء من معناه، وبالقدر نفسه، المنطلقَ الذي ينظر من خلاله متلقي العمل، سواء كان ثقافيًّا، نفسيًّا أو اجتماعيًّا. الفن منطقة يستطيع كل شخص بمهارته أن يستكشفها، وذلك لأنه لا وجود لأبجدية ما. ولكن في الوقت نفسه، لا أحد سوف يشعر بالمشاعر نفسها أو بالتجربة نفسها التي يشعر بها رفيقه في السفر. إنه سلطان التفسير الذاتي”… “أومن بقوة أن الكلمة الوحيدة الممتازة هي تلك التي تطبق على العنق لتخنقه. أنا متأكد تمامًا أن محاولة توصيل فكرتك إلى الجمهور مهمة غير مجدية تمامًا: فلو أن بالإمكان تقليص شيء ما إلى مفهوم واحد، واضحٍ ومحدد، فسيكون، بالضرورة وبكل تأكيد، ميتًا فنيًّا”… “أنا لست يائسًا ولكني حزين، ثم إني أميل للهروب من المأساة من مخرج الطوارئ”.

هذه الأقوال التي نلمس فيها روحًا جادة وعميقة، بنفحة من السودوادية، هي لذات الفنان الذي يصفه الكثيرون بأنه مهرج ومخادع، بسبب الروح الساخرة التي تسِم أعماله الإشكالية. فها هو في عمله “أمريكا” يصنع قاعدة حمام (تواليت) من الذهب الخالص ويوصلها بالمجاري (سُرقت بالمناسبة في الشهر الماضي في أثناء عرضه في أحد القصور القديمة بإنجلترا، وقد تسببت سرقته في طفح المجاري بالقصر بسبب أن العمل كان مُوصَّلا بشكل فعلي بماسورة الصرف)، وفي عمله “الساعة التاسعة” يصنع تمثالاً من الشمع، واقعيًّا للغاية، يصور البابا يوحنا بولس الثاني هاويًا على الأرض بعد اصطدام نيزك بجسده، وها هو الآن في عمله الطازج الذي بين أيدينا “المهرج” يقوم بتثبيت إصبع موز على الحائط بشريط لاصق، ليثير كل هذا اللغط العالمي بحكاية بيعه بهذا المبلغ الضخم. 

لم يتلق كاتيلان تعليمًا فنيًّا، فهو من هذه الناحية ابن نفسه ومعلمها. القراءة في مجلات الفن إلى جانب نشاطه في إقامة المعارض، ككيوريتر، أي كقيِّم فني، كانا مدرسته، حسب وصفه. ولد في مدينة بادوا بإيطاليا 1960 لأم كانت عاملة نظافة وأب يسوق شاحنة. بدأ حياته العملية في الثمانينيات مصممًا ومنتجًا للأثاث. بالإمكان الاستطراد في هذه المعلومات عن أنشطته فنذكر أنه شارك في تنظيم العديد من البيناليات والمعارض، وأنه، كناشر، ساهم في تأسيس ونشر العديد من المجلات والكتب الفنية، وأنه، خلال سنوات التسعينيات، كان مولعًا باستخدام الحيوانات المحنطة في أعماله، حيث قام بتحنيط عدد من أحصنة السباق، وسنجابًا، ليدخلها في تركيباته الفنية العجيبة. ولكن هل تنجح مثل هذه المعلومات في إعطائنا صورة يمكن أن تجيب على السؤال، مَن يكون ماوريتسيو كاتيلان؟ إننا حتى لو استعرضنا أعماله وقمنا بالنبش فيها بحثًا عن إجابة على هذا السؤال، لواجهتنا في النهاية تلك المقلة الكبيرة في المحجر الخاوي، تحدق فينا بسخرية مثلما نحدق فيها باستجداء وفضول. كل ما نستطيعه هو الوقوف بتواضع أمام تركيباته وأفكاره الفنية الفريدة، التي لا تشبه نتاجات فنان آخر، ونحاول أن نمسك بخيط ما من خيوطها الإيحائية متعددة الاتجاهات والزوايا والمعاني، والتي تشير في مجملها، إلى التناقضات العميقة في المجتمع المعاصر. فأيّ رعشةٍ جماليةٍ نادرةٍ تلك التي يمكن أن تختلج في صدورنا ونحن أمام تمثال هتلر، رمز الشر الكوني، بفرط واقعيته ومادته الشمعية، راكعًا على ركبتيه في جسد تلميذ مدرسي يصلي. يا له من سكينٍ جمالي حاد ينغرس ببطء في صدورنا ونحن نرى هذه الصورة الساخرة والعميقة لوجه مَن تسبب في قتل ستين مليون شخص، جاثيًا على ركبتيه في خشوع صبي صغير!
أين الجحيم إذن وأين هي عدالة السماء؟ وأين توارى شعب كامل من القتلى خلف براءة الجبين وقداسة السكينة؟ وأيّ بلاغة تلك التي جمعت بين الذهب وبين الخراء في تواليت الرأسمالية ـ أمريكا؟ هل الرأسمالية هي الذهب الذي يمر في ماسورته الخراء، أم هي الخراء الذي يحتويه الذهب، أم أنها الاثنان معًا؟ هل نحن أمام خلق فني يصور الواقع في أدق وأقسى صوره، أم أمام أفّاق يسخر منا بغرابة أفكاره وعبثيتها؟ أيًا ما كان الأمر، يجب ألا ننسى أن الفن نفسه كذبة، وأن فكرةً، أو نكتةً ساخرة، مثل إصبع الموز هذا، تثير جدالات في العالم بهذا الشكل، سيكون من الحماقة السخرية منها بهذا الخليط البائس من الجهل والثقة. بالأحرى يجب البحث في كل أعمال الفنان عن بصمة الروح التي نبعت منها أفكاره الفنية، على اختلافها وتنوعها. “الأصالة لا توجد بذاتها” يقول “إنها نموّ وتطور لما تم إنتاجه… الأصالة هي قدرتك على الإضافة”. لا شك أنه قد أضاف بأعماله لتاريخ الفن شيئًا؛ أعماله التي لن نرى فيها سوى انعكاس دقيق لأنوَاتنا الداخلية الكامنة.