ليلة عاشوراء

قصة

أسامة أبو العطا
الغلاف: مقطع من لوحة حامد ندا

في إحدى قرى مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، في العقد الثاني من النصف الثاني من القرن العشرين، كان هناك إمام لمسجد القرية، وفي ليلة خميس تليها جمعة تصادف يوم عاشوراء كان الإمام يعبر الطريق متجهًا نحو بيته مارًا بغرزة يجلس عليها شذاذ الآفاق من السوقة والرعاع، يدخنون الحشيش الذي قيل والعهدة على الرواة إنه كان من أجود الأصناف، حتي إنه جعل عبده الزيني ذات ليلة بعد أنفاس طويلة وكثيرة أن يذهب تحت بيت حمدي الطحان ويخلع جلبابه ولباسه مناديًا بصوت عالٍ أيقظ الشارع كله، على صبيحة زوجة حمدي أن تخرج له كي يمارسا الحب معًا كما كانا يفعلان قبل أن تتزوج حمدي، الذي نظر من الشباك وتطلَّع إلى ما بين فخذي عبده واغتم .
شذاذ الآفاق والسوقة والرعاع أوصاف أطلقها إمام المسجد على رواد الغرزة، وصار يتناقلها الناس عند العراك معهم أو التلاسن أو التلقيح، مما جعلهم يحملون ضغينة تجاه الإمام، وخصوصًا عبده الذي كان يجل الإمام والذي كان يمر الآن فنهض عبده الزيني واستوقفه، وحكى له أنهم يسعون للتوبة ويريدون من يأخذ بأيديهم نحو طريق الهداية بالوعظ والإرشاد، مما أثلج صدر الإمام وأسعده.
في بيت عبده الزيني جلس الإمام في وسط شذاذ الآفاق والسوقة والرعاع الباحثين عن التوبة الراغبين أن يأخذ الإمام بأيديهم نحو الهداية ودارت أكواب الشاي والقهوة وحجر حشيش وراء حجر، وسِنة أفيون وراء سِنة، والإمام منخرط معهم بل إنه أبلى بلاء حسنًا حين دخل في تحدٍ مع عريان القط أيهما يكتم الدخان في جوفه أطول من الآخر. واستمرت الجلسة حتى الضحى، وكان على الإمام أن يذهب للاستعداد لصلاة الجمعة، فنهض وهم معه، وفي الطريق إلى المسجد، كان يسبقهم وهم خلفه في صف مطأطئي الرؤوس، مما جعل الحاج خالد الذي كان في طريقه للمسجد يهمس لمن معه أن الإمام استطاع هداية هؤلاء الأنجاس كما وصفهم.
على المنبر وقف الإمام وتطلع إلى المصلين الذين كانوا يملؤون المسجد بينهم شذاذ الآفاق والسوقة والرعاع ينتظرون نتيجة ما فعلوا وما خططوا له. وبدأ الإمام خطبته بالقول “ليلة عاشوراء” ثم أدرك أن رأسه فارغ لا يوجد به ما يقوله فكرر “ليلة عاشوراء”، ولم يتذكر فكرر “ليلة عاشوراء”، وظل يكررها والمصلون ينتظرون متطلعين له في دهشة، فيما عدا شذاذ الآفاق والسوقة والرعاع الذين أدركوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من النجاح، ولما ملَّ الإمام التكرار ويأس من التذكر صمت برهة وقال “ليلة عاشوراء ليلة حلوة يا ولاد، وأقم الصلاة يا حسن يا وسخ”. ونزل عن المنبر.
بذل الإمام مجهودًا كبيرًا كي يبقي متزنًا ولا يسقط وهو ينزل درجات سلم المنبر مستندًا إلى الدرابزين، حتي وصل إلى الصف الأول من المصلين في صحن المسجد، فاقترب من الحاج خالد وهمس في أذنه أن يؤم هو الصلاة لأنه متعب، فتقدم الحاج خالد مسرعًا وحلَّ محل الإمام في الصف الأول، متجاورًا مع شذاذ الآفاق والسوقة والرعاع الذين كانوا يتطلعون نحوه كاتمين الضحكات، وفي السجدة الأولى من الركعة الأولى أحس الإمام أن روحه تنخلع، فالأنفاس كانت كثيرة وطويلة ومتلاحقة، وفكر أنه سيموت الآن وسيقابل الله على هذا النحو وتلك الهيئة فاغتم. فلما انقضت الصلاة نهض وغادر المسجد، وفي البيت خلع العمامة عن رأسه ووضعها جانبًا وتمدد على السرير وغط في نوم عميق.
في عيادة الطبيب بالمركز تمددت فكيهة ابنة عبده الزيني، ومد الطبيب سماعته يتحسس بطنها المكشوف، وعبده وزوجته يقفان في ركن بالعيادة في حالة من الأسى على فكيهة التي ارتفعت درجة حرارتها فجأة وصارت تهذي عقب صلاة الجمعة مباشرة، فحملها عبده مع زوجته إلى المركز في عربة حمدي الطحان الكارو التي يجرها بغل على طريق ترابي يربط بين القرية والمركز، متناسين ما بينهما من قبل.
أنهى الطبيب الكشف على فكيهة وتحدث لعبده أنها تعاني من الدوستناريا، وأن عليها أن تغسل الثمار قبل أكلها وأن تنتعل حذاءً في قدميها ولا تخطو حافية، وأن تشرب ماءً نظيفًا لا من الترعة، وأعطاه روشتة فيها أدوية. وفكر عبده وهو يتمدد إلى جوار ابنته أن الله عاقبه في أعز ما لديه من جراء ما فعله بالإمام، ودمعت عيناه، ونام وهو يفكر في ذلك.
استقيظ الإمام من النوم وجاءته زوجته بالطعام، فأكل كما لم يأكل من قبل واسترد لياقته وأحس نفسه مبتهجًا، وتطلَّع إلى زوجته، وأحس برغبة فيها فغازلها متخليًا عن وقاره الذي اعتادته منه حين يلتقي بها فأسعدها ذلك، وأقبلت عليه وقد تحررت من خوفها لما وجدته قد تخلي عن وقاره، فأذقته من أنوثتها ما جعله يحلق في الآفاق، لكن سرعان ما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فتراءت له صورته مسطولاً يهذي فوق المنبر فانتابته مشاعر الاحتقار لذاته جراء ما ألحق بمقام الإمامة.
مر السبت والأحد والاثنين والثلاثاء ولم تتحسن حالة فكيهة، فانتاب عبده الذعر وناجى ربه مقسمًا أنه لو نجت فكيهة مما ألمَّ بها سيتوقف عما يفعله من معاص، وفي يوم الأربعاء استردت فكيهة جزءًا لا بأس به من عافيتها فاطمئن عبده، وخرج من الدار وقطع الشوارع حتى وصل بيت الإمام وطرق الباب، ففتح الإمام وتفاجأ بعبده، فأشاح بوجهه عنه، فبادره عبده بالقول إن الله عاقبه وأمرض ابنته لكنه قدر ولطف، وأنه قرر التوبة وجاء يشهده على ذلك، ثم دسَّ يده في جيبه وأخرج قطعة من الحشيش وقطعة من الأفيون ودسهما في يد الإمام، واستطرد قائلًا إنه لن يقترب من هذا المنكر مرة أخرى، وهذا ما لديه وطلب الدعاء  أن يُتم الله شفاء ابنته وغادر.

في اليوم التالي وكان الجمعة صعد الإمام المنبر وتطلع للمصلين وتنحنح ثم قال “أيها الإخوة المؤمنون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، فرد المصلون التحية وانتبهوا منتظرين انطلاق الإمام في الخطبة وطال انتظارهم، ولم ينطلق، وحاول جاهدًا أن يتذكر ما كان يود قوله لكنه لم يتذكر، وطالت المحاولات وطال الانتظار، وكان عبده بين المصلين يتطلع نحو الإمام.

القاهرة 

٣ أغسطس ٢٠٢٢