في علبة معدنية إلى أسوان

إبراهيم عباس

يمكن للسفر أن يوصف بأنه شيئ آخر غير التعب والإرهاق، وألا يصبح قطعة من العذاب
الآن أنت هنا، بأصوات هنا ورائحة هنا ومناظر هنا، وغدًا هناك، بأصوات هناك، ورائحة هناك، ومناظر هناكوما بين هذه وتلك مسافة تطول أو تقصر، تملأ عينك وعقلك، وقلبكفي حال كنت شخصًا سنتمنتاليًابالكثير من المشاهداتفي هذه المسافة، التي قد تمر بالبلاد بأكمله، يحملنا القطار، الحديد الذي يتحرك نحو الجنوب في هذه الرحلة، ثم يعود ويتحرك شمالاًيخترق الأرض، ويشارك  بجسده الحديدي مشاركة  لا تنسى، يسهم بجزء كبير من ذكريات الرحلة، التي لا تشبه نفسها في كل مرة تتكرر فيهاهذه الطريق ليست الطريق نفسها، وهذا النخيل ليس النخيل نفسه، وهذه البيوت ليست نفسها.. ولا أنا كذلك…وفي رحلات “السكة ” لإلتقاط تلك الذبذبة التي نسمعها و تدخل مجراتنا العاطفية في اللاوعي العميق…سنعرف الكثير وهذه قطعة منها كتبها أحد أمهر لاقطي الذبذبات المختفية…وفي طريق حميم بالنسبة له..الطريق إلى أسوان بلده الأصلي..

“يُنظر إلى السفر عامةً على أنه انتقال في المكان، وهذا قليل، فالسفر يعني في آن واحد انتقالًا في المكان والزمان، وفي التراتب الاجتماعي” كلود ليفي شترواس.

من أكثر الذكريات المتعلقة بالسفر إلى الصعيد، غير النصيحة المتوارثة “أنت تستنى القطر… إنما القطر ما بيستناش حد”، وما يعقب هذه الجملة من ساعات طويلة من الملل على رصيف الصعيد، تتعلق صورة أكثر من غيرها برأسي؛ مشهد أبي مرتديًا قميصه وبنطلونه، إلى أن تبدأ مشاهد قرى أسوان في الظهور، بعد أن نعبر إسنا، وينزل من قطارنا بائعو الموز الإسناوي… هنا وكأنها الإشارة؛ في حركة سريعة يقوم أبي  بتبديل لبس ناس مصر، ليعود مرتديًا جلبابه، ومعتمرًا عمامته، وتتغير لهجته من عامية القاهرة إلى صعيدية أسوان، وتبدأ مهمة نقل القفف والكراتين إلى قرب الباب، ثم نؤمر بلطف، أن نشاهد قريتنا حين يتجاوزها القطار وصولًا إلى محطة  التي ننزل فيها.

مشهد بلدنا في عين أبي وأمي، مختلف عما تبحث عنه عيون غريب مثلي، أن أبحث عن الخلاف بين هنا وهناك… ربما، لكن في عيونهما شيء ما أكثر حنانًا، يشاهدون باهتمام محل ميلادهما، ملاعب طفولتهما وذكريات من يدري ماذا كانت.

في الأغلب ينخرط أبي وأمي -رحمهما الله- بعدها في مشاركة الملاحظات عما جدَّ من بناء، أو طول مئذنة، أو حتى زير جديد مضاف إلى أزيار السبيل على مدخل البلد. كانا يقومان بمراجعة وتفتيش وتدقيق سريع عما قد يكون فاتهم من الرحلة السابقة.

 على مر رحلاتي إلى قبلي، وبشكل لا إرادي، كنت أراقب أي سلوك شبيه بذكراي هذي، ولعدم ضياع هذه الذكري، تكرر أمامي مرات آباء مثل أبي، وأغرار صغار مثل ما كُنْت. المشهد يقل مع الزمان، وللطف الله يعود حيًّا كلما أيقنت أنه مات. 

النوم في قطار…عربات وممرات

العلبة المعدنية

هذه المرة ركبنا القطار من محطه الجيزة… وكما نعلم فالجيزة أول الصعيد، ومنها يمنح القطار صكّ الهوية الصعيدية. بعد أقل من نصف الساعة تتغير مشاهد المدينة؛ أولًا يظهر الحزام الملفوف حول كل مدن مصر؛ وتظهر العشوائيات، ومبانٍ حمراء بشبابيك صغيرة مكومة فوق بعضها بعضًا، وشوارع صغيرة تبدو من بعيد مثل العروق، ومحلات تجاريه كالأقزام، ثم يبدأ الريف، النخيل هنا كثير، وبخاصه في المرازيق.

قطار النوم، علبة معدنية داخل علبة معدنية، أبواب مغلقة بعناية، فلا تسمع صوت صرير العجلات أو اصطدام الوصلات ببعض، الأقرب لوصفه هو صوت رجرجة عنيفة.

تعرف من صفير القطار المتقطع أننا نمر بمدينة ما، ويتغير الصوت ليكتم ويرتد على نفسه محصورًا بين كتل البناء.

استغرقت رحلتنا 14 ساعة من الجيزة إلى أسوان، نقف في بعض المحطات ونتجاوز بعضها، قبل أن يتجاوز القطار أي محطة يعلو صراخه ويكون متصلًا، حتى يعبر سالمًا. 

“فيما سبق كان نظام السكة الحديد يتطلب في الخط المفرد أن يخطف السائق والقطار مسرع طوقًا معلقًا في عمود على رصيف المحطة ليقذف به إلى ناظر المحطة التالية، وهكذا دواليك؛ محطة بعد محطة يقذف طوقًا ويخطف طوقًا، ويقتضيه هذا أن يخفف من سرعة القطار قليلًا”… هذا المشهد من وصف، وعلى عهدة، أستاذنا العظيم يحيي حقي. 

محطة أسوان من الخارج، لا ينجو صوت القطارات بداخل المحطة من أصوات الكلاكسات والسيارات المارة وأصوات الأغاني. من أعلى الكوبري العلوي فوق محطة أسوان، يبدو صوت صفير القطارات وخبط العجلات الحديدية مثل النظر من أعلى لشيء واطٍ.

احترس من القطارات...انت في المزلقان

إدفو - أسوان

 

قطار الناس الغلابة، لا شباك ولا باب مغلق، مما يجعل القطار جزءًا من محيطه الصوتي فتسمع كما ترى، ما حولك. ومع أنه أسرع وأرخص لا يفضله ركاب المنطقة في مقابل الميكروباص. أذِّن للمغرب، فسمعناه كأنما هو صدى متكرر لخمس دقائق، وصارت معظم المحطات مظلمة. صوت دخول المحطة يختلف؛ المعتاد أن يدخل القطار مع تقليل سرعته المحطات في جلبة تساعده فيها الأرصفة حول عجلاته ومباني المحطة، فتضخم الصوت، هذا مع الجلبة الإنسانية التي يمكن سماعها لأي محطة.. هذا الصوت غائب هنا.

 في كل توقف، يصعد أو يهبط على الأغلب راكب أو اثنان. وما بعد قرية السراج يحشر القطار بين النيل إلى غربه والجبل إلى شرقه، يقف حائط الشرق مُرددًا كل الأصوات، ولكن الفضاء من غرب يمتص هذا التردد، فيبدو الصوت “صوت خبط العجلات وصرير فواصل العربات مع صافرة القطار” في معركة لشده وجذبه “صوت وصدى صوت ولكنه سريع جدًا تكاد لا تلاحظه.

في رحلة طويلة تستغرق ما يقرب 14 ساعة، وتمتد لتشمل الليل والنهار، تعرف بالإنصات لصوت القطارات، أنه صوت يشبه كائنًا يتغير بالمكان، ويمكنك أن تصوغ عبارات تجعل فيها هذا الصوت حيًّا يتأثر بما حوله؛ ينخفض أحيانًا ويعلو أحيانًا، وأحيانًا يقفز قفزات سريعة كأنه خائف حين يمر على كوبري معدني، أو يكثر التصفير قبل دخول مناطق العمران، وكأنه سعيد ويحيي أهلها”؛ مع أن الغرض طبعًا هو التحذير، لأن هذه المناطق بها كثافات سكانية عالية تتحرك عبر ضفتي السكة”، أما حين ينطلق في الطبيعة بين الحقول يهدأ صوته ويبدو مرتاحًا. أما حين ينحصر القطار بين الجبل والأراضي الزراعية أو النيل يبدو حذرًا قليلًا، فينخفض الصوت وينكتم.