السمك الروسي أنقذنا من الموت المحقق

مذكرات عطشجي في السكة الحديد

مصطفى الناغي

اليوم 9 يناير 2021 انفجرت مواسير الصرف التي خلف البلوك الذي اعيش فيه.. وتسرب الماء وبدأت رحلة المعاناة مع السباك.. رحلة من المساومات وحسابات تكلفة مواسير الصرف وخلافه.. ذهبت إلى محل الأدوات الصحية كي أشتري ما طلبه عم “سيد السباك”.. ومحل الأدوات الصحية في شارع المطراوي، على بعد خطوات قليلة من المساكن الشعبية التي أعيش فيها..
أمام المحل؛ وعلى الضفة الأخرى من الشارع تقع كنيسة البروتستانت ببرجها القوطي ذي الزجاج الملون الذي يشع بالضوء في أعياد الكريسماس، وشجرة التين البنغالي وهي تتوسط حديقة الكنيسة والمحاطة بأشجار النخيل والكافور والصنوبر والزيزفون.. هذه الكنيسة التي شيدها الإيطاليون عام (1882)، عادة أحب أن أنظر إليها وأنا واقف أمام محل الأدوات الصحية؛ أنتهز أي فرصه كي أعيد ترتيب جماليات الكنيسة في عقلي.. أحيانًا أجلس مع عم صلاح صاحب محل الأدوات الصحية، أتكلم معه في أي حوار، المهم أن أنظر أو أشبع نظري في هذه القطعة، كنيسة البروتستانت، الفنية النادرة.. لكن في هذا اللقاء القصير بوغتُّ بسؤال عم صلاح عن أخي أحمد، ولا أعرف ما السبب الذي جعلني أكذب على عم صلاح، وأن أقول له: أخي أحمد كويس وبيسلِّم عليك!
لماذا لم أقل لعم صلاح: إن أخي أحمد قد مات منذ ثلاثة أعوام…؟هل لأن أخي أحمد ما يزال يعيش.. معي في ذاكرتي؟ بل يعيش معي يومًا بيوم.. هل لأن تأثير أخي أحمد قد فاق سقف روح الأبوة في ذاتي وفي شخصيتي؟ ماذا فعل أخي أحمد كي يعيش بهذه الصورة في حياتي.. هل لأنه صاحب قصة دامية في الحياة.. هل لأنه أول من علمني حب الموسيقى؟ نعم لقد ربطتني دروس الموسيقى بأخي أحمد.. وما زلت أتذكر جلستي في صالة المنزل، وأنا أستمع إلى الدكتور حسين فوزي، وهو يشرح ويحلل الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.. أو وأنا نائم على السرير وأخي أحمد يشرح لي متتالية فيفالدي على آلة الكمان.. كانت الحجرة مظلمه تمامًا، ولا يوجد حتى بصيص من الضوء، ومقطوعة فيفالدي “ألعاب الماء” والوتريات تتصاعد في تموجات لحنية، وأنا نائم على السرير في الحجرة البحرية ولا صوت يعلو على صوت آلة الكمان..
وقد كانت لحظة فارقة في حياتي، وهي عندما بدأ أخي أحمد يشير في الهواء المظلم للحجرة “انظر إلى هذا العصفور الذي يحاول أن يخرج من القفص؟”.. لم أتخيَّل في حياتي أن يكون هناك انطباع للموسيقى على شكل صورة بصرية.. وهذا بيت القصيد؛ لقد جعلني أخي أحمد أرى الموسيقى على شكل صورة تنبض بالحياة!
وتكرر هذا الأمر؛ عندما أشار في الحركة الرابعة من سيمفونية سترافنسكي “عصفور النار”، عندما أوقف جهاز التسجيل وقال لي “وكأنك ترى نافورة من الماء، والماء يتصاعد في عنف إلى عنان السماء”، وهذا مفتاح شخصية أخي أحمد.

حلم البطيخ النمس
أحاول أيها الأصدقاء أن أتذكر أهم، أو أحد أهم أحلام اليقظة في طفولتي.. كنت جالسًا أنا وأمي وأخي محمود، وقد جاء للتو من جبهة القتال في مدينة الإسماعيلية وجاء ومعه بطيخة من فصيلة “النمس”؛ وهو بطيخ تميل قشرته إلى اللون الأخضر الفاتح.. وشكل البطيخة عمومًا ليس بيضاويًّا كالبطيخ المعتاد، بل يميل إلى الطول.. وهو نوع من البطيخ تشتهر به مدينة الإسماعيلية فقط، وكنت مندهشًا في ذلك اليوم البعيد جدًّا في الذاكرة، كيف احتمل أخي محمود هذه المعاناة كي يحمل بطيخة من مدينة الإسماعيلية إلينا هنا في مدينة المطرية.. كيف احتمل هذا الألم.. وطرق المواصلات الصعبة في ذلك الزمن؛ أقصد الزمن ما بين عامي 1967 و1973؛ وجبهة القتال مشتعلة.. أقصد كيف تمكن أصلاً من أن يأتي إلينا وهو يحمل بطيخة.. كان أخي محمود، يعرف جيدًا أننا لم نتذوق طعم البطيخ منذ أعوام عديدة.. فقد كان الفقر المادي مروعًا؛ إن لم يكن مؤلما.. أتذكر أن أمي قطعت البطيخة تلك، ووضعتها في الصينية الألمنيوم الوحيدة التي كنا نمتلكها، وكنا نضع فيها القُلل، ووضعت فيها البطيخة، طبعًا لم تكن هناك ثلاجة، وغطتها بشاشة من القطن الأبيض، كي تحميها من الذباب، ووضعت الصينية فوق الدولاب الذي كان في حجرة أخواتي البنات؛ أو الحجرة القبلية.. وكان الوقت بعد ساعة العصر مباشرة.. والهواء أصبح باردًا بفعل الرياح الشمالية الغربية التي تأتي من المحيط الأطلنطي، ونحن ننتظر أن تبرد البطيخة النمس قليلاً.. كنا أصلاً في شهر يونيو وكان الطقس حارًا جدًّا.. وكان أخي محمود يحكي عن الحرب، والماء القليل في الصحراء.. وأتذكر ملامح أخي محمود جيدًا؛ كان يلبس البدلة الميري المموهة ذات الخطوط الصفراء والسوداء والكاب الميري.. أعتقد أنها كانت إجازة لمدة 36 ساعة فقط.. وكان يتكلم ببطء شديد؛ ربما كان مرهقًا للغاية، وأمي تستمع إليه بصمت مؤلم.. والبطيخة فوق الدولاب.. وأنا أرى بعين الطفل الشاشة البيضاء وهي تهفهف، أو تتحرك بفعل هواء العصاري أو ما بعد العصاري.. وحقيقة لم أستوعب ما كان يقوله أخي محمود، لكنه كان متألمًا من شيء ما لا أدري ما هو.. ربما كان يتكلم عن هجوم الطيران الإسرائيلي أو عن أصوات دانات المدافع.. كان كل تفكيري منصبًّا على البطيخة لأنني كنت أشاهد البطيخ فقط عند فكهاني يقف بجانب سور الكنيسة الكاثوليكية التي أمام دكان الأدوات الصحية لصاحبه عم صلاح، صديق أخي أحمد.. كان هذا الفكهاني أسمر، ضخم الجثة، ذا فم كبير وكرش كبير، ويلبس العمة واللاسة الصعيدية على الدوام.. وكان هذا الفكهاني يضحك معنا كثيرًا؛ نحن الأطفال، وهو ينادي على البطيخ، وكنت لا ألتفت إليه على الإطلاق، إذ أنني أعرف بالفطرة أن أبي وأمي أو أخوتي لا يملكون المال الكافي لشراء البطيخ، لكنني كنت أتمنى أن أشتري منه، لأنه كان يضع البطيخ على عربة كارُّو، والبطيخ كبير، وذو لون أخضر جميل أحيانًا كنت أشاهد البطيخة وقلبها مفتوح بلونه الأحمر الزاهي.. لكنني كنت أخاف أن اقترب من هذه الفاكهة المحرمة، ولو لخطوات قليلة، أو حتى لنصف المتر، وكنت قد تلقيت من أخي أحمد أول درس أخلاقي في الحياة وهو “مش لازم تحقق كل رغباتك”، لأنه وببساطة كنت أمر على مكتبة الشرق القريبة من قسم شرطة المطرية.. وكنت أبكي أو أتظاهر بالبكاء، حين شاهدت قطارًا لعبة، وظللت ألح عليه كي يشتريها، لكنه فاجأني بتلك المقولة، والتي أصبحت فيما بعد دستور حياتي؛ ليس من المفترض أن أحقق كل رغباتي.. وهو الأمر الذي جعلني أنظر إلى الفقر المادي بعين الرضا، لأنه كان من المعتاد أن يكون هناك قليل من الطعام.. أو من المعتاد ألا أمتلك مالاً.. أو من المعتاد ألا يكون هناك ملابس جديدة في العيد.. أو من المعتاد أن يكون طعام الغداء مكونًا من الخضروات مثل البطاطس أو البسلة أو القلقاس أو الفاصوليا الخضراء أو اللوبيا الخضراء أو السبانخ أو الخبيزة، أو الفول الأخضر الحراتي المطبوخ في الصلصة الحمراء، أو المحشي الكرنب أو القرنبيط أو الملوخية الناشفة، أو الخضراء، أو الفاصوليا البيضاء.. ومن ثَم أصبحت، بالضرورة، نباتيًّا، إذ كانت اللحمة حلم من أحلام الخيال العلمي، فكان ثمنها في ذلك الوقت؛ ما بين الحربين، نحو 67 قرشًا، وكان هذا مبلغًا خياليًّا في ذلك العصر ولكن الأسطول السادس الروسي أخرج الشعب المصري من هذا المأزق المرعب، وبدأ في ضخ سمك الماكريل إلى ميناء الإسكندرية، ومن هنا جاء الاسم الشهير (السمك الروسي)، الذي كان سعره ستة قروش، ومن هنا أُنقذ هذه الأسرة في اللحظات الأخيرة من الموت المحقق.. فقد ذكرت أختي الكبرى؛ سوسن، أنه لولا جوال الأرز، أو “أردب الأرز” الذي كانت تحمله ستي، من جهة الأم، من قريتها، برق العز، إلى منزلنا في كل موسم حصاد، ما كانت هذه الأسرة لتعيش حتى هذه اللحظة.. لماذا؟ ولكن هذه حكاية أخرى!