“الآن يا دييجو”

قبلات وداع لمارادونا

محمد البرمي

لم يرَ العالم بيليه، كان اسمه دائمًا ما يتردد في كل مكان، ذلك البرازيلي الساحر الذي أدهش الجميع ببراعته في الكرة وإحراز الأهداف، لم تكن الكرة هي اللعبة الشعبية الأولى في سنوات بيليه، ولم تكن شرائط الفيديو والتليفزيون قد انتشرت في كل مكان، وأصبح في إمكان الجميع متابعة اللعبة المجنونة، ولم تكن شارات البث الفضائي قد كسرت عزلة العالم بعد.

من هنا كان الجميع متحمسين للموهبة، لم تدخل الأموال بعد كسلاح لإفساد اللعبة، كانت تُلعب فقط من أجل البشر، تمنح المنتخبات والفرق فرصًا للانتقام، تخلق جوًّا من المحبة والانتقام، من السعادة المفرطة والحزن القاتل، لذا كان الجميع في انتظار شيء ما؛ بيليه جديد، أو موهبة متفجرة جديدة، تثبت لهم أن للتليفزيون قيمة، وللبث الفضائي أهمية حقيقية غير هذه الأفلام الساذجة التي تسوِّق لحرب النجوم.

كان الجميع جالسين يطالعون ذلك الجهاز الصغير، بينما يمر القصير مارادونا، من لاعبي إنجلترا.. يا إلهي.. ساحر الأول والثاني، كرة بعد أخرى مباراة بعد أخرى كيف يفعل كل ذلك؟ يتسلم مارادونا القصير الكرة في منتصف الملعب الإنجليزي، يدور دورة كتلك التي تغازل بها الأرض الشمس، صار وجهه للمرمى، والكرة كما لو كانت دانة بين قدميه، الجزر الأرجنتينية، الحرب مع الإنجليز، والبابا الأرجنتيني، و”أنا مسيح أيضًا” يقول مارادونا وهو يمر من أجل فقراء بيونس آيرس، من أجل الأرجنتين، ومن أجل الرب.

في الخلفية يطارد مارادونا بيتر ريد وبيتر بيردسلي، يا الله! صوت المعلقين كل بلغته يدوي، تشرئب أعناقهم كأنها ستخرج للمشاهدين من جهاز التليفزيون، في مواجهة حاسمة مع تيري بوتشر، لا أحد يقدر على القط الصغير، يواصل المرور، تطوى الأرض تحت قدميه، وكأنه يتقرب من السماء.. دييجو يقترب من المرمى متجاوزًا تيري فينويك وكيني سانسوم، يراوغ الحارس بيتر شيلتون، ويودع الكرة الشِباك، تراقب الجماهير في صمت وصدمة مما يحدث، لا يمكن أن يكون ذلك الفتى إنسيًا، ربما جاء من الفضاء مع قمر صناعي، لكن الأرجنتين فقيرة، لو كان كذلك لماذا لم يذهب إلى أمريكا أو إلى إنجلترا.. بسهولة يمكنك أن تجيب لأنه يحب الفقراء والكرة، وفي الأرجنتين يمكنك أن تجد ذلك بسهولة.

كان مارادونا الوحيد الذي يشبهنا، كان صعلوكًا وإنسانًا طيبًا؛ يعيش حياته كما يريد، وجميعنا فشلنا في ذلك، صحيح أنه لم يفشل مثل فارس في الحريف، ولم يتحوَّل إلى ماكينة أموال بلا قيمة مثل ليونيل ميسي، لذلك هو نحن؛ نزق متهور وسعيد دائمًا.. الوحيد بين مشاهير العالم الذي استحوذ على الكاميرات لمدة 40 عامًا، دون أن تَمَل منه الكاميرات أو تمنحه ظهرها، مارادونا مثل فيديل كاسترو صديقه، ومثل تشي جيفارا مناضل لكن بقدميه.

مارادونا الذي يكره إسرائيل ويقولها إن سئل، ويحب كل المناضلين، الذي لم يتوقف عن الحب للجميع، صحيح أن مسيرته بعد اعتزال الكرة لم تكن ناجحة كسنواته قبل الاعتزال، لكنه وعلى الرغم من التخبط الذي مر به، كان قادرًا، حتى لحظته الأخيرة في الحياة، على انتزاع الآهات والاستحواذ على عقولنا.. من بعده جاء ميسي وزيدان ورونالدو ورونالدينيو والكثير والكثير من اللاعبين، لكن الكرة تدين له هو، لأنها كان أحد أهم أسباب شهرتها.

مارادونا الذي كان يلعب الكرة من أجل الناس، من أجل قلبه الذي لم يتوقف عن الحب، ولم يستبدله بماكينة أموال، يلعب مصابًا من أجل الأرجنتين، يلعب من أجل الفقراء في نابولي.. مارادونا اللص الشريف، روبن هود الفقراء، الذي يسرق الفرحة من الإنجليز والهولنديين إلى فقراء بيونس آيرس، والذي يحارب المافيا من أجل فقراء نابولي، ويناضل بمهاراته الفذة دون أن يؤذي أحدًا.

ذات مرة، استضاف التليفزيون الأرجنتيني طفلاً صغيرًا لم يتعدَّ عمره الـ7 سنوات، هو دييجو مارادونا، سألة المذيع ماذا تتمنى، فقال: “أريد أن ألعب مع منتخب الأرجنتين.. أريد أن أحقق معهم كأس العالم.. أريد أن أكون أحسن لاعب في العالم”.. كانت نبرته جادة لا تنقصها حدة أو إصرار، لكنها لم تكن كافية لتوقف سخرية المذيع منه.. لكن مارادونا فعلها؛ وصار الأفضل في القرن العشرين، وبطلاً لنسختين من كأس العالم.. هذا الشغف ربما لا يمكن أن تراه في لاعبين آخرين..
وفي عز مجد دييجو.. هناك في نابولي، في الجنوب الإيطالي الفقير تمنى أن يسعد الناس.. يفكر: ماذا لو لعبتُ كما كنت طفلاً صغيرًا في بركة من الطين؟! الجميع وصفوه بالمجنون؛ مارادونا الأفضل في التاريخ يلعب في الطين، نفذ فكرته في بدايات عام 1984؛ وطالب إدارة النادي بتنظيم مباراة خيرية، لتجمع عائداتها وتُمنح لأب مريض، كي يجري عملية جراحية لم يكن بوسعه أن يتحمل تكاليفها بمفرده، ورفضت إدارة نابولي، ولكن النجم الأرجنتيني لم يتغاض عن فكرته، واستغل شعبيته وأقام المباراة في ملعب طيني بإحدى ضواحي المدينة الإيطالية القديمة.. وقتها أدى مارادونا تمارين الإحماء في موقف للسيارات، قبل أن يخوض المباراة ويتألق، ويسجِّل هدفين، كان الثاني منهما رائعًا للغاية، وهو ما أسعد آلاف المشجعين من الطبقة الفقيرة، الذين اكتظوا لمشاهدة نجم التانجو ولاعبهم المفضل.

يقول متحدثًا عن نشأته الفقيرة: “أتذكر حينما كنت طفلاً يوم عاد والدي مرة من العمل، ولم يتقاض يومها مالاً يكفي لإطعام ثماني أفراد.. كنا ننتظره بصمت، لأنه لم يكن لدينا طعام لنأكل، الناس لا يمكنهم أن يفهموا ذلك، وأعني بالخصوص أولئك الذين لم يتضوروا جوعًا يومًا ما، نحن لم نحتفل يومًا بعيد ميلاد لأحدنا، لأننا لا نملك المال لفعل ذلك.. الأصدقاء والأقارب كانوا يمنحونك قُبلة بمناسبة عيد ميلادك.. وتلك القُبَل كانت بمثابة أكبر هدية، فالفقراء لا يخذلونك ولا يتخلون عنك أبدًا”.

مارادونا لم يكن لاعبًا محترفًا، ولا إلها، بل كان إنسانًا في زمن تحولت الكرة فيه إلى آلات تلعب من أجل الأموال، مجرد عروض بهلوانية دون مشاعر حقيقية، الآن يودعنا، وأتذكر مقولته الشهيرة عندما دخل مصحة “كوينكي- كوكال” في مملكة الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، وعندما نجا من الموت قال: “جذبني الرب من قميصي.. وقال لي: ليس الآن.. لن تموت الآن”، وبعد 20 عامًا حان الوقت يا دييجو، وعليك أن تصعد إلى السماء.. وداعًا دييجو أرماندو مارادونا، اللاعب الذي منح كرة القدم شهرتها.