حياة الكارتون

قصة

محمد زغلول

أتطرق لموضوع ما، تبرز فورًا مواضيع أخرى في رأسي مثل رؤوس الدجاج، عندما يطل من قُن الرسوم المتحركة.
لا تعجبه الطريقة التي يصف بها نفسه، يترك الأمر في كثير من الأحيان لهم، يخطئ عندما يعجبه الأمر، لا يهاتف أحدًا، يمكننا اعتباره أليفًا إن قرر اصطحابه، مثل حيوان يتجاوز الوقت في أهميته، لا يملك المبادرة، ويعتقد أن ذلك أفضل. لا يهاتف أحدًا، لا يخرج من المنزل إلا لتلبية اتصال أو دعوة، يمكنه الخروج متى شئت، ليس لديه إمكانية الرفض، لا تعجبه الطريقة التي يصف بها نفسه، ليس هناك خطة، لا شيء يفكر فيه لنفسه، العبور السيء في أفضل الأحوال من نقطة لنقطة، من شخص لشخص آخر، من مجموعة إلى مجموعة، مطوي بعناية، أين العناصر؟
على الشاطئ.. نمت كثيرًا لأعرف ما التالي.. التليفزيون أم الشارع أم الوقت؟ الخيارات مفتوحة.. هل تختار؟ هل تحسن ذلك؟ أنا لا أعرف الاختيار. موجع، موجه، دائمًا هناك من يختار لي، تتزاحم الأمكنة، يتكدس الحضور، يوجد دائمًا من يطفو، ليس أنا، أين العناصر؟ تخوم في الأعلى تتبخر، من يهبط؟ اضغط عليَّ بالسؤال تهرب مني الأجوبة.
أحب الشوارع، أنظر إلى وجوههم، أذهب إلى الزاوية، هناك في أي ركن أجده، أراقب الناس لمدة ثلاث ثوان كلما مروا، أحاول تحليل شخصياتهم فقط بنقرة الأصابع، الوجه يمكن أن يخفي الكثير من الأشياء، والناس دائمًا تخفي أشياء، تلك الأشياء التي لا يعرفونها عن أنفسهم، بماذا يشعرون، وماذا يفكرون في هذه اللحظة؟ كيف يمكن أن تعكس تصرفاتهم الطريقة التي يتفاعلون بها؟ هل اكتشفوا أمري؟ تنتظر كل مائدة أن أقوم لفحصها، أو هكذا يهيأ لي، كأنهم يهتمون بواجباتهم الخاصة ولا يريدون المساعدة، كل طاولة يجلس عليها أفراد يبدو عليهم الانتظار، مستعدين للبت في مشكلاتهم.
كان ذلك في محل سمك كبير، عندما كنت طفلاً في يوم عائلي لم يتكرر كثيرًا، وأكثر ما علق في ذهني ذاك اليوم أن هناك حياة أخرى غير حياتنا، نحن، في بداية اليوم اندهشت من الحيوانات في الحديقة وأنا أنظر إليهم في عجب، وأسأل هل كان ذلك حقيقيًّا؟ كيف ولماذا؟ ثم في نهاية اليوم، أو في منتصفه، جلست إلى الطاولة مع عائلتي منتظرين الطعام، وبينما نفعل ذلك أخذت أحدق إلى كل شيء حولي، الناس، النظام، الطريقة التي يدار بها المطعم، الابتسامات العابرة بين العاملين والزبائن، الطاولات التي تنتهي والأخرى التي تبدأ، هل نحن هنا لكي يقول لي هؤلاء أنهم يعرفون ماذا يفعلون؟ أو لأنهم يريدون لي أن أرى بعيني أنهم على ما يرام؟ هل طلب منهم الله ذلك؟ كانت هناك طاولة تجلس إليها امرأة جميلة مع ابنتها، يأكلون معًا، كانت الساعة تتألق في رسغها مقلوبة وهي تساعدها على الأكل، لم أكن أرى إلا حياة حقيقية منظمة بعناية فائقة، من قدرتهم على العيش بتلك الطريقة، كأنهم جميعًا في مشهد سينمائي ينفذون أدوارهم، لا أكثر.
هل ينقصهم شيء؟ هل يريدون ما أستطيع منحهم إياه أو مساعدتهم به؟ لماذا يبدو كل شيء في عيني إذا بهذه الطريقة؟ الناس سعداء ولا توجد أي مشكلات على الإطلاق، إذا لماذا أحدق إليهم كأنني لو خرجت من هنا لصار المكان باليًا، أو كما كان قبل أن ندخل، لا أعرف بالطبع كيف كان، لكن أعرف كيف سيصبح عندما أخرج، بالتأكيد سيتحول كل شيء إلى تماثيل لامعة وجميلة، أليس ذلك أفضل من استمرار يدك على قلوبنا؟ لماذا أشعر أنه ينبغي عليَّ الاطمئنان لهؤلاء الناس جميعًا، وأنهم سيبقون هكذا على الدوام؟ هل لأنهم يستحقون ذلك؟ المكان بالكامل متناسق ويبعث على الراحة بشكل قلق، يجعلك تفكر في مصير كل هؤلاء، من أين يأتون؟ وإلى أين يذهبون؟ هل يفكرون في مستقبلهم جيدًا؟ أتمنى أن يكونوا بخير جميعًا كما كانوا.
عندما كبرت لم أكتفِ بالمحيط، توجهت إلى ذلك المكان البعيد، وشعرت أيضًا أن الناس هناك تحيا في قلبي، دائمًا. وأدركت للمرة الأولى كيف مشى بوب ديلان في المدينة، وحدثنا عن بعض الأشياء.
بجوار أي شيء تعودت قراءة المذكرات، أردت أن أكتب واحدة لشخص أظن أنه عاش هنا، أشعر به خلف الرقبة، نفس الجذور الملتوية والأصل، نتكلم كأننا نفتش، العالم أخطأ بحقنا عندما منحنا القدرة على الكلام.
أرفع رأسي إلى السماء، أشعر أن المنظر ينتظر مني أن أفعل ذلك، الهواء ينفذ إلى رئتي، يطلبني النعاس، أحدق تهديدًا أو مداهنة. كبرت على كره النوم، عدا ذلك كلي محايد، في المنتصف، يسألني أحدهم، أعد تقريرًا كأنه استجواب، أقف تائها عندما يضيع مني شيء، أشعر في بعض الأحيان أن رأسي بحجم منضدة، بينما جسدي في منتهى الصغر، والعكس.
المذكرات فارغة، ورق أبيض، جاف، متعرج، يحمل آثار دلو الماء، والهواء ممتع وساحر وغامض، الورق متيبس، يقسم على الفرار، يصبح كتلة مصفوفة، موزعة لطرف العين، تقاوم ورقة ملتصقة، تنفلت، تنجح في الصفير، جيد، لم تكن المحاولة بتلك الإثارة.
تعلمت بهذه الطريقة. عندما أكون حزينًا، تعين عليَّ أن أصف الأشياء داخلي، لم يكن مسموحًا لنا بالكثير، نتظاهر بالرضا، نعقد جلسة الأسبرين، نبكي، ينزلق البلع، ندخل في منام فردي متصل، أركب البساط قبل أحلامي مبكرًا، أصحو عقب قطرات البول المحتملة.
الماضي بسيط، كن دائمًا بخير، أنجز الأشياء، الكرة تتيح لك التحكم قليلاً، انس أمرها، لا تعاود الكرة، لا تقتنع حتى يكفي الرفض، إذا أقدمت على قتل أحد، للأمانة يجب أن يعلم أنك تقتله في كل لحظة، بهذه الطريقة لن يمكنك الإقدام على فعل شيء، الأمانة تعادل القتل، السجن يعادل التربية؟ المعادلة تأمر تلقائيًّا أن تنفصل عن أي شيء مرتبط به، والذهاب للتأكد من معلومة زودت بها أحدًا.
الماضي بسيط، لنا طريقتنا في الحياة، لا نبالي بما تفعله الأسر الأخرى، كنا هناك رهائن لقوة ما، كأنها قوتنا. انظر إلى وأبتئس، كما لو أنك تطالع لوحة تعليمات مكتوبة بلغة أجنبية. أمر في طريقي بمرآة، أفشل في لمسي، أدرك للمرة الأولى؛ نصفين لا يدل كل منها على الآخر، مثل السائق الذي يتركني أتأمل ملامحه في المرآة التي يتواصل بها مع الركاب، ينقلب الوضع فور نزوله محطة البنزين.. أقترب أكثر من المرآة، تلتصق عيني تائهة في المركز، أشاهد لصوصًا.
الماضي نشيط، كل شيء وهم وخيال، شيء ما يتلاشى يخبرني أن عليَّ جمعه، الجمع يقلقني، يخبرني العقرب كلما دق أني عالق مثله، لذا على أن أتكتك، أسب، وفى اللحظة التالية أدون، أبتاع للذاكرة من القمامة، أغتاظ مشتعلاً.
لا تخبر أي أحد عن أي شيء عنك، مجرد طفل، لو سألك أحدهم تعرف كيف ترد؟ بماذا ترد؟ كيف تقولها؟ لا تعرف شيئًا، نخاف عليك من الحسد، العالم لم يعد يعرفنا ولا يريد، نهرب من أنفسنا لمن، إلى الحائط والشموع، ندفن أحياء… يضيق صدري، أختنق، أحرز، أتكلم كأنها مذكرات ياباني في السودان، يسجل كل المواقف التي يعيشها في كراسه.
لدي قاموس كاللوح المحفوظ، يرادف ويسبق الوصف، يرقم العلامات، يسمي الأشياء، يمنح البطاقات، يواري الحياة والألوان، يعكس خيبات، يصف الأشياء المحفوظة في الذاكرة، يفعل كل ذلك ويفشل في أبسط الكلام، إذا كنت لن تفهم دون شرح فلن تفهم بشرح.
أستطيع الآن أن أتذكر لماذا أعجبت بها؟ لأن السنيورة ماشية على حل شعرها بثقة، ممنوع اللمس، لأنه جديد تظل في التطلع إليه من بعيد، أو لأنها مجردة مثل شلة أشياء أعرفها، تورد إلى خاطري، أودري هيبورن، بنات ديفيد لينش، صناديق بضاعة، خطي الطول والعرض، التألق عاريًّا بما يليق سروال داخلي، أو حذاء وشراب قطني، كلمات ترى لها وقع جدير للاستعمال.
ترتدي ملابس تجعلها مرئية، أنظر إليها الآن بسحر وتمعن فائق، كلما أطلت النظر كلما ضاق البحث كلما أصابك دوار، أو استعرضت نعيق الغراب.. لديها قوام نشرة معلبة لمنتج ما، دقيقة مختصرة متقنة الصنع. كدت أنسى.. أين المخالب؟
في الكوافير، أراها بين يديها، أشعر بأنها تفعل بسهولة ما لن أستطيع فعله وهي تقلب وجهك بين الأيدي الناعمة.. تعودت على أن الأغراض تنطق بالحقيقة، لا تقبل التعديل، حتى لو لم تؤدِ الغرض من وجودها، بهذا الشكل يجب على المحيطين التكيف معها.
آخر مرة اختبرت تلك الجملة التي نجحت في صوغها الآن، كانت في قفص، عندما حاولت عصفورة الوقوف على مشبك بلاستيكي مخصص لذلك، تذكرت عندما نبهني صديق أنني لن أحتاجه، عن نفسه يفضل عصا طويلة تقطع القفص بالعرض، لكن لماذا صنعوه من الأساس؟
أنتقل من طبقة إلى أخرى، الأمر مهم إلى هذه الدرجة، صوتي بعيد يجب أن أقطع المسافة، أعبر بالطرق المضمونة التي نشأت عليها، تحت رأسي مباشرة توجد الأصوات، كنت أثير حساسيتها بقطرات البول، أنظر إلى الشجرة، تتمايل الفروع كأنها تريدني للنوم، أصعد إلى السحاب.. أن أنتقل بالزمن جزئيًّا دون هيكلة العالم أو إحلال أي شبر منه، تتوفر لي إمكانية الرسائل النصية مثلاً، لكن العالم كما أعيشه، ليس هناك أبراج، أو أقمار صناعية لا أعرفها أصلاً، ولا سمعت عنها.
يلتهم الوحش أطباق يابانية غريبة الشكل والوصف، لا يعرف من أين له التكهن بصنعها، لكنها مقدمة من الإنمي، مع أنها في الحقيقة تشعرك بالدوار.
أعرف منذ البداية أنه عرض يخيف، وعليَّ مشاهدته، أعزف أحيانًا، أصلي نفاقًا ألا يتبعني أحد إلى هنا، أسعد لخيال شخص قريب مني يهتم بإثارة التخمين عني، وهو يشكك تمامًا أن أكون منتبهًا لذلك.. يتسلل ظلي هناك إلى فقرة أحبها كأنها لافتة قديمة على جانب الطريق.. هناك إيقاع دائمًا، يختل؟ كأنك تذهب على نقاط إلى سجن المقاطعة… أسير في المعاكس دائمًا لأن السيارات بالنسبة لي أهون من مقابلة الناس، للسيارات أذى موحد، لكن البشر لا تتوقع منهم شيئًا مع أنهم آلات.
أرتجف ويخفق قلبي كلما مررت بنافذة حائط، أو أخرى حديدية، يذكرني ذلك بأول حقنة تسحب مني عينة، لقد فارقني الدم قبل أن تجهز الإبرة، عاهدت نفسي ألا أدخل هذا المكان أبدًا مرة أخرى، لكنهم بطريقة ما كانوا يجدون طريقة.. حلم قديم، بنت جميلة، تشبه ممثلة ناشئة لا أعرفها، لم تظهر بعد، لكنها تظهر دائمًا في الحلم على سفر، مرة ألقي عليها الوداع كأنها تعويذة، في كل مرة، أرى والدها يتظاهر بالانتظار ويضع آخر حقيبة في الشنطة، ومرة أخرى وهي تجر تلك الحقيبة، رأيتها في المترو تجر تلك الحقيبة، تدخل من محطة وتخرج بعد عدة محطات ولا أعرف إلا في اللحظات الأخيرة، تقفز مسرعة إلى الداخل مع كومة بشرية، أكون تائهًا لبعض الوقت مع الأغنية في رأسي، أشعر بحر شديد يخبرني أن هناك من يراقب من بعيد، كأنه حيوان يتنفس جوارك، ثم أشعر أنها شخص يجب على رؤيته، كأن هناك خيوط خفية تربط بين عيني وعينها، كانت هي تمسك زمام تلك الخيوط، وكنت مثل طفل صغير يشعر بالملل، ولا يأبه بمن يمسك يديه الاثنين، ويلعب بهما موج الحبال، أتمكن أخيرًا من النظر مباشرة داخل عيونها، يحدث انفجار مدوٍ، صانعًا دخانًا يشكل هذه الكلمة السحرية، بوم! كانت تضع الماسك، ميزت عينيها فقط، لكنها هي. يتوقف المترو في المحطة التي تفصلنا، تجر حقيبة الأحلام، وتنزل.
أكره التغييرات المفاجئة، تصيب الإنسان الأول، تصيب الثاني، تصيب الثالث، يصمت الجميع، يوجهون الأصابع، تلمِّح لابنتك الذكية ألا تلعب معي مرة أخرى، لا تريد أن تراها واقفة بجواري، لا أريد أن أرى وجهك مرة أخرى، أكره الغباء، أكره النظرات المتهمة والموجهة باتهام، أكره اختلاس ما حُرِّم عليَّ، أكره أن أرى في وجهك كل العلامات التي تقول إنه ينبغي عليَّ المحاولة مرة أخرى. أود أن أجمع الآباء يومًا لأقول لهم أنتم أطفال مزعجة. الفتى يحوم، يكبر، يظل يكبر في الورش والطرقات، يحول طفولتها إلى مراهقة مبكرة.. أن أستحي من جميع المؤثرات والنقد، ليس ذلك وحسب بل يتحرك أحيانًا وهو فاقد الثقة بالرسائل المبطنة، بالإشارة، أكمل التجربة، أبصر حقيقة ما يتفوه به أولئك المنافقون، أعرف أنه محض هراء، لكن هناك شيء متجذر داخلي يُلزمني بأن أفعل ذلك، ليس لإثبات شيء، بل لإرضاء طبيعتك، عسى أن يطلع عليها أحدهم عندما تفيض مني ويلتقطها، ويعرف حقيقة الأمور.
أفعل ما ينتظر مني فعله، يسألني أبي، أومئ برأسي علامة سلبية، لا يفهم لمَ، لا أفهم لمَ، لا أريد له شيئًا أريده، يغضب، يستخدم الوجه بطريقة مهينة أكثر من كونه “قلمًا” على الوجه، لا يكلفه الأمر شيئًا غير زلة يرتكبها ويظل يعتذر عليها بطرق أكثر غضبًا.
لا يرفض الشيء الذي يريد رفضه، أشعر به مثل الإبرة عندما تغرز في النسيج، أسنانه في قلبي، يمضغ في الداخل مربعًا مكان قلبي المخلوع، يقضم ويبصق، يمضغ جيدًا حتى يستخلص منها العصارة ثم يبصق، لا يفارقني هذا التصور طيلة النهار تجاه من يعتقدون أن لهم الحق في الأذى، في المساء طوال الليل أشعر بخوف وحنين عليهم من الخوف.
لا أريد حضارة لن أستفيد منها، أعرف كيف يعيش الأوغاد، أعرف علام يضحكون فوق حطام جاهز من الركام، أو بين أحشاء متدلية، يقف الشرير بعد أن زال الغضب، ويرى حقيقة ما يفعله، يقول لم يكن أنا الفاعل، أتكلم الآن بصورة طبيعية أمامكم بينما أشعر أن الكيان يحجب وجهه عني، كالشمس عندما تتوارى، لا ذنب لي، لقد اكتسى وجهي بوشاح لم أره.
تسقط حمالة الفوط، أغضب، أقول في سري تعاملت معكِ بحذر، لم السقوط، أعيد تركيبها مائلة، أكتشف أنها تستند على فتحات موسعة أكثر من ذي قبل، لا تناسب المسامير، مسمار، حائط، كفي الصغير مطرقة، تموضع الحامل، أعدل المنشفة، أكتشف أنها غارقة، ألقي بها من بعيد مثل تسديدة السلة، تكرر فعلتها، تسقط على أكواب موضوعة على حوض الاستحمام، تقع على كتل هائلة من المساحيق والسوائل، التي لا أعرف ماهيتها، أعرف فيم تستخدم، تصبح المنشفة كلها مبللة، غير صالحة للاستهلاك، تعلقها على مقبض الباب، وتقع، يقفز في ذهني صورة المصارع إيدج، مباراة قديمة حديثة الوسائل، يرى الاتحاد أن عليه أخيرًا تطبيق تلك التقنية التي تسمى بالڤار، يكسب إيدج المباراة، يرن الجرس معلنًا الفوز، يجد إيدج نفسه يحتفل وحيدًا، هناك خطب ما، يتكلم الكمبيوتر، يصعد إليه المحكم ويخبره أنه لم يحقق الفوز بعد، يخسر المباراة وهو لا يزال غير مصدق ما يحاول استيعابه، يغضب أكثر، يقرر أن يعاقب التقنية الحديثة، يرميها على الأرضية بعد خلعها من مكانها الأساسي على طاولة التحكيم، يهرب الجميع، ينفذ إيدج حركة البو على الجهاز، على مرأى منه، مرارًا.
نركب سيارة الأجرة، تغير مسارها فجأة، يقرر السائق سريعًا في ذهنه ببعض المعادلات أن هذا أفضل لنا وله، يزدحم الطريق الآخر، وهو وعر بالمناسبة، تسير السيارة خطوة لتقوم بالقفز خطوات أخرى، تستكشف الأراضي الزراعية الواسعة كأنها أدغال، نأخذ طريقا آخر متفرع من داخل الطريق الذي مسلكه يتفرع، نقابل كل ما ليس له علاقة بنا، لكن يجمعنا طريق واحد، يؤذن المغرب، يدخل الليل، تتصرف السيارة كأنها مستكشف هاو، عبر المصابيح الأمامية، السائق لا يهتم إلا بالسرعة، كأن الوجهة التي يقصدها مرسومة أمامه، تغريه بالاقتراب، وتبتعد، مثل الدوائر المرسومة على نفسها أكبر فأصغر تتوسطها نقطة الهدف، إلا أنها تضيق أمامه وتتسع، يحاول تركيزها، يلهث ألا يلهث، يكتشف أنه يقبض أنفاسه، يحد من طاقته كيف يستشعر المسافة، يتفاقم الوضع، يخبر نفسه هل هذا الطريق حقًّا الذي أعرفه؟
يصطدم في بعض الأشجار على جانبي الطريق الذي يشبه مضمار السباق، يفعل ذلك لأن الطريق أمامنا أصبح غير مرئي بسبب الضباب، مفتوح كأنه غابة، يخاف أن تبتلع التيه داخلنا، يراودني الشعور نفسه، يملؤنا التراب والندم، والمسؤولية.
إنه مثلي، يأمن العقاب، يتحمل نتيجة التأخير على سلامة السوزوكي، تصله الفتاة بوالدها الذي أراد الاطمئنان عليها، يخبره بهدوء من يتمالك نفسه أننا على وش الخروج إلى الطريق السريع، أنهى السائق المكالمة، وشعرنا جميعا أننا أحياء، ترتخي أعصابه المتينة، يقبض على الهاتف جيدًا بما تبقى ليعيده إلى الفتاة، كان يشعر أنه في أي لحظة قد يتحرر الهاتف من ثقل جاذبيته ويسبح في الفضاء، قدم لها الهاتف على راحة يده مثل النادل، وبعد أن هدأ روعنا تساءلنا جميعًا لماذا لم يتصل بنا أحد؟
تجاوز السائق كل ذلك من البداية، لم يرد شيئًا لنفسه، غير زوج إضافي من الأحذية وعين غاضبة على سبيل الاحتياط، أردت أكثر من ذلك، كي أتمكن من لكم هذا الطفل الكبير بجانبي، كفاه نفخًا، لم يتوقف ثانية عن الاستغفار، ولا الكلام، ولا التأتأة مع أنه لم يكن معارضًا من البداية، بل هو الذي حاول على مضض كبح ما سوف يقال استعدادًا، ولا خيار لدينا… خرجنا أخيرًا إلى النور، شعرنا مع نظارة السائق المغطاة بالتراب، براحة من يسدد ديونه.

في تلك الليلة، عدت إلى البيت مشبعًا بالأتربة، توقف المحمول نهائيًّا ولفترات متصلة أطول من المعتاد عن فعل أي شيء، يتصرف وحده تمامًا من مناطق معينة بسبب الكسور الكثيرة على الشاشة، كل ثانية يعلمني أنه وقت التصليح، لأنني أصبحت فاقدًا للسيطرة عليه وهو ما لا يرتضيه، يرن وحده، يصيبني الذعر، ينير الإضاءة وحده حتى تنفد البطارية، أمسح عليه بباطن يدي بشدة، كي أتمكن فقط من إغلاقه أو إعادة تشغيله، تظهر نافذة التحكم المطلوبة، تنتهي سريعًا قبل أن أفكر في شيء، أتذكر وقوف بوشكاش عند الحوض، وكان قد فقد سلسلة حظه، ينتظر وصول المياه من الصنبور، لا تصل إلا بعد أن يقرر عدم استعمالها، تأبى أي فرصة في اقتناصها، أتمكن أخيرًا من إغلاق الهاتف، بعد وضعه على مسافة معقولة من النار لتدفئته، يفتح ويبدأ اللعب مع نفسه، أتخيل أحمد حلمي وهو يستمع إلى سمات الشاب الݘان عبر الكاسيت، ثم بعد ذلك يضربه بالعصا.
يحرجني الذباب مرتين، مرة عند المطاردة، ومرة عند التردد في الإطاحة به، لأن هناك من قال لي إنني أقل شأنًا من تلك المخلوقات، على الأقل هم أكثر مني فائدة وإنتاجية، على مستوى أهم يبقى لهم دور محدد في التوازن البيئي، لا أعرف إن كان من يقول مثل هذا الكلام يريدني أن أصبح سوبر مان أم لا أرضى عن نفسي مطلقًا، هناك مرة ثالثة أشعر فيها بمرارة الكلام والكيد، عندما يستعد الذباب لكي يحط في هذا المكان ويشعل في قلبي الجمر، غير مكترث لأي شيء يذبحه بعيدًا عني، عائلتي لا تكترث لما أقوله وكذلك الذباب.
أخاف على الفراشات حين تقترب مني لأنها أرق من ذلك بكثير. في ذات الوقت، كان هناك رجل على الشاشة، يدعى ماكس، كان يعاني الأرق، وأمضى الليلة وهو يشاهد التليفزيون، وأن يصطاد طعامًا إلى السمكة، هنري الثامن، وكان يمسك الذباب لمطعم السمكة بها، دوَّن في مذكراته أنها كانت سادس ذبابة يصيبها تلك الأمسية، في تمام الساعة التاسعة مساءً.
كان ماكس في عمر الـ 44 يشاهد آل نوبليت أيضًا، لأنهم كانوا يعيشون في مجتمع محدد، وفي انسجام دائم، وأيضاً لأن لديهم عشرات الأصدقاء. شاهدت باز يطير أيضًا في ليلة أخرى، وكانوا أصدقائي الوحيدين في تلك الليلة، وشعرت بهذا السبب… تليفزيون ماكس الصغير كان يعرض الصورة فقط دون الصوت، التليفزيون الكبير يعرض الصوت دون الصورة، انتقلت شاشة المحمول من تلقاء نفسها إلى تلك الجزئية، أرجعت الشريط مرة أخرى من البداية، أشاهد الفيلم، أقرأ كل مشهد كما أشاهده، هذه ميزة لا يعرفها الفيلم عن نفسه، ماونت ويفرلي أجمل مدينة عام ١٩٧٢، في استراليا.
كانت عينا ماري دنكل ذات الثماني سنوات بلون الوحل، وحمتها بلون الفضلات، تمنت ماري لو أن لديها صديقًا تتلاعب معه، أصدقاؤها الوحيدون كانوا آل نوبلت من فيلم الرسوم المتحركة المفضل لديها، لم تكن الدمى الحقيقية التي تباع في الأسواق، بل زائفة صنعتها بنفسها من الصدف، الحطب والزينة وعظام الدجاج التي احتفظت بها من وجبة طعام ليلة الجمعة.
لم تعتقد ماري بأن هناك شيء أجمل، من استنشاق رائحة ديك رطب يجلس بجانبها، وصوت المطر على السقف، ومذاق حليب مكثف محلى من العلبة في أثناء مشاهدة برنامجك المفضل… هناك فرق بين الريف والمدن، في الألوان والجو والمزاج المسيطر، الأبنية والتواصل، وعلاقة الناس ببعضهم بعضًا، الوحدة حالكة السواد أكثر في نيويورك.
كلمات تتدفق كأنها ظبية تخرج للنور بعد أن طمأنت للطريق أخيرًا، ظرف للرد يعنونه المرسل ويضع عليه طابع. آلة كاتبة تنتج أصدقاء مراسلة… يأتي الرد، طبق خفيف يستهل الوجبة، يفرط بعد ذلك، يكتب في رسائله أن عليه تقنين كمية الطعام في اليوم، حسب الحمية التي من المفترض عليه أن يتبعها، لكن ذلك أسهل مقارنة بالمرأة التي تقابله في المصعد وتقبله رغمًا عنه.
تصبح الرسائل المتبادلة، خصوصًا من جهة ماري، عبئًا كبيرًا على ماكس، تضفي عليه معاناة غير مقصودة، تساءلت ماري إن كان ماكس لم يحبها قط، بعد انقطاع أخباره لفترة طالت أكثر من المعتاد، أخذ يعلم نفسه أن يصبح أكثر حذرًا مع رسائله، يراجع أو يقرأ بدقة، ويتوقف عندما تأتيه نوبة.. تتقدم ماري في حياتها، ويسعد ماكس لرؤيتها عبر الرسائل تخبره بذلك، تفطن ماري إلى مفاجأة سوف تعجب ماكس كثيرًا، لكن ما زلت أنتظر أن يقع ما يفسد كل شيء، لأن تلك طبيعة الأشياء عندما تكون سعيدًا أكثر من اللازم.
تفقد ماري الأمل في أي شيء تقريبًا، وتعود إلى حياتها الفارغة الجديدة، بعد أن أرسلت كتابها الوحيد إلى طاحونة الورق، كانت تحاول مساعدته في التغلب على تلك الأزمة، وأيضا تقاسم معه الأرباح العائدة من النشر، لكنه قابل ذلك بغضب شديد، وتوقف عن المراسلة، للحظة رأيت أن ماكس وهو غاضب يشبه إلى حد كبير مستر روتويلر، من سلسلة ألعاب الفيديو الشهيرة، جار من الجحيم، والمعروفة باسم تجاري آخر، إزاي تخنق جارك، كان ماكس يؤدي تلك الحركات المسرحية بإتقان شديد، حتى المكان نفسه كان تحول إلى بيئة اللعب، قبل فترة، بعد تشخيص ماكس للدقة، باتت كل رسالة تنطوي بشكل رئيسي على إعداد المكائد والحيل، التي من شأنها توفير أقصى قدر ممكن من المضايقة.
كان ذلك تصرفًا أنانيًّا وغير لائق، اعتبرها انتهازية، وكتب لها المصطلحات الجديدة التي يود إدراجها في القاموس، تعبر هذه الكلمات عن مشاعر خاصة، لكنها خرجت على الورق سخيفة إذ لم تكن جديرة لإطفاء النار، انتزع بقوة عمود حرف الـM من الآلة الكاتبة، وضعه في الظرف، وأرسله.
وصلت ماري أخيرًا إلى حيث يقطن ماكس، بعد أحداث جديدة، كان جالسًا على الأريكة ورأسه مسنود إلى الأعلى، مات ماكس بسلام ذاك الصباح، بعد إنهاء آخر علبة حليب مكثف.. تأملت قليلاً، ولم أفهم هل أبكي على ماكس أم فيليب، أردت استعارة هذه الكلمة من قاموس ماكس، التي تصلح تمامًا لهذا الشعور.. لقد منحه فيليب هوفمان هذه الحياة، بصوته الأكثر دفئًا وحميمية على الإطلاق، لولا أداؤه الصوتي، ما كنت أتقبل غضب ماكس المشروع في إطاره الدرامي، وبعيدًا عن أنها مأساة حقيقية تفطر القلب، يجذب الطابع الكارتوني انتباهي إلى المقارنة بين الحياة التي يعيشها ماكس، والحياة التي يعيشها مستر روتويلر من قبل نظام اللعبة، نفس الروتين اليومي المنشغل بالأعمال المنزلية، نفس الأشياء القابلة للاعتناء، طريقة التحرك، نشاط الأكل المحبب مع مشاهدة التليفزيون، الجسم رخو قابل للزيادة والتمدد عرضًا بوضوح على الكرسي، نفس الغضب والتفاعل مع العالم والأشياء، الصراحة التي يذكر ماكس أنها تضايق الناس، نفسها التي تجعل الجار يفعل ما يحلو له دون أدنى تفكير حول عواقب ذلك على الجار الآخر، أو حتى ملامسة تأثيره، بعد أن تتعرض لنفس المضايقة. كل ذلك يتلاشى مع فيليب، أجلس بحزن، وأشعر بخروج أغنية، يتمتم مات إليوت داخلي مثل صبي يمنعه البكاء من التكلم بكلام مفهوم، من الألبوم المفضل على الإطلاق في الشتاء Drinking song.

* * *