كارلوس ساورا: داخل الماتريوشكا

كلما ابتعد انكشف عالم جديد

محمد هاني

ولد كارلوس ساورا في مدينة أويسكا بإقليم أراجون الإسباني عام ١٩٣٢، لأب محام وأم عازفة بيانو. انتقل للعيش في برشلونة ثم بالنسيا، وبعدهما مدريد في عام ١٩٥٣. وكانت تلك التنقلات استجابة لوظيفة والده الحكومية وتكليفاتها الملزمة. انفصل عن أهله بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية، ورجع ليستقر فترة مع جدته لأمه وخالاته في أويسكا. فترة وصف أصحابها بـ”اليمينية المحافظة والتديُّن”. فأويسكا، التي تقع في منطقة أراجون، تميل في هواها إلى القوميين. أما مناطق كتالونيا وبالنسيا ومدريد، فيغلبهم الحماس إلى الجمهوريين. هكذا نشأ بين سرديتين إحداهما فاشية. وتبعه هذان العالمان في وجدانه. وظف بعض محتوياته في أفلامه لاحقًا. امتدت أعماله خلال عقود. تشكلت، وأعيد تشكيلها، بين تنوعات سردية وتجرد صوب جماليات سينمائية خالصة. بعد أن أنهى دراسة الهندسة المدنية بدأ بتحقيق أفلام تسجيلية قصيرة. لحقها بفيلمين يغلب عليهما طابع الواقعية الجديدة. ليبدأ بعدها أولى خطواته نحو أسلوب متفرد، يتجاوز ما يعترضه من رقابة، ويعكس همه الفني والشخصي والمجتمعي. أسلوب يمتزج فيه الزمن والمكان، الحقيقة والخيال، الماضي والحاضر.

سنوات فرانكو

في سنوات الحكم الفاشي، لجأ ساورا إلى الرمزية. كانت موضوعاته قريبة مما عاشه وتأمل تراكماته. نرى في أفلام تلك الحقبة انعكاس لصور القهر والأبوية فيما هو يومي، أو ما قد يبدو نشاطًا اجتماعيًّا بسيطًا وتقليديًّا. لم يتجاهل الثقافة الذكورية وعلاقتها التي تبدو شرطية مع تسيّد اليمين المتطرف. لكن تظل فنيته غالبة، ويلجأ سريعا إلى أسلوب يتجاوز الواقعية.

“تتصرف ذكورها في الصهد مثل الرجال عندما يفتقدون النساء”!
في إشارة إلى ذلك المخلوق في المقولة السابقة، يبدأ “الصيد” باقتراب الصورة من حيوانيّ نمس في قفص. ندرك قرب نهاية الفيلم علاقة ذلك المنتمي إلى القوارض برحلتنا. فهو يستخدم في مطاردة الأرانب في جحورها. تهرب من مخالبه فتخرج إلى الخلاء لتنتظرها فوهات بنادق الصيادين من بني آدم. الخلاء مكاننا الذي تدور فيه الأحداث. تجتمع مجموعة من الأصدقاء التاريخيين للصيد في موقع يحوم به شبح الحرب وأصداؤها. تحاول الصحبة ترك أزمات منتصف العمر وهواجس الدونية خلفها، لكن الأزمات والهواجس تشتد مع شمس الصيف وحصار المكان. يتصاعد الضغط من نقطة الصفر، وتمتد حافة الهاوية حتى نهايته. بعد الوصول وإعداد المجلس، يبدأ صيد الأرانب وينتهي بنجاح. الكل راض والوجبة تعد. لكن الحرارة وما تعلق من خارج الخلاء بالمجموعة دفع بذكوريتهم إلى ما هو كارثي.
يعتمد كارلوس ساورا في خلقه لأجواء الترقب على عدة عوامل. أولها وحدة المكان، موقع الصيد. ثانيها الزمن المتصل للأحداث. يدور الفيلم من الصباح إلى الظهيرة. ثالثها الشخصيات المحدودة. هم ثلاث أصدقاء وأخ لزوجة أحدهم، ورجل وطفلة من أهل المكان لخدمتهم. ورابعها اللغة السينمائية. تمتد لحظات من الصمت يخيم عليها صوت حشرات المكان، يشغلها مونولوج داخلي للشخصيات. نسمع ما يدور برأس بعضهم وسط لقطات متحركة بإيقاع خطواتهم لاتخاذ مواقع استعدادًا للصيد، ولمراقبة بعضهم بعضًا في غفواتهم بأعين تعكسها لقطات قريبة تتأمل تفاصيل السلوك الحركي لكل منهم. وبناء بلقطات تبادلية بين الصياد والفريسة، يحفز بها المخرج حينًا ويختمها بنتيجة تفاقم الحالة العامة حينًا آخر.

“أنا على يقين بأنك لا تحضر القداس في أثناء وجودك في مدريد”!
يخطو ساورا تجاه الذاتية في فيلمه “أنجيليكا ابنة الخالة”. يستحضر طفولته في بيت جدته. يرجع لويس، الشخصية الرئيسية، إلى منزل طفولته لينقل رفات أمه من مدريد. في أثناء زيارته لإنهاء تلك المهمة ومراسمها، يسترجع ذكرياته وما خلدت بنفسه من أثر نراه في علاقته بشخصيات عائلته في الحاضر. يطور من المجاز الذي بدأه في “الصيد” ويبحث في جذوره. يتقرّب من العائلة والثقافة. البيت الذي تركه والديه به طفلاً يواجه تخويف من بالغين المتدينين يهتفون داعمين قوات الفاشيين كلما تقدمت في سحق الثوار الجمهوريين. يعرض وقع ماضي بلد ممزق على شخصيات الحاضر. وخصوصًا لويس وابنة خالته أنجيليكا، حبيبته المحرمة وصديقة طفولته.

يتلاعب ساورا بالمشاهد في سرده البصري. يستخدم الممثل ذاته في مشاهد الماضي حين يقوم البالغ بأداء مشاهد الطفل. ينطبق الأمر على أسرة أنجيليكا. تلعب دور أنجيليكا نفس الممثلة التي تقوم بدور أمها، خالته، في الماضي، كذلك ابنتها. تمثل ذات الصبية دور ابنة أنجيليكا وأنجيليكا الطفلة. ويقوم زوج أنجيليكا بدور أبيها في زمن الحرب. يوظف ساورا ذلك في جمله السينمائية داخل المشهد، وأحيانًا داخل اللقطة الواحدة. قرب نهاية الفيلم، يقوم لويس بتشجيع أنجيليكا على مغامرة طفولية. يصعدان معًا إلى سطح البيت. يخرجان من نافذة الغرفة العلوية يستلقيان على سقفه بعيدًا عن الأنظار. تريح رأسها على كتفه. تنمو لحظة حميمية، ويقعان في محظور عندما يقبل لويس ابنة خالته المتزوجة. ثوانٍ ويقتحم اللحظة زعيق من قام بدور زوجها مناديًا لويس؛ يأمره بالقدوم إليه على الفور. يستجيب مستسلمًا ويرجع من ذات النافذة مذللاً. يسأل عن أنجيليكا فيومئ بالجهل ويغادر. الآن بدا ذلك انتقالاً ناعمًا إلى الماضي. يوحي به الأداء الطفولي للويس، والأبوي لمخاطبه. يقف زوجها (أبيها) أمام النافذة مواصلاً النداء على أنجيليكا حتى تظهر أنجيليكا الطفلة متوسطة إطارها وتتسلقها إلى الداخل.
ما استخدمه ساورا هنا هو ما أشار إليه رودلف أرنهايم (المُنظِّر السينمائي والأخصائي النفسي) في كتابه “السينما كفن” بأثر اللقطة الثنائي. وهي خاصية تتميز بها اللقطة السينمائية في تكوين الجملة البصرية. وأشار إلى مثال من فيلم صامت لشارلي شابلن. في مشهد على سفينة، نرى أثر تقلب البحر على مجموعة من المسافرين جالسين أرضًا يعانون من الغثيان. تقابل تلك اللقطة لقطة خلفية لشابلن ونصفه الأعلى معلق خلف سور السفينة. بينما تنم حركة خط الأفق عن تقلب المركب وما رأيناه في اللقطة السابقة، يصلنا انطباع بأن شابلن يتقيأ في البحر، لكن عندما يعتدل في وقفته ويواجه الكاميرا نكتشف أنه نجح في اصطياد سمكة.

لم يمنع تكرار ذلك الأسلوب من مفاجأة المشاهد. في مشهد أسبق، تجلس العائلة لاحتساء الشوكولاتة على طاولة السفرة. يبقى لويس في مكانه في حين تتبدل باقي الشخصيات. يعود ليوم تتركه به أمه بذات الموضع مغادرةً إلى مدريد بعد توصيته بالالتزام. تخرج من الغرفة لتلتفت جدته إليه وتبدأ في استنكار حياة مدريد وعلاقة حفيدها بربه هناك. بعد أن تابعها من النافذة باكيا تغادر هي وأبيه، يرجع إلى السفرة. من نفس المجلس ترجع خالته العجوز إلى مكانها بجواره. وعندما تتحرك الكاميرا إلى اليمين، تكون أنجيليكا الصغيرة قد حلت مكان ابنتها. تبدلت ملابسها بين المشهدين والزمنين. واحتفظ ساورا بالنقلة في لقطة واحدة بعد التهيئة بلقطات سابقة.

“روزا، هل صحيح أن أمي كانت دوما ترتدي هذا الصليب؟”!
تجدر الإشارة إلى أن اسم فيلم “تربية الغربان” اجتزاء من مَثل إسباني يعني “تربي الغربان فيخزقوا عينيك”، وهو ما يعادل في العربية قول “خير تعمل شرًا تلقى”. يتراجع ساورا في هذا الفيلم عن ذاتيته ويبقي على أثرها. فالفن ذاتي بشكل أو بآخر. تتشارك معه الأحداث في الزمن، ديكتاتورية فرانكو، وبعض التفاصيل، مثل الأم التي تعزف البيانو. تفقد الطفلة آنا أبيها، ليلحق بأمها. تعتني خالتها بها وبأختيها في صيف عصيب حتى عودة الدراسة. يواسي الطفلة خيالها، وتدعهما رؤى كلما حاصرها حزنها. نلبث معها في المنزل وغرفه المقبضة في أغلب الفيلم. ونرى عالمها بعينها. هذه المرة، يمتزج الماضي والحاضر مع الخيال. يلعب الخيال دور الوسيط والمحفز لتطور الحالة وكشف جذورها.

يوطد ساورا أسلوبه في “تربية الغربان”. يقتصر المكان على المنزل. يغازل المغايرة بين الثابت والمتحول في الصورة. فأحيانًا تلعب الفوتوغرافيا الثابتة دور الحكاء، إلى جانب دور الجدة فاقدة النطق التي تلزم كرسيًّا متحركًا. حتى عالم الفيلم قد تقطعه آنا الشابة في روايتها مخاطبة المشاهد ونظرتها موجهة إلينا مباشرة. يتجول ساورا بخفة بين أزمنة عدة في مشاهد طويلة. لقطاته تستوعب حاضر يحفز هذيانه الماضي. لقطاته الممتدة تعكس فضول طفلة حذرة في أروقة قاتمة. مثل ذلك المشهد/تتابع الذي منعت فيه ذكرى تألم الأم -في فراش المرض- آنا من النوم. تغادر الفراش وغرفتها. تنزل على الدرجات بخطوات استكشافية إلى غرفة المعيشة في الدور الأسفل. ترى أمها جالسة تكتب. تعاتبها الأم على يقظتها في ساعة متأخرة كتلك. تطلب منها الابنة أن تعزف لها لحنًا تحبه على البيانو. نفس لحن الموسيقى التصويرية للفيلم. تستجيب أمها بعد أن وعدتها آنا بالنوم بعدها مباشرة. يرجع الأب إلى المنزل وابنته على السلالم في طريق عودتها إلى النوم؛ تقف فضولاً. تراقب ما يدور بينه وبين أمها. تتوسل إليه الأم طالبةً اهتمامه وحبه. تبكي متألمة متمنية الموت. يظل الأب جافًا مهمِلاً. تقف آنا بينهما تشاهدهما في لقطة مستمرة، ثم تغادر مرة أخرى إلى الدرجات. تخرج خالتها من غرفة سابقة لغرفتها. يستوقفها استيقاظ الطفلة وتصحبها إلى فراشها. تبقى آنا مستيقظة. تشاهد الطرقة خارج باب الغرفة. تغمض عينيها وتفتحها. تتبادل اللقطات بينها وبين الطرقة. تمر أمها أمامها. مرة وثانية، ثم تدخل إليها. تطمئن على بناتها وتجاور آنا. تحكي لها حكاية قبل النوم. نرى آنا محلها متجهمة في لقطة قريبة. تقوم باكية وحيدة. تنادي صارخة على أمها. تستيقظ أختها الكبرى ثم الصغرى. تحضر خالتها وتحاول تهدئتها. تقترح الخالة أن تحكي لآنا قصة؛ قصة اللوزة الصغيرة التي كانت تحكيها أمها لها قبل دقائق. تنفعل الطفلة وتختبئ أسفل الوسادة متمنية الموت لخالتها.
هذه بداية مرحلة جديدة في أسلوب ساورا. استرشد فيها برتولت بريخت، الشاعر والمنظر والمخرج المسرحي الألماني. أهم تلك المبادئ هو التغريب. وهو كما وصفه خلق حالة من الدهشة والفضول حول الحدث، وتجريده من بديهيته وألفته. وحجته كانت التواصل الواعي مع المشاهد ومشاركته الفعالة. المشاهد الذي من أجله يقدم العرض بالأساس. من أساليب التغريب: الحديث إلى الجمهور مباشرة، الإضاءة الساطعة الحادة للمسرح، ومقاطعة الأحداث بفقرات غنائية. في المرحلة التالية، يعمل ساورا على تطوير أسلوبه السينمائي من خلال توظيفات متنوعة لذلك التغريب. ويعيد تقديم ما شغله في المرحلة الأولى بمزيد من التجريب والتجريد.

الانتقال الديمقراطي

“لا أريد لأحد أن يشاركني حبك!
انتهت دولة فرانكو بموته في العام التالي لـ”تربية الغربان”. بدأ العهد الجديد سنة ١٩٧٥. استمرت أعمال ساورا في السنوات اللاحقة. وبدأ مرحلة جديدة في ١٩٨١ عندما قدم “عرس الدم”، أول فيلم في ثلاثية الفلامنكو. أطلق ساورا لنفسه العنان في ذلك العقد، ومن خلال تلك الثلاثية تحديدًا. فكان انتهاء الفاشية بمثابة دعوة إلى التمادي في البعد عن الواقعية. في فترة النقاهة، وجد ساورا فرصة للبحث في جذور الثقافة والتراث، وعلاقته بالحاضر. تمامًا مثلما أشار الناقد أندريه بازان إلى أثر الفوتوغرافيا على الفن التشكيلي في دراسة بعنوان “أنطولوجية الصورة الفوتوغرافية”. وكيف أن الهدف قد تحول بظهور الفوتوغرافيا من محاكاة الواقع إلى أشكال أكثر تجريبية مثل الانطباعية والتكعيبية. يبدو أن سقوط دولة فرانكو والاعتراف بآلام ما يقرب من نصف قرن، دفع حالة ساورا نحو رؤى مختلفة.

الفيلم الأول معالجة استعراضية لمسرحية فيدريكو جارثيا لوركا “عرس الدم”. نشط لوركا الشاعر والمسرحي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. وقد عرف ضمن تيار السوريالية ذي الميول الاشتراكية. واغتيل لانتمائه السياسي على يد قوات فاشية في بداية الحرب الأهلية عام ١٩٣٦. عكست أعماله أفكاره وجذورها الاجتماعية وتأثره بالتراث الشعبي. وقد التفت لأسلوبه المتنوع بين أشكال متعددة داخل مسرحه. تشكل عمله من الغناء والأداء، والحكي الفولكلوري الذي جنح أحيانًا للسوريالية.

في مشروعه الثاني، يرجع ساورا في التاريخ إلى القرن التاسع عشر. يقتبس أوبرا “كارمن” لبيزيه المستوحاة من نوفيلا لميرميه. العمل الذي صدم الجمهور والنقاد في وقت شهد تقلبات سياسية واجتماعية عنيفة. ويقدم معالجة استعراضية لقصة الحب الأشبيلية بين الضابط الذي وقع في حب غجرية ثم قتلها بدافع الغيرة والاستحواذ. محاكاة للعلاقة المعقدة بين السائد والآخر. الصراع الطبقي والعرقي بين ما يمثله طرفي قصة الحب والألم.
ويختتم الثلاثية بـ”سحر الحب”. ليبريتو للمسرحي الطليعي جريجوريو مارتينز سييرا. لمع سييرا أول القرن العشرين. وقدم عددًا من المسرحيات التي نالت احتفاءً محليًّا ودوليًّا. واهتم بتناول القضايا المعاصرة وخاصة النسوية. وتميزت أعماله بتقدمية تنتصر للأحداث العادية في حياة البسطاء. طرح تنويعات غنائية وراقصة في مسرحه من خلال عرض أجواء مألوفة لطبقة العامة.

الصيد

إنجيلكا ابنة الخالة

عرس الدم

القصة تحتفي وتنتقد التقاليد والقوة المجتمعية. تعرض صراعًا يصعب الحكم على أطرافه. تقدم تباين بين الإذعان والتمرد من أجل انتصار الحب. تكسوا أغانيها شعبيتها، ويحضرها منجمون متنبؤن لسير أحداثها ونهايتها المأساوية. تبدأ عندما يستعد عريس لزفافه. تتوجس أمه من الزيجة لعلمها بعلاقة سابقة لعروسه بابن عائلة معادية، ليوناردو. يعلم ليوناردو بخبر الزفاف. يهجر زواجه التعيس من أجل حبيبته القديمة. يحاول إثناءها عن الزواج. تقاومه وتحضر الزفاف. تتردد، وتهرب معه. يلحق بها العريس ويتقاتل مع ليوناردو. تنتهي المعركة بموتهما وإراقة دمائهما على فستان العروسة.
عولج النص في هيئة حكاية فرقة استعراضية تستعد لعرض راقص عن مسرحية لوركا. اكتفى ساورا بالمشاهد الرئيسية من الفصول الثلاثة. تغاضى عن سوريالية النص الأصلي واكتفى بتجريد المعالجة. يدور الفيلم في غرفتي المكياج والبروفة. يبدأ بوصول الفرقة واستعداد أعضائها. يقدم أفرادها الأساسيون متعلقاتهم من صور وغيرها، بعد إخراجها من حقائبهم ويزينون بها المرايا والطاولات أمامهم. أما قائد الفرقة، ومؤدي دور ليوناردو في المسرحية، فيدور مونولوج داخلي حول مشواره بينما يضع المكياج أمام مرآته. يخرج بعدها ليألف قاعة التدريب. القاعة ذات أرضية باركيه وفي نهايتها مرآة كبيرة، وخالية تمامًا من أي ديكور. تلحق به بقية الفرقة لتراجع بعض الخطوات. بعدها يستكملون ارتداء أزياء العرض ويرجعون للأداء. تعرض الرقصات على موسيقى الفلامنكو، وأحيانا الفولكلور الشعبي. تغلب الموسيقى الغناء، حتى مشهد اقتتال الغريمين، العريس وليوناردو، على العروس. يغلب على هذا المشهد الصمت وإيقاع متباطئ في خطوات رقصته. الشخصيات محدودة في معظم المشاهد. تبقى بقية الفرقة في وضع المشاهد قرب المرآة في آخر الغرفة عندما لا يستدعيهم المشهد.
يواجه ساورا تحدي القدرة على الدفع بالمُشاهد نحو الاستغراق وسط هذا التجريد والاقتصاد في أدوات الفيلم. بينما يوفر الرقص وإعادة تمثيله للدراما فرصة ذهبية للتصوير بعين سينمائية. العين التي تعيد كتابة النص بصريًّا وتوجه المُشاهد. تكشف عما لا يدركه الواقع. تحرك ساورا الحركات وإيقاعها. يراقب أقدامًا وأيادٍ وإيماءات، تؤكد ما يشعر به أصحابها، وتعبر عنه بحركتها. وحين آخر، يتأمل في لقطات مطولة متحركة التقارب والتنافر، المسافة بين الراقصين وما تعكسه، والتناغم والوحدة بين الفرق وأدائها الجماعي.

ما نشاهده في لغة ساورا السينمائية تطبيق عملي للنظرية الشكلية في السينما. عمل منظرو الشكلية على تعريف ماهية السينما وما يميزها عن باقي الفنون، ومن بينهم بيلا بالاش وجون إبستين. اللذان وجدا فيما أسمياه Close up (لقطة قريبة) ذلك التفرد. استخدما ذلك اللفظ اختزالاً عندما تأملا القطع إلى لقطة قريبة في أثناء حركة ما في مشهد لتوجيه المشاهد إلى تفصيلة توضيحية. وكيف أن استمرارية اللقطات في ذلك السياق تكشف وتستخرج الجديد من اللحظة . ينعكس ذلك على الزمن. ويفرقا هنا بين الزمن والوقت. مثلما أوضح الفيلسوف الفرنسي هنري لويس برجسون، المقصود بالزمن هو كيفية الشعور بالوقت. مستشهدا بالموسيقى، وانطباع المستمع عن المقطوعة كعمل وليس كمجموعة من النوت الموسيقية مرتبة في وقت محدد. هي زاوية جديدة لمناقشة علم النفس الجشتلطي الذي يقول إن البشر يستقبلون نمطًا أو كل، ولا يرون جزيئاته. اجتمعت السينما والموسيقى في حالة ساورا. ولاحقًا دعم أدواته كما سنرى ودفع باحتمالات المنتج.

عرس الدم

كارمن

يطور ساورا اقتباسه إلى عالمين. الأول مدرسة الرقص وقائدها العازم على تقديم العرض. والتطورات التي أدخلها على موسيقاه ورقصاته لترجع إلى صورتها الشعبية. والثاني هو العرض الذي نرى مقتطفات منه في بروفات المدرسة. يتضافر العالمين عندما يصبحان انعكاسًا لبعضهما بعضًا. وتتشابه أهداف وسلوك الشخصيات الرئيسية في المدرسة والعرض. يقع مخرج العرض في غرام ممثلة دور كارمن. أما حبيبته، فطبعها الحر يحاكي دور الغجرية.
تدور أغلب الأحداث داخل المدرسة. ويعتمد الحكي على التناغم بين الاستعراض وكواليسه. على سبيل المثال، تنتهي بروفة مشهد مصنع التبغ، الذي يتقابل فيه الضابط وكارمن للمرة الأولى، على إغواء كارمن للضابط. تقوم بحركاتها الاستعراضية على طرف المسرح أمام مرآة تعكس وجه الضابط وعمق الطرف الآخر. في مشهد لاحق، تقترب الراقصة من المخرج في ذات الموقع بعد انتهاء بروفة رقص مرهقة. يسألها عما تريد بجفاء بعدما علم بخروج زوجها من السجن واتصالهما ببعضهما البعض. تلاطفه بكلام معسول بدلاً من الحركات الاستعراضية وتحوم حوله في لقطة طويلة كسابقتها. يستجيب لها في نهاية الحديث كما استجاب الضابط لإغواء الغجرية على ذات الأنغام.
يظل ساورا متأرجحًا بين العالمين. بلغته السينمائية المعهودة، لكنه أكثر توظيفًا للقطات الطويلة في هذا الفيلم. يستخدمها مخلصا للحظات التحولات العاطفية سواء لشخصيات الفيلم أو الاستعراض. وفي النهاية يلتقيا العالمين مندمجين في اللقطة والمكان والزمان. عندما تصل ذروة الهوس بالمخرج ويتشبث بحبيبته كما فعل دون خوسيه بكارمن. فيلاحقها من بروفة على المسرح ويبتعدان عن الجمع وهو يتوسلها ألا تتركه. وعندما لا ترضخ له يقتلها، ونبقى مع باقي الحضور غير مدركين إن كان ذلك حقيقي أم جزء من العرض.

كارمن

سحر الحب

يحكي سحر الحب قصة حبيبن، كانديلا وكارميللو، في قرية غجرية نائية. تعاهدا والدا كارميلا وخوسيه على زيجة الأبناء منذ طفولتهما. وتمت الزيجة بالفعل. على صعيد آخر يكن كارميللو مشاعر لكانديلا منذ الطفولة. بينما ربطت خوسيه بلوثيا علاقة سرية. فرق الموت بين خوسيه وكانديلا. وبقي لكارميللو عبء تخليص كانديلا من حزنها وتعبيره عن إخلاص مشاعره لها لسنوات طوال.
هذه المرة عالم الحكاية واحد، أو هكذا يبدو. تدور الأحداث في ديكور القرية، ويرتدي الممثلون ملابس معبرة عن الزمان والمكان. ويغلب الاستعراض أجواء الطقوس الاحتفالية مثل الأفراح وعيد الميلاد المجيد. يتكون من أغاني ورقصات تعكس ثقافة المجتمع المعني. تدور خلالها الصراعات وتطور الشخصيات. بينما تقتصر المشاهد الحوارية على عدد محدود. يتجاوز ساورا ذلك الاقتراب الواقعي في المشاهد التعبيرية التي تسكن روح الشخصيات. فيكون الرقص على موسيقى أوبرا مانويل دي فايا، المقتبسة من اللبريتو، في مشهد كالذي تقوم به كانديلا وسط الحضور، بعدما تتجمد حركته كتمثال، وترقص وسطهم ممثلة مخاوفها من غياب خوسيه قبل مقتله. وقبل أن يبني ساورا هذين العالمين، يقدم فيلمه بعرض الاستوديو في لقطة طويلة حتى يصل إلى ديكور القرية. وينهيه عندما يدمجهما ليتخلص الحب من سحره المضاد.
يحافظ ساورا على لغته السينمائية المعهودة لكنه يلتزم أكثر باللقطات الطويلة. كثير من الاستعراضات تتضمن مجموعة من الراقصين. يفضل صورتهم الجماعية ويتابع حركتهم في لقطة كاملة الحجم. حتى عندما يقتصر العدد على اثنين أو أربعة، يحرص على تصوير معبر عما يديره الرقص. يحكم حركة الكاميرا والتنقل بين اللقطات صراع المشاعر وتطورها. وكما في الاستعراض الجماعي، يلتزم بحجم مطابق للقطات في تصوير شخصياته الأساسية. فلا يطغى حضور شخصية عن الأخرى. يتبلور منهج جمله السينمائية في المشهد الأخير بين كانديلا وكارميلو ولوثيا وخوسيه. تعكس الرقصة التجاذب والتردد بين كل زوج وتشابك مصيرهما. نشاهدهم طوال المشهد في حجم متساوي. وإن تبدل باقتراب أحدهم من الكاميرا وبقاء الآخر في الخلفية، رأينا زاوية مقابلة بعدها.

تعتبر تلك اللغة السينمائية اتجاه نقدي. بناءً على ما فسره الروائي والمنظر السينمائي جون لويس بودري، بأنه منظور غير بريء. حلَّل السينما من خلال نظرية الأجهزة في عدة مقالات. ورأى في عملية التصوير والعرض تحول للحقيقة. فالأجهزة المستخدمة تفرض آيديولوجية رأسمالية بورجوازية في حالة السينما. والعرض يخاطب تابع، أو بحسب مدرسة لاكان في علم النفس “ذات”. تقوم شاشة العرض بدور المرآة في تعريف الذات بنفسها. مثلما يحدث للطفل في مرحلة المرآة. ربط بودري بين فن عصر النهضة والتكوين البصري السينمائي. وهو ما أسماه منظور. وفسر مركزيته بفرض سرديات موجهة، من ضمنها صورة البطل. حجمه في اللقطة وهيئته يرسخان صورة عامة عما يجب أن يكون. وهو ما تجاوزه ساورا كما أوضحنا.

سحر الحب

ألفية جديدة

بعد ثورة القرنفل في البرتغال، ومع نهاية التحول الديموقراطي في جارتها إسبانيا، امتدت موجة عالمية من الانتقال الديموقراطي حول العالم. سميت بالموجة الديموقراطية الثالثة بعد موجة التحولات التالية للحرب العالمية الثانية. كانت تايوان وكوريا الجنوبية ضمن بلاد آسيا. والأرجنتين والبرازيل في أمريكا اللاتينية. وبولندا وتشيكوسلوفاكيا في شرق أوروبا. استقرت حالة الدول الجديدة بنهاية تسعينيات القرن الماضي. مرة أخرى طرحت التساؤلات والنقاش النقدي. وربما هذه المرة اتسعت دائرة النقد عندما ازداد العالم ترابطًا. وبدا الأثر المباشر واضحا لكل حراك على الآخر.

تانجو

تانجو

يعبر ساورا الأطلسي في نهاية العقد التالي. يعيد تجربته في الأرجنتين. ربما من المنصف أن نصف تجربته هناك بالاسكتشاف. إعادة تقديم خلاصة ما قدمه في ثلاثيته السابقة، في ظرف آخر، ترسيخ لعالمية مشروعه الفني. لا تختلف قصة الفيلم كثيرًا عما عرضناه عن الثلاثية. على الرغم من اختلاف القالب الموسيقي الاستعراضي، من الفلامنكو إلى التانجو. والحد من تورط الشخصية الرئيسية، المخرج، في مشروع العرض. لا يمثل دور راقص مشارك، إضافة لإصابة تعجيزية في ساقه.

يستعين بأدوات جديدة. يدعم لغته السينمائية بديكور أكثر تشكيلية على الرغم من تجريديته المسرحية. ويستخدم الإضاءة لتعكس تحور المشاعر من الرقصة المصورة. يزخرفها بخلفيات من صور أو الواح ملونة، أو كلاهما معًا، ليداعب خيال المشاهد وتفاعله مع المشهد. فيرافقه في رحلته بين أبعاد عدة، بين التدريب وما يحدث في أثناء الرقص والاستغراق، حتى اللحظة المتجاوزة للظرف التي يصير فيها الاستعراض عالم بذاته. لم يكتف ساورا بذلك. عاد مرة أخرى إلى تحدي الإيهام. وخاطب المشاهد مباشرة. هذه المرة ليس عن طريق ممثل يروي إلى عدسة الكاميرا، بل من خلال الكاميرا بذاتها. كشف الكاميرا التي تصور ما نراه بضعة مرات. نظرت عدستها إلينا مباشرة في مرايا الاستوديو. هكذا اخترق حدود مألوفة. وبقدر ما كسر قواعد وطرق باب وعي المشاهد، قام بتوطيد علاقته بالفيلم ودمج أبعاده المعروض مع بعد جديد.

استكمالاً لما شرحه بودري عن الذات والمنظور السينمائي، أضاف حركة الكاميرا إلى جوانب مفهومه حول الأجهزة. واستطرد أن حركة الكاميرا هي حركة الذات، أو التابع. التجول في مدار حركي يدمج المتحرك مع المدار. تضفي الحركة شيء من الإحساس بالتحكم الزائف. وهو ما يريد ساورا التعبير عنه. توفير شعور بالقيادة والاندماج من جهة، ثم كسر القاعدة وخلق مسافة بين المشاهد وتلك الحركة عندما يذكره بما وصفه بودري “تحول الحقيقة” عبر أداة التصوير. هذه المسافة هي ما يسمح بالنقد. وهدم الجدار الرابع، في مدرسة بريخت، بين العرض والجمهور، يوثق علاقة الطرفين ويشيد باستقلالية المشاهد.

عالم واحد.. لانهائي

في السطور التالية سأقتبس جزءًا من مقال لمكسيم جوركي يصف فيه انطباعه بعد مشاهدة فيلم الأخوين لوميير للمرة الأولى:
“إذا كنت تعرف فقط كم هو غريب أن تكون هناك. إنه عالم بلا صوت ولا لون. كل شيء هناك – الأرض والأشجار والناس والماء والهواء – مغمور باللون الرمادي الرتيب. أشعة الشمس الرمادية عبر السماء الرمادية، والعيون الرمادية في الوجوه الرمادية، وأوراق الأشجار رمادية شاحبة. إنها ليست حياة بل ظلها. إنها ليست حركة بل شبحها الصامت”.
يبدو شعوره مألوفًا لي على الرغم من مرور أكثر من قرن. أستطيع ملاحقة تلك الظلال عند مشاهدة ساورا. أرى أكثر من حياة وأنغرس بتلك الطبقات. يقودني مثلما يفعل فيرجيل في الكوميديا الإلهية. يطلعني على الذاتي والعام، والرمادي بينهما. كما أتجول خلال عوالم تُبنى ويعاد بناءها، لأن مصممها ينقب في الزمن. وكلما تخلى عما هو تقليدي، انكشف عالم جديد، مثل الدمى في رحم الدمية الروسية.