خريطة القاهرة في العصر العثماني

هل تلتئم القاهرة؟

عملية تكهين مدينة متورمة

وائل عبد الفتاح

يا شبح!
هكذا ينادي المراهقون في القاهرة على أنفسهم في الشوارع والميادين والدروب الضيقة.. يتخيلون أنفسهم أشباحًا يعبرون مدينة ميتة..ظهر النداء كأنه لغة سرية مع أول عشر سنوات في الألفية الجديدة.وانتشرعابرًا مناطق استخدامه الأولى ليدخل لغة الحوار اليومي العمومية، دليلاً على القوة غير المنظورة.. أو نداءً جماعيًّا لأشباح لا نراها وتعيش بيننا، وبالتأكيد تمتلك قوة يمكنها أن تنقذنا.. هذا النداء على الأشباح بداخلنا ربما عودة إلى الثقة بالذات.. أو استدعاءً للحظة يتحرك فيها أشباح لم يرصدهم لا مخبرو البوليس، ولا منظرو السياسة الكلاسيكيون.

ماذا فعلت الأشباح حين تحركت في المدينة.. وأين اختفت قوتهم غير المنظورة ؟ هل أعادوا المدينة من موتها؟ وما مصير المدينة التي حاول الأشباح إيقاظها؟ وماذا يحدث فيها؟

سؤال صعب، بعدما أصبحت القاهرة رهينة المخطط الغامض الذي يتحرك فيه البلدوزر محميًّا بقوة جبارة وإرادة حديدية لا تطيق المناقشة..
وأنا أفضِّل أنواعًا أخرى من الأسئلة: هل نترك المدينة تموت؟ نقيم حفلة بكاء جماعي تقودها أوركسترا غارقة في النوستالچيا؟ أم نكتفي بالفرجة عليها في معرض الجثث؟ هذه أسئلة لا تهتم كثيرًا بالمعمار الجميل؛ الذي أحبه وأتمعن فيه؛ لكنني مع ڤالتر بنيامين حين يرى في العمارة جمالاً محنطًا، أو قناعًا جنائزيًّا للقبح في علاقات المدينة من خلفه.. لماذا إذن نشعر بالألم والارتباك كلما خرج موظفون من مكاتبهم وقطعوا الأشجار؟ أو دمروا حديقة لبناء مشروع استثماري؟ أو بدأوا حفرياتهم في شارع كان يسمح بالمشي والتجول؟
هذه ليست مجرد “زينة” لتجميل المدينة، بل علاقات بنيت ونمت وتطورت ارتبط فيها الجمال بعناصر أخرى مثل “الصحة”، إذ نتنفس أكثر كلما ازدادت المساحات الخضراء، أو بعنصر مثل التواصل الاجتماعي الذي تعززه تصميمات شوارع أصغر لا تستلزم آلة ضخمة أو مهارات ألعاب القوى لمجرد العبور الآمن.. هناك عناصر من هذا الألم لا تخص الجمال المحنط الذي يمكن أن نراه في الصور أو نفخر بها في المتاحف، لكنه ألم يخص شيئًا أعمق سنقول مؤقتا إن اسمه الالتئام.. التئام المدينة مع تاريخها وسكانها مع صراعات المصممين.. هذا الالتئام تتحكم فيه سلطة سياسية وطبقات اجتماعية وعلاقات يومية.. هل يمكن الاقتراب من هذا الألم؟

 

شعار مدينة القاهرة موضوع في شتوتجارت ضمن شعارات مدن من العالم في شراكة مع المدينة الألمانية ، والشعار يشير تجاه القاهرة ومكتوب تحته المسافة بينها وبين شتوتجارت 2800 كيلومتر مربع-تصوير الفنانة والباحثة: يسرا علي

***

1

النداهة

الاقتراب من هذا الألم مزعج للجميع؛ للسلطة التي لا تريد أن يناقشها أحد، الراغبة في احتكار كل شيء، وتوسع حدود قدرتها على تنفيذ أحلامها.. ومزعج أيضاً للغاضبين لأنه يضعهم أمام نوع ثقيل من العجز.. ويستدعي لهم مشاهد من التاريخ والدراما (بلدوزر فضة المعداوي)، أو يشعرهم بأنهم أصبحوا في مدافن الذكريات الضائعة.
مبدئيًّا سنحاول التفكير بطريقة المفكر الفرنسي رولان بارت في السؤال: ماذا تقول المدينة لسكانها؟ ونسأل: ماذا تقول الهندسة الجديدة للمدينة؟ هل يوجد شيء غير التهديد الذي تمثله حركة البلدوزر والمشاريع التي تظهر فجأة من رأس المخطط الغامض؛ عين القاهرة.. كوبري يخترق كنيسة البازليك التاريخية؟ هل توجد طريقة واحدة للتطوير (بشكل عام) أو حل مشكلات المرور (مثال يستخدم لتبرير المخطط)؟ هل من المفروض أن يكون الحل في يد صاحب السلطة ومن يمثله (في المرور)، أم أن الموضوع أكبر ويرتبط بتصميم المدينة، ومطوريها؟ هل تخضع المدن الكبرى لسلطة الإدارة فقط وتستطيع التطوير حسب مزاج وخطة خرجت من أدراج السلطات السابقة؟ أم أن مشكلات القاهرة المزمنة تحتاج تفكير أوسع ومحترف وعميق في فهم معنى المدينة وتعددها وتراكم طبقاتها التاريخية والاجتماعية، وعلاقات العمران بالناس، وغيرها من أساسيات التطوير الحديث.

ماذا يقول المُخطط (الغامض المتحرك بقوة ومساهمة كل أجهزة الدولة وبنشاط لا يجاريه النشاط في أية قطاعات أخرى) لسكان العاصمة “القديمة”.. لماذا وكيف تتحوَّل القاهرة إلى بازار عصري، تتناسل فيه دكاكين تبيع كل شيء وسط تخطيط جديد، يقتل كل محاولة للقاء الإنساني خارج البازار. الأحياء المتماسكة نسبيًّا مثل الزمالك ومصر الجديدة؛ يعاد فكها وتركيبها وفق مُخطط غير معلن لتفقد تماسكها؛ أي نسيجها الاجتماعي والعمراني، لتكون ممرًا يربط بين العاصمة الإدارية (دون اسم حتى الآن)، والعاصمة الصيفية على البحر (العلمين)، والمحاور الجديدة. وكما بدا منها حتى الآن؛ فهي لربط حزام المنتجعات في القاهرة الجديدة (مضافًا إليه العاصمة الإدارية)، ومنتجعات العين السخنة المطلة على البحر، وتتحول أطراف القاهرة بثقلها العمراني والتاريخي والاجتماعي إلى ممرات، ليتحقق العزل الكامل للقادرين على الهروب في تجمعات سكنية تبيع وجودها باعتبارها “سفينة نوح”؛ محاطة بالأسوار، والبوابات التي تضمن “نقاء الطبقة”، كما تضمن الأحياء البديلة للعشوائيات (الأسمرات على سبيل المثال) باعتبارها “معازل طبقية”، صُممت ونُفذت بعيدًا عن الحوار مع أصحابها وسكانها. وهو ما يعني أنه ليس سكنًا بل إيواءً فخمًا (بالتناسب مع مخيمات الإيواء، فالأحياء المبنية بها ملامح أكثر تطورًا من المساكن الشعبية كما عرفناها في الستينيات وما تلاها).
المخطط يقول، فيما بدا منه، إنه هندسة معازل اجتماعية، وتدمير لكل ما هو عام، ويلتقي فيه الناس جميعًا، ويشعرون بالأمان، وهذا مثار الغضب الذي لا يفرِّق بين سكان العشوائيات أو الأحياء المتماسكة (الراقية كما تسمى). هناك شعور بالغربة وتفتيت شبكات الأمان بداية من التخطيط القديم (والجميل) للأحياء، وحتى شبكات المواصلات العمومية، والطرق التي تتسع لحركة المشاة.. لم يعد الفرد العادي (دون سيارة) قادرًا على الحركة في المدينة إلا مصحوبًا بالخطر؛ مع طرق سريعة، يشبه عبورها ألعاب القوى.. ويتعرض عديم الخبرة والقوة البدنية في محاولة العبور التي كانت عادية وآمنة للموت (تكررت بشكل فاجع حوادث الموت في عبور شوارع مصر الجديدة بعد تنفيذ المخطط). كما افتقد التنقل في المدينة وضوح وقوة شبكة الأتوبيسات القديمة. وأصبح تحت رحمة شبكات النقل الجماعي من الأشكال المتنوعة للميكروباصات تحت قيادة “عفاريت الأسفلت”.

تكهين القاهرة هو بمعنى ما، تفريغها من طاقتها الحيوية، لتتحول إلى مزار (للسائح)، وبازار (للعابر). لا شيء سوى التجارة والسياحة، للمستثمر الذي يشتري “عاصمة دخلت قائمة الكُهنة وتباع بالقطعة على طريقة الخردة”، أو للمستهلك الفاشل في الحصول على مكان في “سفن نوح”.

عاشت القاهرة كل حياتها محاولة أن تبدو أن مدينة واحدة، متناغمة، متعددة المستويات، وتناوبت عليها دوائر حكم ترغب في أن تصنع مدينتها على جسد القاهرة، عاشت القاهرة حياة المدينتين (الإسلامية والأوروبية) معبرة عن أزمة أكبر من أن تتحملها مدينة واحدة، وبدت محاولات مد الجسور بين المدينتين هي حيوية المجتمع الذي يكسر الأسوار والحدود المتخيلة، في حركة تجاه التئام لم يكتمل بسبب طبيعته العشوائية، أو بسبب كونه نشاطًا من أنشطة التمرد السري، أو رغبة في كسر ما هو متماسك، ليتسع للقادمين بثرواتهم الجديدة.. كانت الرغبة في الالتئام جزءًا من النشاط الذي يشبه السياسة؛ وله دائمًا ملمح الاحتجاج الثقافي.. ومع الزمن أصبح سرًّا من أسرار القاهرة..  بالإضافة إلى احتكارها (مع تهميش وإهمال كل المدن الأخرى) لموقع ندَّاهة الأحلام بالصعود والانتقال الاجتماعي.. فهل حرمت القاهرة من الالتئام إلى الأبد وتجمدت عند حدود المزار والبازار؟

***

2

المتاهة

“لا أستطيع معرفة طريق بيتي”.. هذه معجزة فعلاً! سمعت أكثر من صديق يصف رحلة عودته إلى بيته، وجربتها بنفسي.. فقدت ذاكرتي في مدينة عشت فيها على الأقل 40 عامًا.. مَنْ هذا الغامض الجبار الذي صنع المعجزة وجعلنا تائهين في مدينتنا؟! لا أحد يعرفه، ولا يمكن تحديده.. حتى عندما يوغل البعض ويشير إلى رئيس الجمهورية فإنها مبالغة كبرى.. فالرئيس مهما بلغت قوته وجبروت سلطته لا يستطيع أن ينقل مدينة ثقيلة مثل القاهرة إلى المتاهة؛ فلم يستطع عبد الناصر بكل قوة مشروعه حصار “القاهرة الأوروبية” لصالح قاهرة لها ملامح “أوروبا الشرقية”.. ولا السادات بمزاجه الأمريكي ورغبته العارمة في تفكيك المدينة “الاشتراكية” ليصنع فجوات أمام طغيان “الانفتاح” الرأسمالي.. ولا حتى مبارك بروح البيروقراطي “القِراري/العتيق” الذي أحاط كل شيء في المدينة بأسوار حديدية متنقلة، يقتل الإهمال ما بداخلها تدريجيًّا. كلهم كان هدفهم السيطرة، وإعادة تشغيل المدينة لتبتلع سكانها؛ حتى وصلت إلى مرحلة الأورام كما عشناها أيام مبارك.

***

3

الرعب

في مرحلة الأورام تقاسمنا المدينة مع “العشوائيات”؛ الموطن المثالي للعشوائيين كما نفهم من النص اللغوي، لكنها في الواقع والمعايشة؛ مخزن ثروات وسيطرة وتوليد لسلالات “مستثمري الفجوات”؛ وهم أنواع متعددة، تعيش وتتغذى على ما بين الواقع والقانون/الرسمي وغير الرسمي/وضع اليد والملكية.. لتكوِّن ثروات (من الرشاوى والسمسرة وتجارة الممنوع)، وتربي الرعب لطبقات البرجوازية بمختلف درجاتها، من المتوحشين الذي يعيشون في أحزمة حول المدينة.. وسيأتي يوم يلتهمون فيه الأخضر واليابس.

***

4

الاحتلال 

تنوعت السلالات بين موظفي المحليات وأصحاب ثروات الاقتصاد السري والبلطجية/المسجلين خطر وصائدي الرزق اليومي.. هؤلاء جميعًا يتبادلون المواقع ويتنافسون أو يتحالفون من أجل اختلال المدينة،

وخضوعها للمنطق العشوائي.. كل سنتيمتر في المدينة هو هدف كبير لهذه السلالات.. وبداية من الاستقرار الذي شعر به مبارك بعد انتصار قوات الشرطة على “صحوة الجماعات الإسلامية” في التسعينيات؛ حين بدأ كل شيء يخضع للإله الجديد العالق في كرسيه الذي يمنحه قوة طاغية لحاكم فرد أب راعٍ لجماهير تنتظر عطاياه، لكنه لم يملك زعامة الضباط الذين حرروا البلد من الاستعمار، وليس قائدًا عسكريًّا طاغي الكاريزما كقادة النصر العسكري في أكتوبر، لكن رواية الضربة الجوية ضمنت له وضعًا معلقًا غاب فور مغادرته كرسي الرئاسة.. وفي عهده نمت كل خطط التخلي عن مسؤوليات الدولة الراعية، وتدمير كل ما هو عام، لكنه كان نموًا مُضطربًا؛ فلم يصل في جرأته لفرض دولة تقدم الحد الأدنى من مسؤولياته للقطاعات الأكبر من المجتمع، أو لفتح الباب كاملاً أمام اعتبار السوق الإله، كما بشَّرت به النيوليبرالية في أوج قوتها مع تطبيق سياسات رونالد ريجان في أمريكا، ومارجريت تاتشر في بريطانيا.. وكما كانت كل الأشياء بطيئة وعرجاء؛ بدت ميول مبارك نحو تفكيك الدولة الراعية مجرد فرصة لسلالات المنتفعين من العشوائية، وأعيد تدوير “الثروة”؛ من المال العام الموضوع تحت قبضة “الدولة” إلى أعضاء نادي الحظ الذين نالوا رضا مبارك ودائرته. ونشأ البازار الذي يبيع كل ما هو عام، أو يعرضه جنيًا للأرباح..
في هذا البازار ولدت فكرة إعادة استغلال أراضي المدينة لتحقيق المكاسب المالية، وضخ موارد جديد في رأس مال الدولة و”حبايبها ومحاسبيها” (من وحي مصطلح الدكتور محمود عبد الفضيل “رأسمالية الحبايب والمحاسيب”).  ووفقًا للمتخصصين في العمران تحولت أراضي المدينة من محل للسكن إلى سلعة من سلع المضاربة ومخزنًا للثروات.

بالمصادفة عثرت على فيديو مدته 9 دقائق و34 ثانية؛ مقتطع من برنامج تليفزيوني (اسمه غالبًا بيوتنا)، على قناة “صدى البلد”؛ وضعه ناشر الفيديو (حسن ميرا) على “الفيس بوك”، وفيه يحكي المهندس حسين صبّور قصة إنشاء القاهرة الجديدة، التي تفسِّر حالة البنية التحتية. 

***

المهندس حسين صبور يروي قصة القاهرة الجديدة-صورة من الفيديو

5

قصة القاهرة الجديدة

المهندس حسين صبّور؛ أحد الأسماء اللامعة في علاقة الدولة بالمقاولات.. أو ما يسمى في الأدبيات الحكومية “التعمير”، أو “المجتمعات الجديدة”، أو غيرها من سياسات حكومية تتعلق بتخطيط شكل المدن. وقد روى في البرنامج التليفزيوني حكاية إنشاء “القاهرة الجديدة”؛ وهي حكاية مهمة لإدراك العقل الذي يدير “تخطيط” المدن، ويهندس المجتمع.

تبدأ حكايته من “الطريق الدائري”، وزمنها يبدأ من أيام عثمان أحمد عثمان؛ أشهر مقاولي السلطة في دولة ما بعد الاستعمار. كانت الفكرة إنشاء طريق خارج العاصمة “كي لا يضطر العابرون إلى الدخول إليها”، وأعجبت الفكرة الدولة، فأحضرت مستشارين فرنسيين من الذين خططوا مدينة باريس، ليطبقوا تصميم الطريق الدائري في باريس على القاهرة.. وكما يحكي المهندس صبّور “مهمة المستشارين كانت تحديد مكان الدائري بالضبط.. وقد اقترحوا بموافقة الدولة؛ نقل العشوائيات إلى خارج الطريق الدائري”.
وهذا معناه (حسب نص الحكاية):
* أنهم سيخلون مناطق غالية جدًا.. بعضها في الصف الثاني على النيل؛ بالتحديد في بولاق أبو العلا، بالإضافة إلى أماكن في السيدة زينب؛ قلب القاهرة، ومناطق على الصف الأول للنيل في حلوان.. وكل هذه المناطق عشوائية.
**بتعداد كل السكان في المناطق العشوائية؛ وجدوا أن عدد سكانها نحو ٢ مليون شخص؛ يعيشون داخل القاهرة، وهذا التخطيط سينقلهم خارج القاهرة.
ويحكي المهندس صبّور عن وجود سبب بوليسي/ أمني لهذا التخطيط، وهو “أنه لو أراد سكان العشوائيات أن يعملوا زيطة.. سيمنعوهم من دخول الطريق الدائري.. السبب إذن اقتصادي أم أمني.. لأنه -حسب هذا التخطيط – سنبني لهم مساكن راقية محترمة آدمية.. وهناخد منهم أراض غالية جدًا قاعدين عليها.. الخطة اتعملت.. وأقرها مجلس الوزراء.. لكن بعد فترة تغير الوزير بوزير جديد”.
هذا ما يقوله المهندس صبّور في حكايته.. وهنا يمكن الإشارة إلى أن هذا حدث في عهد حكومات الدكتور عاطف صدقي، وتغيير الوزراء الذي يقصده حدث في عام 1993؛ وفيه حلَّ الوزير (الجديد)؛ المهندس محمد إبراهيم سليمان، محل المهندس حسب الله الكفراوي (القديم)، في إدارة ملفات المجتمعات العمرانية الجديدة.
حسب الحكاية، فكر الوزير القديم في كيفية تنفيذ الخطة قبل أن يغادر الوزارة؛ ووصل إلى قرار ببناء 10 نقاط؛ تكون 10 مدن جديدة، تستوعب كل منها 200 ألف من سكان العشوائيات.. هذه المدن الجديدة تقسم بين شرق الطريق الدائري، وغرب الطريق الدائري. وسميت كل نقطة/مدينة على الخريطة باسم التجمع، وأصبح هناك التجمع الأول والثاني والثالث.. وهكذا حتى العاشر.
الوزير القديم ملَّك كل تجمع لشركة من شركات الدولة، شركة مصر الجديدة ملكت التجمع الخامس.. وشركة مدينة نصر التجمع الأول.. وشركة المعادي ملكت التجمع الثالث.. وهكذا. ثم اختار الوزير لكل تجمع مهندس واحد لتصميمه.. وقد سلَّم الوزير القديم العملية منتهية تقريبًا “يعني التجمع الخامس تملكه شركة مصر الجديدة؛ ومهندسه صبّور.. وكنا فعلاً احنا المهندسين وبدأنا في تصميم هذه التجمعات الفقيرة”.
فماذا فعل الوزير الجديد (محمد إبراهيم سليمان)؟
يحكي المهندس صبّور “الوزير سأل: قبل ما نبني التجمعات دي، ونبني مساكن لـ 2 مليون بني آدم؛ هل عندكم فلوس يا بلد؟ الدولة طبعًا ماكنش فيها فلوس.. وأضاف الوزير: هذه الأرض عالية جدًا (ترتفع عن هضبة المقطم) ولا تصلها المياه.. وهذا يعني أنه علشان أوصل لها الماء لازم طلمبات كهرباء.. يعني مصاريف ضخمة.. ودا هايخلي تكلفة الماء غالية جدًا.. إزاي هانقدم تكلفة غالية للماء لناس في العشوائيات؟ كلام الوزير جاء بعدما بدأنا بالفعل الشغل.. وكان التجمع الخامس أول تصميم ينتهي.. وبدأت شركة مصر الجديدة في تنفيذه”.

ثم ماذا حدث؟
تقول الحكاية “الوزير من وجهة نظره قال طيب مادام مفيش فلوس في البلد.. ما نقلبها تجمعات للأغنياء.. ونفذنا بالفعل”.

لكن هل انتهت الحكاية هنا؟
يخبرنا المهندس صبّور “محافظ القاهرة في ذلك الوقت كان اللواء عمر عبد الآخر.. وكتب تقريرًا لمجلس الوزراء يقول فيه إنه من الخطر الجسيم عمل هذه التجمعات للأغنياء.. واعتمد في ذلك على لجنة التخطيط في المحافظة التي تضم مجموعة كبيرة من أساتذة الجامعات.. ومن بين أسبابهم للرفض أنه لو خصصت هذه التجمعات للأغنياء سيحتاجون إلى ماء لري الحدائق.. وتكلفة الماء غالية جدًا وسيحتاج ذلك إلى كهرباء تعمل 24 ساعة في اليوم بطاقة ضخمة.. كما أن الأغنياء يتحركون بسياراتهم الخاصة.. وأعمالهم في قلب القاهرة، وهذا يعني أننا سنزيد من الزحام.. كل الأسباب التي رجع إليها تقرير المحافظ كانت أسباب تخطيطية.. ومجلس الوزراء في اجتماعه ناقش التقرير واتخذ قرارًا بإلغاء القاهرة الجديدة (وكل التجمعات)”.
نذكر هنا أن صاحب الحكاية يشير إلى أن بقية التجمعات كانت في طور التصميم “باستثناء التجمع الخامس الذي كان العمل قد بدأ فيه، واشترى البعض بالفعل الأراضي التي كان يبيعها الوزير.. وكانوا كلهم مصريين.. وأول جهة اشترت كانت جمعية تعاونية للعاملين بوزارة الخارجية.. ومجلس الوزراء قرر وقتها إعادة فلوسهم.. ونسمع كلام محافظ القاهرة”.
الموضوع غريب.. فإذا كان مجلس الوزراء قد ألغى مشروع التجمعات أو القاهرة الجديدة (للأغنياء)، فما الذي نراه الآن على الأرض؟ والإجابة في بقية الحكاية؛ يكمل المهندس صبّور أن “الوزير (الجديد طبعًا)، ذهب إلى رئيس الجمهورية (مبارك)، وكان قريبًا من أذنه (التعبير للراوي)، فقال الرئيس للوزير: بلاش كلام فارغ.. سيبك منهم وابني بس”.
وهكذا ولدت القاهرة الجديدة؛ بقرار شفوي من رئيس الجمهورية؛ وما يزال قرار إلغائها موجودًا لم يشطب، ولم ينفذ. ويختتم المهندس صبّور حكايته بهذه الملحوظة “فتم إلصاق التجمعات ببعض، وسموها القاهرة الجديدة.. كل واحد يزود حتة ويزود.. وأضيفت الرحاب ومدينتي.. حتى إنني كنت أقول إن فيه حاجتين في العالم هما القاهرة الجديدة، وإسرائيل.. لا حدود نهائية لها؛ إسرائيل حتى آخر عسكري.. والقاهرة الجديدة حتى آخر حتة أرض تتباع.. وأحد رجال الأعمال قال لي مرة: امتى القاهرة ها توصل السويس، علشان عندي استثمارات هناك؟”.
وهنا سألت المذيعة التي ظلَّت صامتة تقريبًا طول الـ٩ دقائق زمن الحكاية “موش يمكن دا امتداد عمراني طبيعي؟”.
فأجابها المهندس صبّور “أنا أحكي فقط ما حدث بالفعل.. وبالنسبة لي الحكاية تشير إلى أننا لا نحترم العلم.. الفرنسيون اتكلموا عن نقل العشوائيات إلى خارج الطريق الدائري.. وتحول التجمعات من الفقراء إلى الأغنياء كلفنا كهرباء وأنفاق وكباري لإضافة شرايين أمام الحركة من العاصمة إلى امتدادها.. ويعلم المتخصصون أن التخطيط للفقراء يختلف عن التخطيط للأغنياء.. والتجمعات جميلة جدًا.. وجابت فلوس بالهبل.. لكنها خرجت عن فكرتها.. وعلى فكرة مدينة الشيخ زايد كانت التجمع الفقير العاشر”.

***

6

غواية المقاول

الخطأ البيروقراطي بإنشاء كتلة عمرانية على الرغم من القرار الصادر عن الحكومة بالإلغاء، يخبرنا أشياء كثيرة عن طريقة الإدارة، العقل المركزي الذي يجعل كل السلطات في يد شخص واحد، ويخبرنا أيضًا

إنهم يخططون مدينتنا

عن بداية انحسار النموذج القديم لسماسرة الدولة (أدوات سيطرتها)، الذي يمثله بقوة شركة المقاولون العرب، ومصادر ثرواتهم (المتراكمة من شطارة استخراج عمولات من التلاعب في الأوراق)، وبزوغ نجم النموذج الجديد من سماسرة الدولة (شركاء البازار.. بائعو المعلومات.. خبراء التسقيع.. وكلاء غير مُعلَنين للشركات الكبرى). هذا الارتباك الذي حوَّل تجمعات الفقراء إلى تجمعات الأغنياء، هو السمة التي تكلمت عنها في حكم مبارك، تلك التي جعلته عالقًا بين السماسرة؛ كحكم صانع للتوازن فيما بينهم في حرب الاستيلاء على المدينة.. وكان سرُّه في هذا التوازن ابتعاده عن قرارات تمس الوضع القائم؛ ما يسمى في علم العمران “الإحلال الطبقي والعمراني”؛ أي تفريغ الأحياء الفقيرة من سكانها وتهجيرهم بالقوة لتباع الأراضي المقيمين عليها بأسعار خرافية (مثلث ماسبيرو مثالاً كاشفًا). كان مبارك يتردد في هذه القرارات، بينما يسمح بتمدد المنتجعات إلى أقصى حد؛ ما داموا يدفعون، وما داموا يرتبون أمورهم مع البازار والمقاول الرئيسي.. ولم تعد المقاولون العرب شركة مقاولات الدولة؛ إذ دخلت شركات وعناصر أخرى إلى تركيبة دائرة الحكم حول مبارك؛ وأهم هذه العناصر صنَّاع الإعلانات (السعدي وطارق نور على سبيل المثال). والمقاولون (آشهرهم هشام طلعت مصطفى).

تغيَّر موقع المقاول، أو توسَّع من أيام عثمان أحمد عثمان، الذي كان شريكًا تحت الطلب في دائرة السادات؛ وتعاظم دوره مع تعمير المدن التي دمرتها الحرب، لكن المقاول في عهد مبارك أصبح مُخطِطًا سياسيًّا، ومحمية سياسية، وشريكًا في توزيع الإقطاعيات وتدوير ثروات “الدولة”. وقصة صبّور تشير إلى اللحظة التأسيسية في انتقال الدولة إلى شركة مقاولات كبيرة، بقرارات التخصيص (أي تنازل القوات المسلحة عن سيطرتها على الأرض لاستخدامها في أعمال مدنية)، ثم قرارات الموافقة على مشروعات سكنية في تلك الأراضي.. وكان دخول أي مقاول بعيدًا عن شركات المقاولات الحكومية، هو صك جمع الثروات الخرافية، الذي يحوِّله بعد ذلك إلى شريك رئيسي في الحكم بهذه الثروة.. وهي عملية أكثر تعقيدًا من توصيف الفساد، إذ كانت إحلالاً وتبديلاً “للمنفعة العامة” ببوصلة الغرائز. وهو ما أوقع القاهرة تحت قبضة دائرة الشطار والعيارين؛ لتتفكك المدينة/العاصمة بتآكل تماسكها القديم، وتحاط بأحزمة البؤس والنعيم؛ العشوائيات والمنتجعات. هذه الأحزمة تخنقها تدريجيًّا، وتحوِّلها إلى ما يسمى بلغة البيروقراطية: كُهنة قديمة.

***

7

أورام المدينة

في قصة صبّور لمحة من اللحظات الأولى لتفكيك القاهرة؛ لتصلح السلعة الأساسية في بازار الدولة، وتكشف القصة أيضًا عن البذرة الأولى لتكهين القاهرة. ويمكن أن نضيف إلى هذا المعنى؛ الكُهنة (بضم الكاف) التي يكون وجودها سامًا وخطرًا بجوار الأشياء الحديثة، فتمتص طاقة الحياة، وتبتلع كل ما هو حيوي وتميت كل شيء بالإهمال.
القاهرة إذن في موت تدريجي لأكثر من ٧٠ سنة، وقد تحوَّلت إلى ما يسمى في علم العمران Megapolis؛ أي المدينة الضخمة؛ يسكنها ما يفوق ٢٠ مليون نسمة، وحدودها تتورم حسب سياسات الدولة التي تخضع لقدرات الشطار والسماسرة..

ومثل كل ميجابوليس، فالحياة في القاهرة تجربة تتراوح بين الجنون والقسوة، لا يمكن تفسيرها أو التعامل معها بموضوعية أو عقلانية، والقاهرة بشكل خاص جدًا يميزها تركيبها المعقد بين الإنسان والطيف العمراني عبر العصور والاحتلالات والصراعات.. وهذا سحرها (يمكننا أن نقول ذلك وصفًا لمزيج الشر والجمال.. والراحة والرعب). وفي مدينة تهمل تحفها العمرانية ولا يمكن وصف الحياة فيها بأنها المريحة.. صممت للأقوياء فقط.. لا يحيا فيها سوى القادر على فرض قوته في صراع على المساحة. الروح الغامضة غالبًا هي ما جعلت ٢٠ مليون شخص يعيشون في حيز واحد، كلهم يلعنونها، ومع ذلك لا يبدو فراقها خيارًا سهلاً.. الحياة في القاهرة تجربة، أكثر منها “حياة منظمة” أو يمكن تنظيمها؛ يكمن سرها في الفوضى وسط النظام الحديدي.. أو في تجاور الأزمنة بترتيب لا يلغى الآخر.. أو في تاريخ متراكم من محاولات مدينة بنيت في الصحراء، وعاشت رحلة البحث عن اللطافة والطراوة.
كان هذا التاريخ يتسع لكل الذين يدافعون عن وجودهم، سواء هؤلاء الذين يعيشون في أحياء متماسكة، يسمونها راقية (الزمالك، مصر الجديدة، جاردن سيتي.. أو حتى ضاحية المعادي)، أو في مناطق شعبية لها تماسكها ونسيجها الاجتماعي. كانت القاهرة تختفي تدريجيًّا مع اتساع البازار، وضراوة وجود الأحزمة العشوائية؛ موطن المهاجرين من الأرياف أو المدن البعيدة عن العاصمة، الباحثين عن امتداد لهم بالقرب من عائلاتهم الأصلية. وفي الوقت نفسه، وبإيقاع مشابه، تناسلت أحزمة المنتجعات حتى كادت أن تتحول إلى “الفردوس الموعود” للهاربين من الجحيم القاهري.
هجوم البلدوزرات الأخير ضرب القاهرة،وهي يتيمة دون مُخطِط أو مُطوِر عمراني.. فريسة شطار وعيارين من صائدي الثروات… تتورم هنا وهناك.. وتشيخ أحياؤها القديمة على حياة سكانها.

***

8

الجحيم

أول التكهين حدث أيام السادات.. وقبل ذلك أرادت عقلية التخطيط والتنظيم في العهد الناصري منع اللقاء العام.. أو محاصرة المجال العام، ونشر الذعر العام بقوانين منع التجمهر (لأكثر من 5 أفراد).. لكن السادات ؛ربما بعد تظاهرات الطلاب الشهيرة في 1972 واحتلال ميدان التحرير؛ حول الكعكة الحجرية (النصب الفارغ الذي وضع ليكون قاعدة تمثال لم ينفذ قط) ثم بعد انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977، حاول البحث عن حل عمراني لتغيير معالم المدينة، وخصوصًا قلبها، أو ما يسمى وسط البلد، بالإضافة إلى كل مناطق اللقاء العام بين السكان من مختلف الطبقات والشرائح والأطياف، فتبلورت الخطة الممنهجة لتدمير مساحات الفراغ.. وهكذا تكررت حكاية رجل من الشطار يلمح بعينه مساحة فارغة بين بنايتين من بنايات وسط البلد، فيضع قدمه الأولى؛ قطعة خشب مستطيلة، يضعها بعد ذلك على حاملين؛ لتصبح طاولة.. ثم مع مجموعة مقاعد تصبح نواة مطعم، وبعد أشهر قليلة تختفي المسافة بين البنايتين تحت لافتة المطعم الشهير الذي يتزاحم الناس ويتحلقون حول موائده. وتحت هذه الهجمات اختفت الممرات والساحات العامة.. وكأنها مسابقات لاحتلال المساحات الفارغة، ولو على حساب “المساحة العامة”. كان كل ما هو عام محل صراع من غرائز متوحشة. ومثار رعب؛ سواء كان مستشفى أو مدرسة أو هيئة حكومية أو شارعًا.. الشوارع للتحرش.. والهيئات الحكومية لممارسة سادية الموظفين.. والمدارس لتخريج جيوش من العاطلين المحبطين الخانعين، فتحوَّلت مثل غيرها إلى حديقة حيوانات صغيرة، فلم يعد التعليم مصنعًا من مصانع روابط المجتمع.. التعليم في مصر يصنع الجُزر ويقيم الحواجز؛ حيث يوجد ما يقرب من 8 أنظمة تعليمية يخلق كل منها عادات وشعوبًا تلتقي في الشوارع، لكن بلا شيء يجمعها.. وبعد الثورة استكمل الشطار عصر تدمير المجال العام.. وبالأنانية المفرطة، احتل كل من يستطيع (بدخوله مافيا إدارة الباعة المتجولين على الخط)، موقعًا في مدينة تلقيه إلى هامشها، وها هو اليوم يستعيد قدرته على احتلال قلبها، ولا يحركه منه إلا الأقوى منه. وما دامت الدولة قد أرخت قبضتها فالانتقام وارد؛ باحتلال كل ما يمكن احتلاله من مجال عام.. وأصبحت هندسة قلب القاهرة (بعد صدمات السادات في 1972 و1977) تشبه سياسات مطاردة المجال العام؛ حيث الممرات بين شوارعها مغلقة، والشرايين التي سمحت بالتجول في التصميمات الأوربية والإسلامية؛ مسدودة.

التجول في السنوات الأخيرة لحكم مبارك؛ أصبح أقرب الي المستحيل، ووسط البلد أصبحت مسرحًا استعراضيًّا للمقيمين في المناطق المنسية، حيث تتحرر غرائز قطعان الشباب من السلطة المباشرة، وتوجد تفاصيل في هذا التحول ضمن دراسة لوسي زيروفا في دراستها المنشورة على مدينة، وناقشت فيها فكرة تحول وسط البلد من “فردوس مفقود” إلى “مكان منبوذ”.

القاهرة مركز الحكم وأرق الحاكم.. ورغم وجود مؤسسات السيطرة فإنها مصدر قلق كبير، لأنها تكسر العلاقة القديمة بين الحاكم والشعب، حين كان الحاكم يسكن في القصر العالي لا يصله أحد، والشعب يعيش حياته ناظرًا للأعالي طالبًا الرحمة والحنان، تاركًا كل ما يتعلق بالسياسة لساكني القصر البعيد، هذه الصورة ما تزال تداعب الحاكم الحديث من الملوك إلى الجنرالات، ولهذا فخطة التكهين، أو لنقل رغبة التكهين يصاحبها دائمًا كلام عن عاصمة جديدة.. ولأنها تتحرك بالرغبة في السيطرة والهيمنة؛ تتزامن مع الخطط المتعددة للحفاظ على موت السياسة.. ليكون الحاكم الفرد هو المطور/مخطط المدينة الواحد الوحيد.

***

9

خلف الأسوار

اختفاء القاهرة لم يعد تدريجيًّا؛ كما عشناه بسبب الإهمال أو رغبة التكهين المكتومة.. الرغبة الآن علنية، والبلدوزرات تقوم بهجمات ممهنجة في المدينة، لتوسع الطرق أمام الهاربين إلى المدينة البعيدة، متعلقة في ذيل دوائر الحكم.. كل مشاريع العاصمة الجديدة فشلت لأن دائرة الحكم كانت تحتفظ بمكانها في القاهرة.. والطبقات التي تملك ثروات كافية للتنقل تسعى للقرب من مركز الحكم، ومشروع العاصمة الإدارية سينجح إذا اكتمل انتقال دائرة الحكم بالكامل؛ وهو ما يبدو قريبًا؛ فالمخطط الذي ظل عالقًا يستند الآن إلى قوة مفرطة تعيد بناء الدولة لتقترب من صورة “الحاكم في القصر العالي وراء الأسوار” ومعه مؤسسات السيطرة، أما العاصمة “القديمة” فلا بد أن تكون مصدر أرباح كبيرة، وهو ما يجعل كل فراغ ومتنفس؛ سواء كان شجرة، أو شارعًا هادئًا، أو متراً فارغًا، هدفًا لحشوه بمساحات بيع وتجارة، وأحياء الفقراء القديمة بعد تهجير المقيمين فيها ستتحول إلى مراكز مالية وتجارية، وتتحول القاهرة أو المدينة إلى متاهة لسكانها وفرجة للعابرين.. هل يمكن أن نسأل هنا عن إلتئام القاهرة.. الذي يعني الكثير في حياة و تاريخ المصريين؛ إذ أنها محاولتهم المتعثرة لالتئام “المدينة” بالمعنى الحديث.. وفقدان المحاولة سيستدعي أشياءً أكبر من المراثي.

***

غلاف المقال : صورة من خريطة القاهرة تحت الاحتلال العثماني.