وأنا أتقلبُ فى نومى، أعرفُ الساعة بدقةٍ دون أن أفتح عينىّ فى ظلامِ الحجرةِ، يُخبرنى صوتُ حركة السيارات فى الشارعِ الرئيسىِّ المزدوجِ، فى أى لحظةٍ من الليلِ نحن، أصواتُ سياراتِ أول الليلِ غير سياراتِ آخره، الكلاكسات النزقة، الغاضبه، المصابة بلوثة جنون تأتى مابعد الخامسة مساءً، وتستمر إلى نحو الحادية عشرة، الكلاكسات المتقطعة المتباعدة التى يعلو صوتها بالكاد- كأنها متأخرة عن مواعيدٍ لن تلحق بها ابدًا- تتوالى بتدرج لا يخطىء، من الحادية عشرة إلى ساعة الفجر. تعيشُ المدينةُ فى حجرةِ نومى، بحىٍ من أحياء الطبقة الوسطى. كان من البديهى أن ترتبط الكتابةُ عندى بالمدينةِ، فهى السياق الذى ولِدتُ به، و الذى أبحثُ عن حياتى وموتى فيه. روايتى الأولى "ورود سامة لصقر" عن صقر عبد الواحد وهروبه من العمل كصبيٍ فى دكاكين الموبليات، واستقلاله القطار المسافرمن مدينةِ دمياط إلى القاهرة، دون أية نقودٍ، ولا أحدٍ ينتظره، لقد منحته المدينة الرغبة فى الهرب والحلم ثم الموت. بعد ما يزيدُ على ربع قرنٍ من الرواية الأولى تأتى، الرواية الثانية "صخرة هليوبولس" -قيد النشر- تتناول الرحلة العكسية لهاربِ الروايةِ الأولى، فى زيارةٍ إلى مدينة الميلاد، زيارةٌ تبحث فى الأسباب الأولى، وفى استحالة استعادة الزمن، ولا جدوى استعادته، فى الهزائم المفروضة، وفى زوال القصص القديمة، واحتلال المشهد بقصص أخرى لا تعبأ بما حدث فعلًا، تبحث الرواية وتنظرُ دون وجلٍ فى وجهِ الموتِ، فلا عزاء ربما غير المعرفةِ..