شجرة أم سمير

مذكرات عطشجي في السكة الحديد

مصطفى الناغي

استيقظت في نحو الساعة الثامنة صباحًا، وعندما ذهبت للحمام كي أغسل وجهي وأسناني سمعت صوت بلطة على الشجرة التي أشاهدها من نافذة الحمام.. الشجرة الوحيدة التي كانت تعطيني طاقة إيجابية في حياتي ماتت.. وإلى الأبد! 

كانت شجرة بديعة، ففي فصل الخريف من كل عام تبدأ أوراقها في التحول من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر، ومن ثَم يتساقط الورق تباعًا بفعل الرياح، ولكن في نفس اللحظة تنبت زهور حمراء بديعة.. زهور حمراء كبيرة في حجم زهور “الليلك”.. تنمو الزهور بسرعة في فصل الشتاء، وتنتشر عبر الاغصان والجذوع والسيقان الخالية تمامًا من الأوراق فتبدو مثل حكمة.. مثل قدر الإنسان.. مثل صورة بصرية بليغة.. مثل صورة أم تقاوم الموت البيولوجي للطبيعة..

كانت الشجرة تعطيني أملاً وطاقة روحانية، على الرغم من أنني كنت أشاهدها فقط من خلال نافذة المطبخ أو الحمام.. وكثيرًا ما كنت أتاملها تحت ضوء القمر في ليالي الشتاء الطويلة، والقمر في حالة استدارة وهو يمر من فوقها من الشرق إلى الغرب. وكنت أشاهد الزهور الحمراء المبلولة بفعل المطر، فتعكس صورة الزهور المتفتحة بنبض الحياة وكأنها تقاوم روح الموت المتمثل في الأغصان اليابسة والخالية من أي أثر للحياة..

وفي إحدى الليالي الشتوية البعيدة، وكنت لحظتها مرهقًا للغاية؛ إذ كنت قادمًا من يوم عمل طويل وشاق في السكك الحديدية، راجعًا من سفرية بقطار خام الفحم إلى ميناء الإسكندرية، وكانت كل أعصاب جسدي منهارة، ولا أكاد أصدق نفسي أنني ما زلت حيًّا أرزق، فقد كانت السفرية مرهقة للغاية، وبمجرد أن دخلت الحجرة القبلية في منزلي، وفتحت نافذة الغرفة التي من خلالها أشاهد تلك الشجرة التي كانت من ضخامتها أنني حتى ولو كنت مستلقيًا على السرير ومددت نظرة عيني إلى أعلى لشاهدت أغصانها الممتدة إلى عنان السماء.. ومن حسن حظي أن السماء كانت صافية، وكان القمر بدرًا.. واذاعة البرنامج الموسيقي تبث سيمفونية كورساكوف “عنترة”.. الموسيقي كانت تنساب برقة وانسيابية في عروق جسدي المتالمة من السفر، وضوء القمر آخذ في التسلل حتى غطى كل جسدي الممدد على السرير والحركة الرابعة من سيمفونية “عنترة” بدأت تتصاعد في نغم حزين، إذ الحركة كلها تعبر عن حالة الموت الأسطوري للفارس “عنترة” في تلك الصحراء القاحلة، وأنا غير مصدق أنه من قوة موسيقى كورساكوف” بدأت أنسى آلام اعضاء جسدي، بل وبدأت في تخيل الصحراء والرمال وهي تنساب تحت سيقان الخيول، والفارس الأسطورة عنترة يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي حبيبته عبلة!

كل ذلك والقمر يمر من فوق قمة هذه الشجرة النادرة في حياتي.. وللحقيقة الشجرة لم تكن فريدة في جمالها فقط، ولكنني ومن دهشتي وجدت نموذجًا آخر لها؛ وذلك في أحد القصور الملكية التي تطل على محطة قطار المطرية.. وكنت غير مصدق أن تكون شجيرتي أنظر إليها من نافذة حجرتي، أو من المطبخ، لها نموذج آخر في قصر الأمير محمد وحيد عبد المجيد أحد أمراء الأسرة الملكية العريقة..

وأريد الآن أن أكتب عن حبي لهذا الكيان العميق في مشاعري.. أي حبي لتلك الشجيرات الثلاث التي شكلت علاقتي العاطفية الحياة.. فإذا كانت شجرة مريم المقدسة قد شكلت فكرة الحلم، فإن شجرة أم سمير هي التي ترعرعت أو نمت من خلالها أول قصة حب في حياتي.. وذلك لسبب بسيط.. وهو أن حبيبتي كانت تسكن في الدور الثاني من المساكن الشعبية، أي في العمارة التي أمامي مباشرة.. ومن حسن حظي أن شجرة أم سمير أسهمت بشكل فعال في نمو قصة الحب تلك.. لكن كيف؟

في أحد أيام الصيف شديدة الحرارة، عاد زوج أم سمير من العمل، وذلك قبل صلاة العصر بقليل.. عاد وهو يحمل على كتفه تلك الشجرة، التي كانت مجرد فرع صغير طوله نحو متر، أو مترين..وعندما وضعها على الأرض نادى على مجموعة من الأطفال، كنت واحدًا منهم، وبدأنا في حفر حفرة صغيرة، لكن عميقة لغرس الشجرة.. وما زلت، أشم، حتى الآن، روح.الأرض السمراء.. وجذع الشجرة وهو ينغرس عميقًا داخل هذا الأخدود العميق، والطين بلونه الأسود اللزج وهو يحتضنها في حنان. ولاحظت أن أبا سمير بخبرته العميقة في فلاحة. الأرض أخذ يربت بكفي يديه الخشنتين على جذع الشجرة المدفون في عمق الأرض السمراء، وهو يتمتم ببعض من آيات القرآن الكريم.. هل كان ذلك سرًا من أسرار قوة هذه الشجرة المباركة؟

حقيقة لا أدري، ولكن شجرة أم سمير تلك كانت أسطورة في حياتنا ككل.. نحن سكان المساكن الشعبية؛ فقد كانت الشجرة في فصل الربيع تثمر زهورًا صفراء بديعة، تشبه في حجمها زهور الفل.. والشجرة وارفة الأوراق طوال العام.. ومن قوة الطاقة البيولوجية النامية في خلاياها أخذت منحنى على شكل حرف الواو.. وهذا يفسر كيف كان جذعها يستفيد بأكبر قدر ممكن من ضوء الشمس.. وكان هذا المنحنى البيولوجي أحد أجمل أشجار الحي كله، إن لم يكن أجمل أشجار مدينة المطرية ككل.. حتى إنه من فرط جمال شجرة ام سمير كنت أقارنها بالأشجار التي زرعتها البعثة اليابانية التي أنشأت دار الأوبرا المصرية الجديدة.. فمن فرط حبي لدار الأوبرا كنت عادةً، في الليالي الممطرة، أذهب مستقلاً مترو الأنفاق إلى الناحية الخلفية من مسرح الأوبرا الكبير، المقام على شكل معبد بوذي.. كنت أذهب إلى حديقة دار الأوبرا من أجل تلك الشجرة اليابانية فقط؛ كي أشاهد أوراقها المبتلة تحت المطر، والضوء الأصفر، وهو يهبط عليها في انسيابية رومانتيكية.. فكنت أشعر بروحي وهي تحلق في السماء محاولاً استرجاع الحركة الثانية من السيمفونية الريفية لبيتهوفن، وطبعًا لم أكن أفيق من هذا الحلم الليلي إلا ورجل الشرطة المخصص لحراسة دار الأوبرا يخبطني على كتفي محذرا من تجاوزي الحد المسموح لي بالزيارة.. وهنا فقط كنت أنتبه إلى أن موعد آخر قطار مترو أنفاق متجه إلى محطة المطرية قد فات.. والنتيجة أنني كنت أتمشى إجباريًّا تحت المطر إلى محطة المطرية، ولكن هذه حكايةأخرى!