عم أحمد لولو الذي يصبغ شعره ويكلم القطط

مذكرات عطشجي في السكة الحديد

مصطفى الناغي

اليوم 5 يناير2021، مات عم مصطفي التركي؛ عميد الأسرة التركية التي تعيش بجوارنا في الحي الذي أسكن فيه.. توفي أعز صديق لأخي محمود، والذي كان عضو نقابة عمال مصنع ماجت للبطاريات.. ما زلت أتذكر عم مصطفي التركي جيدًا؛ كان أشيب الرأس مثل أبيه عم حسين التركي.. هذه الأسرة التركية علامة تاريخية ومهمة في مدينة المطرية، ربما لأنها تحمل في داخلها نقطة مهمة في تاريخ حي المطرية، وربما في تاريخ مدينة القاهرة ككل.. وقد كانت تحمل في سلوكياتها كل صفات الجين التركي، وكنت عندما أذهب إليهم في منزلهم، والذي كان فيلا ذات فراندا، أشعر بالزهو والفخر بأن هناك نسلاً تركيًّا يعيش في مدينة المطرية؛ بعيونهم العسلية البراقة، وجمال وجوههم الناصع البياض، والنساء فيهن جمال هضبة الأناضول، والموسيقى التركية تأتي من جهاز كاسيت عبر فراغ كراسي الفراندا، وثمة شجرة جوافة مثمرة..
نظرت طويلاً إلى جسد عم مصطفي التركي في التابوت، وهو ملفوف في الكفن الأبيض.. لم يكن الموت في حياتي فعلاً بسيطًا.. للموت في حياتي قصة مؤلمة ولم يكن- الموت- كلمة فلسفية مجردة؛ بل حقيقة كنت أهرب منها على الدوام.. الأجساد وهي تتقطع تحت عجلات القاطرة.. آهات البشر الأخيرة وهي تنظر إلى الحياة مثل أمل أخير، مثل أمنية أخيرة، ربما تتحقق لوجوه هؤلاء البشر الصفراء وهي في النزع الأخير، وناظر المحطة وهو يحملها في نقالة المحطة الملوثة بالدماء.. بل كنت أشاهد الدم وهو متجلط بفعل الزمن والإهمال.. لقد أصبح الموت البشري أغنية موال حزين نسمعها يوميًّا في حياتنا نحن سائقي القطارات.. وكنا ننظر في وجوة بعضنا في ورادي الليل، وقبل أن نصعد سلالم القاطرات وكأننا نودع بعضنا البعض..

أصدقاؤنا الذين ماتوا في حوادث القطارات لا ننساهم أبدًا.. الموت البشري على القضبان والفلنكات وبين أحجار البازلت كان يجعلني أبكي بكاءً عدميًّا.. أجساد الشباب وهي ممددة أمامي في النفس الأخير لرحلة الحياة كانت تهزني بعنف، وأنا غير قادر على الكلام.. كان يصيبني خرس ما مؤلم وقاسٍ وكابوسي.. والليل هناك؛ ليل يناير القارس، والشجر يعوم في بحر من الظلام التام، وثمة قطرات مطر حزين ورومانسي، لكن للموت سطوة وجبروت.. والأجساد هناك محشورة داخل عربة محطمة تمامًا.. عبارة عن كومة من الورق وكأنك كورتها بيدك.. والأجساد البشرية بداخل هذا الحطام المعدني، وأنا أجري.. وتجري القضبان على الفلنكات وعلى أحجار البازلت المسنونة.. حتى أصل إلى خفير المزلقان، وأنا غير قادر على الكلام.. الخرس الكابوسي أصابني مرة أخرى.. والسيارة هناك وقد أكلتها القاطرة؛ فرمتها تحت أسنانها الحادة.. تحت عجلاتها الحديدية اللامعة مثل سن الموسي.. ووقعت في حلم كابوسي، ولكن الجثث البشرية حقيقية.. والعربة تحت عجلات القاطرة مثل غزال بين فكي أسد متوحش لا يعرف الرحمة.. وجرس المزلقان يرن مثل جرس سيارات موتى الأقباط الكاثوليك.. وأنا أشاهدهم في حي الضاهر عندما كنت صبي حداد، والقضبان تلمع مثل خيوط من فضة، وأنا وحيد للغاية.. وحيد وخائف.. والأجساد البشرية داخل السيارة.. بل وتحت القاطرة.. وثمة رنين جرس يأتي من داخل القاطرة، ولكني متردد للغاية، لم أتمكن من مشاهدة وجوة الجثث.. كنت أخاف الموت.. شاهدت موت أمي وأبي وشاهدت الموت وهو يقترب مني وأنا في كابينة القيادة ضربة حظ مثل نقلة بيدق غير متوقعة على رقعة الشطرنج.. ماذا أفعل الآن وخفير المزلقان ارتبك هو الآخر، وقال إن التليفون لا يعمل.. وأنا لا أشعر بأي شيء نهائيًّا.. لا أشعر حتى بهواء الشهيق والزفير.. أجراس المزلقان تدق.. ترن تلك الرنات الأسطورية، والضوء الأحمر والأزرق يضوي في عينيَّ، والليل بإحساسه الغامض يحتويني بعنف.. ماذا أفعل وجثث الشباب داخل السيارة هناك، وقد حطمتها القاطرة تمامًا، ويتساقط المطر وملابسي وقد أصبحت مبتلة بالكامل، وخفير المزلقان يحاول مع مانفيلا التليفون القديم، ورنَّات الجرس تتضخم بعنف، والضوء الأحمر والأزرق ينبضان مثل نبضات قلب، وأنا أرتعش من هذا البرد القارس، والمطر يزداد عنفًا وثمة ضوء كشاف قطار قادم من الاتجاه المعاكس، وخفير المزلقان يحاول المحاولة الأخيرة..

علاء خالد قال لي “اكتب.. اكتب هذه الألم الذي يكسر قلبك”.. وأحمد حسان قال لي “اكتب.. في الكتابة شفاء”..
ماذا أكتب؟ هل أكتب عن الرؤوس المقطوعة داخل تجويف عجلات القاطرة؟ عن نظرات الأطفال الأخيرة وهم يبتسمون لملاك الموت.. وهذا الحيوان- القاطرة- الأسطوري يأكلهم بين أسنانه.. عجلات القاطرة تأكل البشر والحديد، وأنا مذهول.. هل بسبب لعنة الموت تلك قدمت استقالتي من السكك الحديدية؟

عندما كنت سائق مترو أنفاق، وفي أول طلعة بالمترو قتلت كلبًا، تحت عجلات المترو.. وفي محطة برقاش قتلت قطيعًا من الخرفان.. كانوا أمامي مباشرة وسمعت تكتكة عظامهم والعجلات الحديدية، هل أقول تقطعهم مثل ساطور.. ورأيت وجه الراعي وهو يصرخ، وأنا غير قادر على فعل أي شيء

ضربات القدر كانت تصم أذنيّ مثل موسيقى سيمفونيات بيتهوفن.. مثل بطل فيلم “البرتقالة الآلية”.. وكنت أستمع إلى قصص سائقي القطارات أصحابي، غير مصدق أن الموت هكذا أصبح من أعز أصحابي.. ومن عبث الحياة معي كانت توجد عربة قطار محطمة تمامًا نتيجة لحادثة وقعت بالفعل في محطة البدرشين.. كانت عربة القطار هذه سببًا من أسباب جنون أفندينا..

وفى الليالي المظلمة الطويلة من حياتي أحيانًا كان الأمل يأتي ولو عن طريق المصادفة البحتة.. على سبيل المثال، وأنا أمُّر على المحطات الليلية تأتي إشارة من ناظر محطة بأن “هناك إصلاحات فنية في المحطة القادمة”، عادة نلتزم في هذه الحالة بأن يسير القطار بسرعة 8 كم في الساعة، وهذا معناه أن نسير ببطء شديد، وأطل أنا من نافذة القاطرة، وعمال اللحام يقطعون أحد القضبان الحديدية، أو يلحمون أحد القضبان مما يزيد متعتي البصرية والحسية، وذلك من خلال رؤيتي لمشهد ماكينة اللحام وهي تقطع الحديد الصلب بقوة النيران فيتطاير الشرر الناتج بسبب الاحتكاك العنيف.. كل ذلك والقطار يسير بسرعة 8 كيلو متر، والليل مثل كهف؛ لا توجد أنوار على الإطلاق، اللهم إلا لهب النار.. والعمال يعملون في صمت مقدس، والشرر يتصاعد ويمتد في زخات متتالية على نيازك سريعة الاندفاع في دفقات من نور إلهي وسط صمت الحقول والأشجار.. والشرر ينطلق بقوة بعنف وحشي فأشاهد وجوه العمال المتعبة المعذبة، والطقس شديد البرودة، والقاطرة تسير ببطء صامت ساكن حتى إنه من قوة هذا الصمت أسمع تزييق خشب الفلنكات تحت ثقل العجلات الحديدية.. هذا الصوت الذي أعشقه بعنف، إذ فيه موسيقى خاصة.. أو فيه إحساس سمعي نادر لا يتكرر كثيرًا.. أحيانًا تتباعد نحو السماء، وأحيانًا أخرى تلتحم في شكل دواير أو مستطيلات فتتشكل لوحة سوريالية، أو لوحة من خطوط عبثية مثل لوحات جاكسون بولوك، ولكن الخطوط هنا من نار متوهجة بقبس روحاني يجعلني أتطهر من إثم مجهول لا أعرف ما هو.. والقاطرة ما زالت تسير ببطء شديد، وأنا أنظر إلى هذا الكوكب الشاسع المظلم الساكن سكونًا (الإصحاح الأول من سفر التكوين)، وذاتي وجسدي يذوبان في هذا الشرر المتطاير في عنف.. والقاطرة تسير ببطء أشد فتطفو أشباح وذكريات..
وهذا الألم يعتصرني؛ أعني ذكريات الماضي والليل.. وهناك جسد بشري يتمدد، والقطار من خلفي مثل سلسلة من دود عملاق يتمدد وينحني.. أحيانًا يصدر هذا الشرر المقدس صوتًا مثل لسعة كرباج مثل نواح آلة الترومبيت النحاسية.. فأستيقظ من هذا الحلم المقدس، وتشرق الشمس بنورها المقدس.. وعم أحمد لولو ينادي على القطط والكلاب: تعالي يا لولو.. فتندفع القطط والكلاب نحوه، وتهز ذيولها في حب وسعادة، وهو يعطيها بقايا الفراخ والعيش واللحم.. كانت تلك متعة عم أحمد لولو الوحيدة في الحياة.. وعم أحمد لولو ذو جسد ضخم يشبه تمامًا الكاتب الشهير د. يوسف إدريس؛ بعينيه الزرقاوين وجسده الجرماني وبشرة وجهة البيضاء وشعرة الأسود المصبوغ.. الأمر الذي يجعله مسخة للعطشجية والسائقين؛ فهنا في هذا المجتمع لا يحبون أن يصبغ الرجل شعر رأسه.. وهذا ما جعل من عم أحمد لولو فاكهة المجلس، لكنني لاحظت أن الرجل لا يبالي، فهو طيب القلب، شرح النفس، يتكلم من قلبه، ويعبر عن مشاعره على الدوام في بساطة، فهو من سكان حي مصر الجديدة الراقي، ويزهو بذلك، بإحساسه بأنه متميز طبقيًّا.. فيتحرك بيننا بميزة أنه أرستقراطي ذو سلوك متحضر.. وقد كان بالفعل كذلك؛ بداية من ملابسه المرهفة في ذوقها، نهاية بحبه للحيوانات الأليفة.. كان يأتي في الصباح الباكر بوجبة الإفطار للقطط والكلاب.. وعادة يجلس تحت العنباية ليوزع طعامه بالتساوي بين القطط والكلاب.. ولكن لطبيعته وسلوكه الرومانسي كان يؤثر القطط على الكلاب.. وكان له قط أسود يحبه بشدة، وعادة يحتضنه في حنان.. كان يتكلم مع القط وكأنه إنسان مثله.. ولاحظت أنه يتكلم مع القط عن مشكلاته الخاصة، وعن ابنه المتمرد، وعن زوجته المريضة قعيدة الفراش منذ سنين عديدة.. حتى إنني ذات مرة وجدته يتكلم مع القط الأسود عن كيف يمارس الجنس مع قطة تعيش معه، والمفاجأة أني لاحظت أن القط صديقه يستمع إلى كلماته، أو هكذا تخيلت..
لكن المؤكد أن عم لولو كان يشعر بالوحدة بيننا نحن سائقي وعطشجية القطارات، فهو لا يدخن، ولا يلعب القمار، ولا يدخن الحشيش، ولا يشترك في شبكات تداول الأفلام الجنسية، ومن ثَم لا يتعاطى الخمر أو السياسة، أو حتى يشترك في المناقشات الحامية عن الحياة النقابية، ومع ذلك لم يكن إنسانًا سلبيًّا في الحياة، اذ احتكر عم أحمد لولو صناعة الشنط الجلد لنا نحن العطشجية والسائقين.. وللحقيقة كان ماهرًا جدًا في هذه الصناعة؛ يهتم بنوع الجلد، ويذهب كل أسبوع إلى محلات الجلد في الدرب الاحمر أو الموسكي.. وبرغم طيبة قلبه لكنه كان يصر أن يأخذ حقة النقدي كاملاً، بل يظل يلح على المشترى حتى يأخذ بقية حسابه..
وأحيانًا يبكي وأرى الدموع وهي تترقرق من عينيه الزرقاوين الجميلتين.. يبكي وهو يحكي عن زوجته المريضة، وعن ابنه المستهتر الذي يصادق أبناء حي مصر الجديدة الأغنياء.. وعندما يمسك بقية حسابه تجده يضحك في سعادة، وهو يقول: يا لولو! تعبيرًا عن انتصاره في هذه المعركة التي كان يخوضها بشكل يومي.. ولكن أخطر سلوك في شخصية عم أحمد لولو أنه كان يحب السلطة؛ أعني المهندس، أو الكوماندا، الذي يتحكم في إدارة حركة عمل السائقين والعمال وخلافه، ولا أدري ما سر حبه للسلطة، لأنه وبشكل عملي كان خباصًا؛ أي ينقل ما يدور بين الناس، وربما يكون هذا السلوك الاجتماعي أهم متعة في حياته الشخصية بعد حبه لصديقه القط الأسود.. وبمقارنة شخصية عم أحمد لولو وبين شخصية أفندينا نجد أن الكفة تميل ناحية أفندينا شكلاً وموضوعًا.. ولكن هذه حكاية أخرى!