تحضير شبح نيتشه في مسلسل تليفزيوني

لغز بدر في لعبة نيوتن

معاذ محمد

لم يخترع نيتشه مفهوم الإنسان الأعلى، الأسطوري، الخارق، المسيطر على كل شيء.. الإنسان السوبر؛  لقد سيطرت هذه الفكرة على الإنسان منذ زمن بعيد.. فابتكر إنسانه الأرقى.. ولعل البطل التراجيدي عند الإغريق كان أحد تجليات هذا الإنسان الأعلى منذ نحو ألفين وخمسمئة سنة، لكن دائمًا كانت هناك قوة أعلى منه متمثلة في الآلهة، بما تحققه من توازن اجتماعي وفقا للفلسفة الكلاسيكية التي وضعها الإغريق.. حتى جاء نيتشه، وجعل من هذا المفهوم محورًا رئيسيًّا لفلسفته. لكن كيف يمكن أن يتحقق الهدف دون تحرر كامل من كل شيء، كل قوة، كل سلطة، ليصبح هو مالك كل قوة وكل سلطة.. المالك الأوحد لخيوط السيطرة على تفاصيل حياته، ولذلك كان لا بد له من تقويض سلطة القدر والطبيعة، أو موت الآلهة…لتبدأ الحياة.

ماذا لو رأيت نيتشه بيننا، يمشي في المدينة، يطبق نظرياته كما تصورها ، وإن كان بلا شواربه الطويلة!

  • *الفقرات الملونة في النص : من كتاب نيتشه “هذا هو الإنسان”
    ** التصميمات المصاحبة للنص:للكاتب

 باغت مسلسل لعبة نيوتن متابعي الدراما الرمضانية المملة ليدمر التصور النمطي عما يسمى بالموسم الرمضاني الذي يتسم بالرتابة والتشابه وسهولة توقع مساراته من الحلقة الأولى. اعتمدت معايير النجاح “الرمضاني” في السنوات الأخيرة على تجاهل الفن واستبداله بمعايير أخرى كثقافة الكلمات المقفاة التي أعدت كي تكون “بوست” يجلب التفاعل اللحظي على مواقع التواصل الاجتماعي، وفرضت ثقافة الإبهار البصري الهوليودية نفسها كمعيار مشوه لتذوق الفن.

 الخلفيات المجتمعية لشخصيات المسلسل كانت سببًا من أسباب المتابعة الجارفة؛ فأغلب الشخصيات تواجه تحديات مجتمعية عدا بدر الذي قُدم بصورة غامضة، غير محدد الدوافع، سلوكه بالنسبة لكتالوج المشاهد العادي غريب. مما استدعى بعض التشوش العاطفي في الحكم عليه. فتفاعل الجمهور مع الشخصية بالسخرية والحذر والاستهجان وأخيرًا التعاطف. يريد الجمهور تصنيف الشخصيات داخل ثنائية الخير والشر للتفاعل معها وهذا ما كان صعبًا عند تطبيقه علي بدر، تقف الشخصيات الأخرى على أرضية مجتمعية متقاربة مهما تطرفت، على عكس بدر الذي كان خارج هذا الاتفاق، كان ببساطة غريبًا؛ والغرابة هي ما يثير اهتمام الإنسان عمومًا، اللامتوقع، شخص يعبر الطريق لن يثير اهتمام أحد، نفس الشخص لو عبر الشارع دون ملابس سيحوز كامل الاهتمام.

التشكل

بداية سننظر إلى شخصية بدر من تفاصيل تقديمه، البدر هو مصطلح لغوي يستخدم لوصف القمر ليلة كماله عندما يتوسط السماء ليظهر لنا نحن سكان الأرض بكامل نوره وبهائه، دخل بدر على خط الأحداث عندما اشترى الأرض التي يؤجرها، البطلان، حازم وهنا قطعة صغيرة كمنحل، تبدأ علاقة حازم ببدر عندما ذهب إليه للتفاوض على استمرار إيجار الأرض بصفته المالك الجديد، هنا يظهر بدر للمرة الأولى، ولكن قبل الدخول في تحليل سلوكه دعونا نستعرض عناصر المشهد الأخرى لنحاول فهم عالم بدر واختلافه، في خلفية هذا المشهد أغنية أم كلثوم أراك عصي الدمع ولكنها النسخة الأقدم؛ النسخة التي لحنها عبده الحامولي عام 1926، وهي غير النسخة الشائعة الأكثر شعبية، التي أعاد تلحينها رياض السنباطي بعد ما يقارب الأربعين عامًا.

ممسكًا بسكين يقطع به الخيار بينما ينظر إلى حازم نظرة متفحصة، نرى محتويات طاولته من الطعام “الأورجانيك”، ما تجود به الأرض بشكل طبيعي دون مساس من أذرع الحضارة العابثة. ويبدأ حوارهما الأول أمام صحون الزبادي والجبن والفطير، ويرد بدر علي طلب حازم بمهمة إذا نجح فيها سيعطيه الأرض بلا مقابل؛ برطمان عسل من إنتاجه، ومعيار النجاح هو جودة العسل، لن يكترث لثمن الإيجار إن أعجبه العسل، وهنا يظهر الغموض للوهلة الأولى، من لا يهتم لإيجار أرضه عوضًا عن اهتمامه بجودة العسل!

للوهلة الأولى ظننت أن بدرًا شخص صوفي مستغن عن العالم وما فيه، ولم أتحمس لهذا الطرح، كان رد الفعل الجماهيري الأول هو نقاشات تتمحور حول عدم فهم الشخصية ودوافعها، بدر وابتسامته العريضة واللامبالاة التي يتعامل بها مع الأمور الجدية، لقد ترك مخرج المسلسل تامر محسن مصدرًا مفتوحًا لفهم شخصية بدر عندما دس كتاب “هذا هو الإنسان” لنيتشه وسط مشهد حواري مع أمينة، وإذا تعمقنا في فهم الشخصية وما وراء فلسفتها سنرى أن بدرًا يستقي حياته كليًا من هذا الكتاب ومؤلفه وينفذ ديباجته لكي يكون إنسانًا آخر.

..هذا هو الإنسان

نُشر هذا الكتاب لنيتشه بعد وفاته بثماني سنوات، يتحدث نيتشه عن نفسه وميراثه في هذا الكتاب بحرية تامة، وكأنه يدرك أنه آخر كتبه، يحاول تفسير فلسفته وتحليل نفسه لأجيال قادمة ينتظر أن يكون لها آذان تفهم كلماته، فهو لم يخلق لعصرة بل سابقًا له كما رأى نفسه، رأى أن كلماته ستلقى صدى في كهوف حقب أخرى لم يرها العالم بعد، يتحدث أيضًا عن الطعام والمناخ والمدن والطقس وعن كتبه السابقة ورؤيته لعصره وما سبقه، يمسك بوعي قارئه ليصحبه في رحلات ساحرة في جبال بحيرة سيلفابلانا وخليج راباللو الزاهي وجبال سانت لويس، كي يصف لنا ما شعر به عندما اختلجته تلك الصاعقة العقلية التي أنتجت فلسفته، ويتحدث أيضًا عن تحولات حياته، ويحللها ببراعة تامة وكأنه خرج من ذاته وأصبح ذاتًا أخرى أبرع أو كما يصف نفسه.

 “إنني الوجه الثاني لنفسي وإن كنت امتلك هذا الوجه إلى جانب الوجه الأول، لعلي أمتلك أيضًا آخر ثالثًا”..

يقسم نيتشه حياته لمرحلة المرض والانحدار “عندما بلغ السادسة والثلاثين”، ويصفها بأنه يعيش وكأنه شبح، كان في أقصى تدني لصحته الجسدية والنفسية، أو كما يقول “كنت أحيا، ولكن دون القدرة على النظر على بعد ثلاثة أمتار أمامي” وكان نتاج تلك الفترة كتاب “المسافر وظله”، ثم مرحلة الانفجار أو “تسلق الأعالي” التي شهدت تحوله لديناميت متفجر لكل ما كان مدعاة لفخر عصره وما قبله، كان نتاج تلك الفترة كتاب “الفجر” وما تلاه، يعزي نيتشه هذا التحول المضاد الي إرادة الشفاء التي يتمتع بها الإنسان القوي، فالإنسان المتدهور أو الضعيف عندما يمر بما يفوق قوة دفاعاته سينهار ويتقهقر للخلف، ثم يسقط في سلسلة من الانهيارات التي لن يواجهها بل سيهرب منها لينتهي به الأمر مستسلمًا ضعيفًا.. على عكس الإنسان القوي الذي يقود ذاته بلا هوادة والذي يقضي حياته في مهمة للتعرف علي نفسه وتشييدها من جديد بعد تنقيتها من سموم العصر والفكر والقيم ثم ينطلق نحو الأعالي، البطل الواقعي الذي لا ينتظر هبة مجانية من السماء أو الأرض، بل يحارب بلا هوادة من أجل توسعة غرف عقله كي تتمدد قدرتها على الاستيعاب والتحليل والرؤية ليرتقي بإنسانيته لمرحلة أعلى، هذا “النوع” من الإنسان عندما يواجه الألم سيسترجع نفسه من أعمق نقاط سقوطه، وخلال عملية الانتشال سيعيد اكتشاف الحياة كلها بمناظير أخرى.

في كل حياة على وجه الأرض واجه الإنسان الفشل والألم، ولكن الأسلوب الذي يتعامل به مع الأمر هو المعيار الوحيد في تحديد هوية ذاته ومستقبله كإنسان، فالإنسان يمكنه أن يكون مثل البستاني الذي يزرع من جذور وتربة بالغة القبح نبتة بالغة الجمال، هذه النبتة التي شقت طريقها وسط المعاناة ستجعله يتذوق العالم بنكهة أخرى تعجز ترددات الوعي الطبيعي عن التقاطها فالألم والسعادة ليسوا متضادين كما نظن، بل إن الوصول لمعطيات السعادة الحقيقة يمر بالضرورة في طريق الألم كما رأى نيتشه. 

ماذا يريد بدر ؟

بدر من المؤمنين بفلسفة نيتشه في معاداة الإنسان الحديث، إنسان القيم والأخلاق، يحاول صب إنسان زرادشت داخل جسده ليغمره وليحرر ذاته من مسببات ضعفها ليصبح أقوى منها ليقودها، ويعطي لنا المخرج بعض التفاصيل الضبابية عن حياته السابقة كرجل صناعة كبير، خير مثال للإنسان الحديث، نعلم أنه كان يمتلك الحياة التي يتمناها الإنسان من وفرة المال والسلطة، نعلم أيضًا أن حادثة انتحار ابنته كانت وراء اختلاف حياته جذريًّا، فقد كانت تحب شخصًا لا يعجبه فسجنه بنفوذه لتنتحر، وتترك له رسالة تحمله مسؤولية رحيلها، ونعلم أيضًا أنه كان نزيلًا في مصحة نفسيه بعد تلك الحادثة لنصف السنة.

في تلك الدائرة المغلقة من العذاب والألم التي تشعل نارها المسؤولية كلما شارفت “طبيعيًّا” على الانطفاء، في تلك اللحظة التي تحدث شرخًا عميقًا داخل الإنسان، الألم البالغ الذي لا يرى له نهاية ويعجز عن مجابهته أو حتى استيعابه، أو كما يقول بدر “كنت فاكر إني هموت”، يصبح في أدنى مراحل حيويته ليصل للحضيض.

وجد بدر نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، الانهيار التام وترك المقاومة لينجرف وسط نهر الألم ليحتضنه كجثة في أعماقه، أو في سيناريو أفضل ليخفف ألمه بمسكنات وهمية، أو التحول لإنسان آخر بشرنا به نيتشه في كتبه، إنسان يستطيع مواجهة الألم وترويضه بخفة ملاكم، إنسان لا يرى الألم كرذيلة يسعى لتجنبها، بل بوابة ضرورية نحو السعادة والتحرر الذاتي، إنسان حقيقي وليس نبيًا محصنًا، تصيبه ضربات الحياة كأقرانه من البشر بل وتصيبه ضربة أقوى من دفاعاته بين الحين والآخر، ولكنها على عكس الإنسان العادي لا تسقطه أرضًا بل تزيد من قدرته على تلافي ضربات مشابهة، ولكن لهذه اللياقة والخفة ضريبة وهي ترك نسخته القديمة للأبد وكأنه يولد من جديد.

لقد اكتشفت الحياة من جديد، بما في ذلك نفسي، وغدًا بوسعي أن أتذوق كل الأشياء الطيبة بما في ذلك الأشياء الصغيرة كما لا يستطع أحد آخر أن يتذوقها بتلك السهولة، هكذا جعلت من رغبتي في أن أكون معافى ومن رغبتي في الحياة فلسفتي الخاصة.

تلك الأرضية التي تنطلق منها شخصية بدر، الألم الذي لا يستوعب، واستخدامه لتغيير رؤية الشخص عن الحياة وعن نفسه لينتج فلسفته التي تغير بالضرورة أغلب سماته ليصبح إنسانًا آخر، وليبدأ رحلة طويلة من محاولة الانتصار على نفسه.

اختار بدر الاختيار الثاني؛ وجعل من نيتشه معلمًا له في هذا التحول، يسير على خطاه ويتلمس آثار قدمه، يأكل الطعام الطبيعي “الأورجانيك” ويبتعد عن الطعام “المخرب للمعدة” كما كان نيتشه يصف المطبخ الألماني وكما نصح الإنسان بالتعرف على معدته كي لا تثقل عقله، يزرع بدر طعامه أمام بيته ونراه في مشاهد أخري يقوم بأبسط الأمور بنفسه مثل تصنيع الزبادي وتجهيز الفراولة بنفسه.

يترك القاهرة بتلوثها وزحامها ومركزيتها ليعيش في منزل له طابع معماري مختلف عن البيوت المصرية الخرسانية، المنزل الذي رأيناه في المسلسل يقع في قرية تونس بالفيوم، ونستطيع أن نرى أنه بجوار تصميمه الجمالي، صمم بشكل إبداعي وكأنه يساعد ساكنه على مهمة ما، الغرف والصالات الواسعة، النوافذ العريضة المصممة بدقة، الأسقف المزركشة، الطابع الزمني المختلف للمكان، الهواء الذي يتسرب من رحابة المكان..

 نعلم أن المكان هو الفيوم رغم أن الأحداث لم تذكر تلك المعلومة، واكتفت بوصفها بالعزبة دون تحديد حيز جغرافي، ولكنه بالتأكيد مكان عامر بالطبيعة والهدوء والجمال، وهنا تظهر تعليمات نيتشه في التواصل مع الطبيعة واختيار الإنسان لسكنه مكانًا له جغرافيا جيدة من هواء جاف وطبيعة ممتدة، كما كان نيتشه يصف هواء أنجادين العليل، وكما اختار لنفسه سكنًا في سلس ماريا في أعالي الجبال جنوب شرقي سويسرا، بل إن نيتشه وضع على مهمة اختيار مكان للمعيشة عبئًا أكبر في رحلة تطور الإنسان وأرجع تطور العقل الاستثنائي بالأصل ليظهر عبقريته بشكل أسرع عند وجوده في مكان مناسب.. 

ليس بإمكان أي كان أن يعيش في أي مكان، ومن كان يشتغل على حل مسائل كبرى تستدعي توظيف كل طاقاته لمجابهة سيجد نفسه أمام مجال ضيق للاختيار فتأثير المناخ على الاستقلاب الكيميائي “تحول العناصر الكيميائية داخل الجسد”، عرقلتها، أو تعجيل نسقها أمر في غاية الأهمية، بحيث إن خطأ في اختيار المكان أو المناخ من شأنه ليس فقط أن يبعد شخصًا عن حقل اهتماماته، بل سيمنعه منها تمامًا، ستغيب عن نظرة وتضمحل..

مهمة بدر

 نستطيع أيضًا فهم بدر من عيون محيطه ومن حواراته معهم وحديثهم عنه، كما تصفه أمينة لحازم “أنه لا يصدق إلا ما يريد تصديقه ولا يرى سوى ما يريد رؤيته”، يخلق بدر معطيات عالمه الخاص بنفسه ليحتكم بما يود أن يعرضه في شاشة حياته، مع الأحداث نرى تفاعله مع أمينة التي تعيش معه وبينهم علاقة مضطربة تتراوح بين معلم وتلميذته حينًا، ومقاومة وسلطة حينًا آخر، وأحيانًا سلامًا وودًا كاملين.

أمينة ذكية كفاية لتدرك موقعها من مهمة بدر، بل تقاومه بتدرج بعد أن تتخلى عن استسلامها للموت الذي ظهرت به في بداية الأحداث، تدرك موقعه من حياتها كشخص لديه فلسفة مختلفة، اختارته بإرادتها ليساعدها على اجتياز المتبقي من حياتها بسلام وألم أقل بعد إصابتها بالسرطان، كان اختيارها للحياة مع بدر وترك حياتها خلفها اعتقادًا منها أنه القرار الأخير في حياتها ولكنها تعلقت بالحياة مرة أخرى وبمشاعرها البدائية “العادية” ممثلة في حازم، هي واعية بما اختارته في لحظة يأس تخلت فيها عن الحياة واستسلمت للموت ولكنها تراجعت عنه ببساطة.

 تبحث في بدر عن مشاعر إنسانية “عادية” تستهويها، مثل التعلق والمحاربة من أجل ما تحب، ولكنه يرفض أن يتعلق أو يتملك من الأساس لأن التملك هو المنفذ الرئيسي للألم حسب سرديته، ولكنه لا ينكر أنه يحب، وبل يحب وبشده ولكن بقواعده كي لا يجد نفسه فجأة في الحفرة التي يظن أنه خرج منها، على العكس من حازم الذي لا يحظى بتلك القدرات ليفهم موقعة من مهمة بدر وأنها أكبر من برطمان عسل ولو أن مهمة تصنيع العسل بالأفيون هي مهمته الأولى التي يحتاجها بدر، لكنها مجرد مهمة وليست الغاية في وجوده.

أظن أيضًا أن أمينة بالنسبة لبدر هي تجسيد لابنته، ولمرضها بالسرطان تحديدًا رمزية أخرى وهي الفناء، شخصها محكوم بالفناء كابنته التي أحبت شخصًا لا يرضيه، فكان بالنسبة لبدر كالسرطان الذي يسكنها ولا يقوى على نزعه منها، تلك حدود قدرته البشرية، أما في شخصيته الجديدة فيحاول تجاوز أسوار الحدود البشرية، أمينة بالنسبة له نوع من إعادة التجربة بعينه وشخصه الجديد، وكأنه يرفض مواجهة موت ابنته بإحياء أمينة التي عرفها فانية..

على الإنسان أن يطور نفسه بنفسه حتى يصل -أو يحاول الوصول- لمعاني الأشياء لأنها رحلة ذاتية، ولا يمكن للإنسان حسب نيتشه أن يتذوق السعادة سوى من بوابة الألم والمعاناة، ولكن تلك المعاناة إذا ما ووجهت برد فعل خاطئ من الممكن أن تحوله إلى كائن أبغض مما كان عليه، يحتاج لدفعة في المسار الصحيح كي يروض الألم، بدر يرى أن مهمته هي تلك الركلة لمن يراهم لائقين لتغيير حياتهم، لا يشارك بشكل مباشر في أغلب الأحداث، بل يتلاعب بالمسارات التي تسير بها الشخصيات؛ يتدخل وتظهر سطوته في حال الانحراف عن المسار أو الخروج من حدود المربع الذي يحدده للشخصية، نرى حراسه يمنعون أمينة من الخروج من البيت ومرة أخرى تخرج بكامل حريتها، ونراه عندما يحاول حازم السفر لهنا يدبر له قضية شيكات ليقبض عليه في المطار، لأن خطته لحازم في ذلك الوقت كانت دفعه للتخلي عن هنا بمحض إرادته، كانت تلك الخطة ستفشل إذا التقيا في ذلك التوقيت، لأنه يعلم مدى ضعفهم وحنينهم لبعضهم ولكن حياتهما معًا مستحيلة من وجهة نظره، بل تضعف وتنهك كل طرف منهم، هو الآن يرى نفسه مخرجًا للأحداث وليس فاعلًا مباشرًا كما كان، ينظر إليهم من فوق الجبل، جبل الألم الذي يظن أنه وصل إلى قمته وينادي على تلامذة دفعته الأولى ليصعدوا ولكن بأيديهم هم وليس بحباله.

 

ثمار التين تقع من الأشجار، إنها طيبة وحلوة وفيما هي تقع تنشق قشرتها الحمراء

ريح الشمال أنا بالنسبة لثمار التين الناضجة

 

 يساعد الفقراء والضعفاء لأنه لين الطبع، ولكن ذلك لا يعميه عن حقيقة الفروق بين البشر، وهذا ما ظهر في عدة مشاهد، “نوع” مساعدته للفقراء الضائعين في القاع مختلفة تمامًا عن مساعدته لمن يصطفيهم، من تلك النقطة تنطلق علاقته بحازم، بدر يرى نفسه إنسانًا أعلى، وكونه في تلك المرتبة فهذا يلزمه بمهمات تستلزم كل تركيزه واهتمامه. فيعطي لمن يختارهم “أو يتقاطعون معه” حيوات جديدة إذا ما تصرفوا بشجاعة في لحظة ضغط هائلة؛ كما فعل حازم مع شاهين، وكما فعلت هنا في أمريكا، وكما فعلت أمينة مع السرطان. من هنا يلفتون انتباهه ومن هنا يرى حكمة لتدخله، كما روى لحازم بعد خروجه من السجن أنه اختاره لأن حياته مليئة بالضعف والخوف والتردد والزيف، نرى تقديره للخطوات الشجاعة أيضًا في لقائه بهنا في المصنع بعد عودتها من السفر عندما امتدح تمردها وتصرفاتها الشجاعة الكاسرة للسقف السلوكي للإنسان العادي، رغم أن هنا حاولت نفي الشجاعة عن نفسها، لأنها تدرك أن دوافعها كانت نابعة من إثبات نفسها أمام زوجها وأمها، عناصر التشكيك في حياتها، ولكن بدرًا يرى فيها ما لا تراه فيمدحها بصيغة المعلم الذي يرى التقدم الذي أحرزته دون أن تدركه، بل ويتمنى أن يكون كل الناس مثلها -رغم استحالة الأمر- ولكن تلك هي مهمته العظيمة..

 “إنه يدرك بمحض حدس وسائل العلاج ضد كل ما هو مضر ويحول لمصلحته الصدف الكريهة، وعلى العموم فكل ما لا يتسبب في هلاكه لا يمكن إلا أن يجعله أكثر صلابة، إنه يجمع غريزيًّا من كل ما يرى ويسمع ومن كل ما يحدث له رصيد ثروته، مبدأ انتقاء، يترك الكثير من الأشياء ولا يحفل بها وهو على الدوام بين أهله وأصحابه، سواء بين كتب أو أناس أو بين أحضان وسط طبيعي، يكرم فيما هو ينتقي ويقبل ويمنح ثقته، إنه يتصرف بتأن وبطء تجاه كل ما هو مثير، ذلك البطيء المتأني من تجربة طويلة في الحذر والكبرياء المقصودة”..

هل نجح بدر في مهمته؟

“ليس في إمكان أحد بالنهاية أن يسمع من الأشياء، بما في ذلك الكتب، أكثر مما يعرفه مسبقًا، فما لم يكن للمرء من معرفة به عن تجربة معاشه، لا يمكن له أن يسمعه، لنتصور الآن حالة قصوى حيث يروي كتاب أحداثًا تقع خارج الإمكانات التي تمنحها التجارب المتداولة، بل وحتى النادر منها بحيث يغدو لغة أولي لسلسة جديدة من التجارب، في مثل تلك الحالة سيكون من المتعذر سماع أي شيء وبفعل التوهم السمعي يغدو ما هو غير مسموع غير موجود أيضًا”..

 إجابة هذا السؤال صعبة للغاية، لأن المقياس الذي سأقيس عليه نجاح محاولة بدر للوصول للإنسان الأرقى من عدمه، هي لغة جديدة عزفها نيتشه في طريقة لتدمير القيم وإقناع الإنسان أن هنالك أنهارًا وجمالًا وحيوات أخرى خلف جبل حدوده الذي يهاب صعوده، معزوفة أصلية تعزف “دائمًا” للمرة الأولى، مرتبة تجعله قادرًا على تخطي الألم والضعف من خلال المواجهة وليس التخدير، نموذجًا أقوى وأصلد، ولكن طريقة تشكيل هذا الإنسان عند محاولته تجاوز حدوده تكون طبقًا لتصوراته الخاصة، فلا يوجد نموذج بلاستيكي للإنسان الأعلى يجب محاكاته، بل لغة أصلية تولد سلسلة من التجارب الأصيلة التي تصبح نتائجها أصيلة بدورها، وتكمن أصالتها في اختلاف نتائجها. ولكن بنفس هذا الفهم يمكنني إجابة السؤال طبقًا لفهمي الشخصي للإنسان الأعلى دون ادعاء أن يكون فهمي هو ما قصده نيتشه بالتحديد، لأن الجزم بهذا الأمر شبه مستحيل لتجربة تتسم بالحرية الذاتية وتخطي الأسوار الإنسانية، من هذا المنطلق فإني أرى أن بدرًا نجح وفشل في محاولته، على الصعيد الشخصي فقد عاش بعد الضربة المميتة التي تلقاها وفتح لنفسه أنفاقًا جديدة نحو الحياة، بل وأصبح مقبلاً عليها، انتشل نفسه من القاع مستعينًا بإرادة الشفاء والحياة ولكن أسلوبه في معالجة أعمق نقاط انهياره “ابنته” كان بوضع طبقة من الوهم فوق الحقيقة التي يدركها تمامًا ولكنه يرفض بشدة مواجهتها.

لقد ألقى بنفسه أمام مهمة إنقاذ مستحيلة كي يرى آثار القوة التي اكتسبها، فأوهم نفسه بتخطي مسألة ابنته بالمورفين، أمينة كانت المورفين الذي يقتاته، ونستطيع بوضوح رؤية تزامن بداية سقوطه الحر مع اللحظة التي بدأت صحة أمينة في التداعي، هرب من ألم لحظة لا يحتملها دون أن يعقد اتفاقًا نهائيًّا معها كي يستطيع ترويضها وترويض الألم عمومًا عندما يهاجمه مرة أخرى، عندما أوشكت أمينة على الرحيل بدأ في الارتداد عن رؤيته الواقعية للأمور، وانهارت عينه التي ترى الصورة الأشمل الذي يُسيِّر بها مسارات شخوصه، أصبح يرى الأمور بمنظور الإنسان العادي الذي يعزي الأمور لأسباب مباشرة ويتماهى في نفي الحتمية.

 نرى أيضًا ملحوظة أخري تظهر تقهقره عن مكانته، لم يتناول بدر الخمر في الحفلة التي نظمها لأصدقائه أول الأحداث، ولكنه لجأ إليها عندما أوشكت أمينة على الوفاة، الخمر هو رمزية ترنحه وتركه لقيادة ذاته ونتج عن ذلك مكالمته لمؤنس وبداية تخريبه للأمور، نيتشه رأى الخمر كأسوأ رد فعل للمشكلات، يجنب الإنسان مواجهة مشكلات وألمه في مقابل سعادة وهمية، بل ويعطل الطاقة التي تأتي مع الألم ويشتتها بحيث تقود الإنسان للهروب لا المواجهة، مورفين أمينة كان من الممكن أن يكون الوسيط الذي يصل به إلى اتفاق مع الألم كي يبدأ ترويضه و لكنه استمر في لعبته الخطيرة للنهاية كرمزية للذكرى والألم فواجهه في النهاية، لأن الألم لا مهرب منه، يجب أن تحمل سوطك وعقلك في ترويضه.

أين أخطأ بدر؟

“إنسان زرادشت لا يمتلك الشجاعة فقط لمواجهة العالم، بل يمتلك فائضًا من القوة جوارها لتمكنه من الاقتراب من الحقيقة واستيعابها دون كذب أو تزوير لحقيقة ما يصل إليه”..

 إذا استرسلت في تخيُّل الأحداث ربما يتهمني البعض بالمبالغة والخيال ولكن سأنهي الموضوع بهذا الأمر، سأقول أيضًا إن الفترة الفاصلة بين حياة بدر القديمة والجديدة كانت أقصر من أن يكلف نفسه بمسؤوليات يعطيها الإنسان الأعلى لنفسه عندما يصل لتلك النقطة المتقدمة، كان عليه أن يترك لنفسه المساحة والوقت للوصول دون أن يجزم بالوصول، ويبدأ في تتبع آثار قوة وصوله، كان عليه ألا يورط نفسه بمهمات صعبة دون أن يعد نفسه جيدًا لها، كان علية في البداية مواجهة حقيقة ألمه والانتصار عليه ليس فقط الالتفات عليه وخداع نفسه.. وهذا ما جعله يفشل بتحويل حيوات من اختارهم على الرغم من تغييره لجوانب كثيرة في شخصياتهم، لكنه لم يصل لهدفه النهائي لأنه عجل ما في نفسه وما في أنفسهم أيضًا، بل إن مواطن الضعف التي كان يعمل على إصلاحها لديهم كانت ارتدادًا لمواطن الضعف التي لديه، فكان عمله على شخصياتهم يقتصر على مواطن ألمه هو نفسه، كالتملك وآثار الحب والألم، لم تكن شاملة كفاية لتلقين شخص فلسفة حياة كاملة. ويمكنني أن أصنف بدر كتلميذ متقدم، لكنه ليس بمعلم بعد، استعجل قطف محصوله قبل أن يكتمل نموه ولكنه لم يرتد عما يطمح إليه كليًّا، بل إنه عندما أفاق من تلك الهزة العنيفة ووجد آثار الانهيار بعد اقتحام الشرطة لمزرعته والعثور على مزرعة الأفيون، تحمل المسؤولية الكاملة دون توريط لشخوص جلبهم لتجربة هو وحده من يمتلك مفاتيح غرفها، لقد تحمل المسؤولية كما يجدر به أن يفعل أو كما يجدر بالإنسان الأعلى.