آن كارسون: في مديح الخطأ

مختارات

وائل عشري

آن كارسون  Anne Carsonشاعرة، وناثرة، وكاتبة مقالات، ومترجمة عن اليونانية القديمة، وباحثة في مجال الكلاسيكيات، وأكاديمية، وأستاذة جامعية حاضرت في جامعات عديدة بالولايات المتحدة وكندا. يمثل شعرها إنجازًا متفردًا، وصوتًا خاصًا في الشعر المعاصر. يشمل مجمل إنتاجها قصائد طويلة، قصائد قصيرة، ترجمات، رواية شعرية، محاضرات غنائية، أحاديث قصيرة، شذرات، دراسات، مقال تخيُّلي في 29 تانجو، إلخ.  

وُلِدت كارسون عام 1950 في تورنتو، كندا، ودرست الكلاسيكيات في جامعة تورنتو، ثم اليونانية القديمة في جامعة سان أندروز في أسكوتلندا. حصلت عام 1981 على درجة الدكتوراه عن أطروحة تتناول الحب والرغبة عند اليونان، بعنوان “أنا أكره وأحب إذن أنا موجود” Odi et Amo Ergo Sum. ستصبح هذه الأطروحة أول كتبها (وواحدًا من أهمها) حين يُنشر بعنوان: “إيروس حلو مر: مقال” Eros Bittersweet: An Essay (1986).  

تمزج كارسون جماليات المقال، والشعر، وقصيدة النثر، والقص، والنقد، والترجمة، والتحليل الأكاديمي، وتتجاوز أعمالها الأشكال الكتابية التقليدية، المتعارف عليها. تفعل هذا على مستوى النص الواحد أحيانًا، وكذلك على مستوى الكتاب. على سبيل المثال، يتضمن “رجال في ساعات الفراغ” Men in the Off Hours (2000) قصائد قصيرة، مقالات شعرية، نثرًا، حوارات، سيناريوهات، وترجمات لسافو، وكاتولوس، وألكمان، وهسيودوس، بين آخرين. كما يظهر هذا التنوع على مستوى الكتاب كمنتج فني في ذاته، إذ أخذت كتبها هيئات عديدة: كتبًا، كتيبات، منشورات، دفاتر، كراسات. ويتكون “كتابها” “طفو” Float (2016) من 22 كراسًا يضمها صندوق شفاف، ويمكن قراءتها بأي ترتيب يراه القارئ.    

إضافة إلى إصداراتها الهجينة، تشتهر كارسون بترجماتها عن اليونانية؛ خاصة ترجمتها لشعر سافو، ولأعمال سوفوكليس (أنتيجونا، إلكترا)؛ وإسخيلوس (أجاممنون)؛ ويوريبيديس (هيكوبيه، الباخوسيات، إفيجينيا في تاوريس، إلخ).

وكثيرًا ما تتسم ترجمات كارسون بحوار مفتوح مع النص الكلاسيكي، وبتجاوز للأزمنة يضع النص القديم في سياق معاصر. على سبيل المثال، تتضمن ترجمتها لمسرحية “أنتيجونا”، المنشورة بعنوان “أنتيجونيك”، شخصية جديدة، هو “نيك” الذي أضيف اسمه إلى العنوان. يلعب نيك “دورًا صامتًا. [إنه دائمًا على المسرح، يقيس الأشياء]”. وهذه هي سطورها الافتتاحية: 

[تدخل أنتيجونا وإسمينا] 

أنتيجونا: نبدأ في الظلام

والميلاد هو موتنا 

إسمينا: من قال هذا

أنتيجونا: هيجل 

إسمينا: يبدو أقرب إلى بيكيت

أنتيجونا: كان يعيد صياغة هيجل

إسمينا: لا أظن

أنتيجونا: بصرف النظر عمّن يكون القائل، بصرف النظر عمّن نكون، يا أختي العزيزة

منذ ميلادنا من شرور أوديب 

هل ثمة مرارة أو ألم أو غثيان أو عار أو صدمة أخلاقية

نجونا منها!

والآن هذا المرسوم

هل سمعتِ بالمرسوم

*

تأخذ القصائد المنشورة هنا شكل “الحديث القصير”، أو “الكلمة الموجزة”. في هذا الشكل، الذي ظهر للمرة الأولى في ديوانها الثاني “أحاديث قصيرة” Short Talks (1992)، عادة ما تتناول كارسون موضوعًا، أو شخصية، تناولًا موجزًا، تأمليًّا، هجينًا، يجاور بين ما هو فكري، وبحثي، وأكاديمي، وشعري، وجاد، وتهكمي. تحكي كارسون أنها بدأت التفكير في هذا الشكل، وتأليفه، حين كانت تحاضر في جامعة برنستون، لكسر أجواء التجهم في قاعات الدرس داخل الجامعة العريقة. كان الحديث القصير حينها يتكون من صوت يخاطب الطلاب، وعبارة أو كلمة يردون بها على الصوت، على نحو يكسر صرامة الانفصال بين المحاضر(ة) وجمهور الحضور، ويلطف قليلًا من أجواء الحماس الأكاديمي الحاد. 

تطور الشكل لاحقًا كي يصبح، بتعبير إحدى المراجعات، “سلسلة من التأملات الشعرية، المنسوجة على نحو بالغ التعقيد، عن إيماءات صغيرة، ولمحات من قصص، وأمزجة متنوعة، رهيفة”. 

إضافة إلى إصدار طبعة ثانية، تضم بعض الإضافات، من “أحاديث قصيرة” عام 2015، نشرت كارسون في السنوات الأخيرة “أحاديث قصيرة” جديدة، أو غيَّرت عناوين بعض قصائدها القديمة، وأعادت نشرها كأحاديث قصيرة. 

يبدو أن كارسون تعيد ابتكار قصيدة بداياتها. 

*

الرسوم المصاحبة هي من أعمال بيانكا ستون Bianca Stone، ومأخوذة عن طبعة بخط اليد لمسرحيةأنتيجونيك، صدرت عام 2012.

مقدمة

مبكرًا ذات صباح كانت الكلمات مفقودة. قبل ذلك، الكلمات لم تكن. الحقائق كانت، الوجوه كانت. في قصة جيدة، يخبرنا أرسطو، كل ما يحدث يدفعه شيء آخر. ثلاث نساء عجائز كن ينحنين في الحقل. أي نفع في مساءلتنا؟ قلن. حسنًا، سرعان ما صار واضحًا أنهن يعرفن كل ما يمكن معرفته عن الحقول التي يكسوها الثلج والبراعم الزرقاء والخضراء والنبات المسمَّى “جرأة”، والذي يخلط الشعراء بينه وبين زهور البنفسج. شرعتُ في تدوين كل ما كان يُقال. العلامات تبني تدريجيًّا مثالًا على الطبيعة، دون ضجر قصة. أؤكد على هذا. سوف أفعل أي شيء كي أتجنَّب الضجر. إنها مهمة عمر كامل. ليس بمقدوركِ أبدًا أن تعرفي ما يكفي، أن تعملي بما يكفي، أن تستخدمي مصادر الأفعال وأسماء الفاعل بما يكفي من الغرابة، أن تعوقي الحركة بما يكفي من القسوة، أن تغادري العقل بما يكفي من السرعة.

حديث قصير عن أوفيد

أراه هناك في ليلة مثل هذه لكنها منعشة، القمر يهب عبر شوارع سوداء. يتعشَّى ويمشي عائدًا إلى حجرته. الراديو على الأرض. مؤشره الأخضر البراق يدوي برقة. يجلس إلى الطاولة؛ الناس في المنفى يكتبون رسائل كثيرة جدًّا. يبكي أوفيد الآن. كل ليلة نحو هذا الوقت يرتدي الحزن مثل رداء ويواصل الكتابة. في أوقات فراغه يعلِّم نفسه اللغة المحلية (الجيتية) كي يؤلف بها قصيدة ملحمية لن يقرأها أحدٌ أبدًا.

حديث قصير عن بارمينيدس

نفتخر بأننا متحضرون. لكن ماذا إن كانت أسماء الأشياء مختلفة تمامًا؟ إيطاليا، على سبيل المثال. لدي صديق اسمه أندرياس، وهو إيطالي. عاش في الأرجنتين وكذلك في إنجلترا، وفي كوستاريكا أيضًا لبعض الوقت. حيثما يعيش، يدعو الناس إلى العشاء عنده. يتطلب الأمر الكثير من العمل. باستا خرشوف. خوخ. ابتسامته العميقة لا تتلاشى أبدًا. ماذا إن اتضح أن اسم إيطاليا هو برزوي – هل سيستمر أندرياس في السفر عبر العالم مثل القمرة* الهائمة بنورها المستعار؟ أخشى أننا فشلنا في فهم ما كان يقوله أو أسبابه. وفي كل مرة قال فيها “مدن”، ماذا إن كان يقصد “وهم”، على سبيل المثال؟

……

* احتفظت هنا بتأنيث القمر في النسخة الإنجليزية.

حديث قصير عن الكبرى والصغرى

الأشياء الكبرى هي الريح، الشر، حصان مقاتل جيد، حروف الجر، حب لا ينضب، الطريقة التي يختار بها الناس ملكهم. الأشياء الصغرى تشمل التراب، أسماء مذاهب الفلسفة، المزاج وألَّا يكون لديك مزاج، الوقت الصحيح. إجمالًا، توجد أشياء كبرى أكثر من الأشياء الصغرى، ورغم هذا توجد أشياء صغرى أكثر مما كتبت هنا، لكن من المحبط وضع قائمة بها. حين أفكِّر فيك تقرأ هذا، لا أريد لك أن تؤخذ أسيرًا، يفصلك سلك شائك مُبطَّن بالزجاج عن حياتك ذاتها، مثل إلكترا من نوع ما. 

حديث قصير عن سعادة أن تكون محبوبًا

يومًا بعد يوم أفكِّر فيك ما أن أصحو. شخص ما علَّق صرخات الطيور في الهواء مثل جواهر. 

حديث قصير عن مبدأ المتعة

يجعلني الجمال يائسة. لم أعد أهتم بالسبب فقط أريد أن أبتعد. حين أنظر إلى مدينة باريس أتوق إلى لف ساقيَّ حولها. حين أشاهدك ترقص ثمة شسوع بلا قلب مثل بحَّار في بحر هادئ كالموت. رغبات دائرية مثل خوخ تُزهر فيَّ طيلة الليل. لم أعد أجمع ما يتساقط.  

حديث قصير عن هيجل

ذلك كان العام الذي مات فيه أخي؛ كنت أعيش في الشمال ولدي القليل من الأصدقاء أو كانوا جميعًا قد سافروا. في يوم الكريسماس كنت أجلس على مُتَّكأي، أقرأ شيئًا عن هيجل. لتسامحني إن كنت شخصًا يعرف الكثير عن أعمال هيجل أو يفهمها، لست كذلك وسأعيد الصياغة بشكل سيئ، لكنني فهمت أنه يقول إنه ضاق بالنقد الشائع لنثره الرديء وأنه يدَّعِي أن النحو التقليدي، بثنائية الفعل والفاعل الخرقاء، يتعارض مع ما دعاه “التأمل”. والتأمل هو عمل الفلسفة الحق. التأمل هو الجهد المبذول لإدراك الواقع في كليته التفاعلية. إن وظيفة جملة مثل “العقل هو الروح” (قال هيجل)، ليست التأكيد على حقيقة، بل وضع العقل جنبًا إلى جنب مع الروح والسماح لمعانيهما أن تختلط برقة في التأمل. شعرتُ بفرح غامر من فكرة فضاء فلسفي حيث تسري الكلمات في إعادة تعريف رقيق متبادل لأحدها الآخر، لكنني كنت، في الوقت نفسه، وحيدة على نحو بائس وقد ماتت عائلتي بأكملها وها هو الكريسماس قد أتى، لهذا ارتديت حذاءً طويلًا ومعطفًا كبيرًا وخرجت كي أمارس الوقوف على الجليد. لم أفعل ذلك منذ الطفولة! لقد نسيت كم هو مذهل. ذهبت إلى منتصف غابة. أشجار التنوب، مُعلِّمات ذلك، في كل مكان. عشرون درجة تحت الصفر في الريح لكن داخل الأشجار لا توجد ريح. يستخلص العالم نفسه طبقة بعد طبقة. أصوات الخارج، مثل مرور السيارات وجرف الثلج، تتلاشى. تصير أصوات الداخل مسموعة، شقوق، تنهدات، مداعبات، أغصان، أنفاس طيور، أظافر قدم سنجاب. تتحرك أشجار التنوب بضخامة. الأبيض له استدارات تامة الكمال. الأبيض مذهول بذاته. هبَّات من ضباب الجليد وبضعة أشياء ذهبية تطفو إلى أعلى. تُكدِّس الظلال ثباتها على امتداد الثلج باهتزاز ظلال أخرى تتحرك فوقها بالعرض، ظل فوق ظل، بسرعات دقيقة. الجو بارد جدًّا، وحينها يبدأ ذلك، أيضًا، في استخلاص نفسه، يرتجف الجسد على سطحه، لكن الجوهر ساخن، ومن الممكن فصل السطح، والانسحاب إلى الجوهر، حيث تتدفق سكينة خلابة، خلابة إلى حد أنني لا أتحرَّج من استخدام كلمة “خلابة”، وهذه ليست سكينة انفصال عن الحواس، بل سكينة غامرة من نظر، وإنصات، وشعور، في جوهر الثلج ذاته، في جوهر عناية الثلج ذاته. ليس لهذا صلة بهيجل ولم يكن لتعجبه الجمل التقليدية الخرقاء التي حاولت من خلالها أن أتحدث عن الأمر، لكن أظن، إن لم أكن أجرب في ذلك الكريسماس المزاج المحدد لحنق هيجل النحوي، أنني لم أكن لأخرج قط كي أقف في الجليد، أو أبقى كي أتأمله، أو أصبر على الجلوس وتسجيل التأمل لنفسي كما لو كانت هذه طريقة وجيهة لقضاء ما بعد ظهيرة، طريقة معقولة لتغيير رعب العطلة الجليدي إلى عودة من نوع ما. كريسماس سعيد من هيجل.

حديث قصير عن هوميروس وجون آشبري

في الكتاب الرابع والعشرين من أوديسة هوميروس تهبط أرواح الخُطَّاب جميعًا إلى هاديس. يقودهم هيرميس، الذي يهذي مثل الخفافيش، وهو يجتاز بهم عددًا من معالم العالم السفلي، صخرة لوكيديا البيضاء، إلخ، وفي طريقهم، يمرون بالـ δῆμον ὀνείρων، التي يتركها هوميروس دون وصف أو تفسير. تعني Δῆμον “شعبًا، سكانًا، أو بلدًا.” تعني Όνείρων “حُلمًا”. ديموغرافيا من أحلام. صديقي ستانلي لومباردو، المترجم، يترجمها إلى “بلدية* الأحلام”. لكن كيف لذلك أن يعمل؟ هل هي ملف كبير، فهرس لكل الأحلام، منتظرة في ترتيب أبجدي كي تمضي لتظهر داخل رأسٍ ما في أثناء الليل؟ أم واقفة على راحتها مع مشروبات ونوادر؟ أم لضجرها الشديد من إعطاء معنى تستلقي في أكوام على الأرض؟ هل لديها متجر للهدايا؟ هل تبيع كُتبًا لأدورنو؟ هل هناك فصائل وعداوات وصف من المقاعد مثلما في اختبارات الممثلين؟ رائحة عرق؟ إنهاك ودموع؟ أم إنها هانئة، وراء المعنى، حافية الأقدام، تنظمها أجراس رقيقة؟ هل عليها أن تتمرن طيلة الوقت كي تحتفظ بلياقتها الحلمية أم أنها في درجة الكمال؟ هل هناك أشجار أحلام كي تظللها، وصبيان أحلام صغار يتسلقونها ويجلسون في هدوء بينما يبحث الآخرون عنهم ويفقدون الأمل تدريجيًّا؟ هل تمتلئ شوارع أحلامهم بغوغاء يمرقون فوق الرصيف بسرعة وبطء في آن، وكلٌ محفوظ بإحكام في غشاء خاص له صفاء وكثافة وعمومية الموت؟ إن كانت هناك كلاب في الأحلام هل تحتاج إلى تمشيات؟ إن كان فرويد موجودًا (“أعرف أني تأخرت!”) هل هو متباعد أم يستمتع؟ على الطريق عند الكوخ الصيفي لصديقي ستانلي لومباردو، توجد مزرعة ترعى فيها الإيمو واللاما. على السور، ثمة لافتة تخبرنا أن “اللاما تهمهم لصغارها.” لا تقلقوا، تقول اللافتة ضمنًا، لا بأس بالهمهمة. هل يصدر عن ديموغرافيا الأحلام صوت يثير القلق؟ الإيمو في مظهرها كائنات مقدامة ومقتحمة، معظمها جذع. اللاما جليلة الهيئة، تحيط بها أجواء كوميديا عميقة، وحجمها أكبر مما تبدو. “إن صدمتِ واحدة منها، يمكنكِ أن تقولي وداعًا لسيارتكِ،” علَّق ستانلي لومباردو، المترجم. أخبرني أيضًا أن اللاما لا تتوقف أبدًا عن تحريك أذنها حتى في أثناء النوم. إن كانت تتوقف عن تحريكها حين تكون نائمة داخل حلم هو سؤال سيتم تناوله في حديث قصير قادم عن ستانلي لومباردو، إذ آمل أن أقارن ستانلي لومباردو بجون آشبري كشخصية تميل إلى المرح الخالي من الهم، تقريبًا في أي موقف. منذ نحو عام حضرت حوارًا كان جون آشبري موجودًا فيه عبر سكايب لأنه كان قد قارب التسعين من عمره وكان متعبًا. كانت المحاورتان خائفتين منه قليلًا. تحسستا طريقًا لمقاربة الحوار. ذكرت إحداهما كتابًا، بعنوان “الضوء”، اِدَّعَت أن جون آشبري كتبه. أنكر آشبري ذلك. أصرت. لديها الكتاب في البيت على رفوف كتبها. في النهاية قررا أنه لا بد كان عددًا من مجلة آرت نيوز يتناول هذه التيمة. “إذن، جون، هل يمكنك أن تقول شيئًا عن ذلك؟” سألت المحاورة الأخرى، وهو ما رد عليه آشبري، بعد صمت طويل جدًّا، قائلًا، “الضوء. ماذا كنا لنفعل دونه؟” 

…….

*الكلمة المستخدمة deme هي وحدة من وحدات التقسيم الإداري في اليونان القديم.

 

           

حديث قصير عن كافكا عن هولدرلن

“لا أستطيع أن أُبقي أحلامي مستقيمة” بهذه الشكوى قصد كافكا، أحتفظ بها في خط مستقيم من البدء إلى المنتهى. كانت أحلامه تميل إلى الانحراف مرتدة على نفسها، حلمه عن هولدرلن على سبيل المثال. حلم كافكا أن هولدرلن اشتعلت فيه النار. “أخيرًا بشكل ما اشتعلت فيك النار” بدأ كافكا في الضرب على النار بمعطف قديم. الآن يبدأ الانحراف. “بدلًا عن ذلك كنت أنا من اشتعلت فيه النار.” هنا يتصادم الانحراف مع ذاته. “وهو أنا من كان يضرب على النار بمعطف.” في النهاية ينحسر الانحراف في انعدام أمل منطقي، لكنه عُصَّابيّ أيضًا. “لكن الضرب على النار لم يفيد، بل أكد فقط خوفي القديم أن مثل هذه الأشياء لا تخمد نارًا”. أما عني، فأنا أجد المعكوسات* كئيبة – كيف تتقدم إلى الأمام كأنما لتكشف عن حكمة ما ثم ها نحن هناك نرتعد مرة أخرى في مؤخرة الكهف. وألم يكن كافكا أيضًا من حلم بالسباحة عبر أوروبا مع هولدرلن نهرًا بعد نهر؟ هكذا ينطلقا، لكن سرعان ما يبدأ التفكير. “أستطيع أن أسبح مثل الآخرين إلَّا أن لدي ذاكرة أفضل من الآخرين، ولم أنس عدم مقدرتي السابقة على السباحة. وبما أنني لم أنسها، فإن قدرتي على السباحة لا جدوى منها، ولا أستطيع أن أسبح برغم كل شيء.” أرأيت ذلك الانحراف والانهيار. مزاج “برغم كل شيء” الذي يمسك فيه بالكائن الصغير بين إصبعين وينزع أجنحته. 

أما عني، فأنا لا أحلم على الإطلاق كل هذه الليالي.     

…..

* المعكوسات Palindromes هي الكلمات أو العبارات التي تُقرأ طردًا وعكسًا.

حديث قصير عمَّا أفكِّر فيه أكثر من أي شيء آخر

الخطأ. 

ومشاعره. 

على شفا الخطأ هو وضع خوف. 

في منتصف الخطأ هو حالة من الحماقة والهزيمة. 

إدراك أنكِ ارتكبتِ خطأً يجلب العار والندم. 

لكن، هل هذا صحيح؟ 

 

لننظر في هذا الأمر. 

يعتبر كثير من الناس بمن فيهم أرسطو أن الخطأ

حدث عقلي قَيِّم، ومثير للاهتمام. 

في مناقشته للمجاز في “الخطابة” 

يقول أرسطو إنه توجد ثلاثة أنواع من الكلمات. 

غريبة، وعادية، ومجازية.

 

“الكلمات الغريبة ببساطة تُحيِّرنا؛ 

الكلمات العادية تنقل ما نعرفه بالفعل؛ 

إنه عبر المجاز يمكننا أن نمسك بشيء جديد وطازج” 

(الخطابة، 1410ب، 10-13). 

مما تتكون جدَّة المجاز؟ 

يقول أرسطو إن المجاز يجعل العقل يستشعر ذاته

 

في فعل ارتكاب الغلط. 

يتصور أرسطو العقل يتحرك على امتداد سطح مستوٍ 

من لغة عادية 

حينما فجأة 

ينكسر ذلك السطح أو يتعقد. 

ينشأ عدم التوقع. 

 

في البداية، يبدو المجاز غريبًا، أو متناقضًا، أو خاطئًا. 

ثم يصير معقولًا. 

وفي هذه اللحظة، طبقًا لأرسطو، 

يلتفت العقل إلى ذاته، ويقول: 

“كم هو صحيح، ورغم هذا أخطأته!” 

من أغلاط المجاز الحقيقية يمكن أن نتعلم درسًا. 

 

ليس الأمر فقط أن الأشياء مختلفة عمَّا تبدو، 

ولهذا نخطئها، 

بل أن فعل الخطأ هذا ذو قيمة. 

تشبثوا به، يقول أرسطو،

ثمة الكثير الذي يمكن رؤيته واستشعاره ها هنا. 

تُعلِّم المجازات العقل 

 

أن يستمتع بالخطأ 

وأن يتعلم 

من التجاور بين الصواب والخطأ.  

ثمة حكمة صينية تقول، 

الفرشاة ليس بوسعها أن تكتب حرفين بضربة واحدة. 

غير أن 

 

ذلك هو تحديدًا ما تفعله غلطة جيدة. 

ها هو مثال. 

إنها شذرة من شاعر غنائي يوناني قديم 

تتضمن خطأً في الحساب. 

لا يبدو أن الشاعر يعرف 

أن 2 + 2 = 4. 

 

شذرة ألكمان رقم 20: 

[؟] صنع ثلاثة مواسم، الصيف

والشتاء والخريف ثالثًا 

ورابعًا الربيع حين 

يكون ازدهار لكن أكل ما يكفي 

لا يكون. 

 

عاش ألكمان في أسبرطة في القرن السابع قبل الميلاد 

حينها كانت أسبرطة بلدًا فقيرًا 

ومن غير المحتمل 

أن يكون ألكمان قد عاش حياة ثرية أو جيدة التغذية هناك. 

تُمثِّل هذه الحقيقة خلفية ملاحظاته 

التي تنتهي بالجوع. 

 

دائمًا ما يبدو الجوع 

مثل غلطة. 

يجعلنا ألكمان نشعر بهذه الغلطة 

معه

باستخدام فعَّال للخطأ الحسابي.

بالنسبة لشاعر أسبرطي فقير 

 

لم يتبق شيء في خزانته 

عند نهاية الشتاء – 

يأتي الربيع

مثل خاطر مفاجئ لاقتصاد الطبيعة،

رابعًا في سلسلة من ثلاثة، 

فيخل بتوازن حسابه 

 

ويمد بيته الشعري إلى ما يليه. 

تنقطع قصيدة ألكمان في منتصف نبرة وزن أيامبي 

دون تفسير 

من أين أتى الربيع

أو لم لا تساعدنا الأرقام 

في السيطرة على الواقع بشكل أفضل. 

 

ثمة أشياء ثلاثة تعجبني في قصيدة ألكمان. 

أولًا أنها صغيرة، 

خفيفة، 

ومقتصدة بشكل أكثر من كامل. 

ثانيًا أنه يبدو أنها توحي بألوان مثل الأخضر الفاتح 

دون أن تسميها على الإطلاق. 

 

ثالثًا أنها تتمكن من طرح 

بعض الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى 

(مثل من صنع العالم) 

دون تحليل مباشر. 

لاحظوا أن الفعل “صنع” في البيت الأول

ليس له فاعل: [؟]

 

من غير المعتاد في اليونانية 

ألَّا يكون لفعل فاعل، إنها في الحقيقة 

غلطة نحوية 

سيخبرك فقيه اللغة الصارم 

أن هذه الغلطة مجرد حادثة من حوادث النقل، 

أن القصيدة كما هي لدينا

 

هي قطعًا شذرة مقتطعة من 

نص أطول 

وأن ألكمان من شبه المؤكد أنه 

سمَّى مُحدث الخلق

في الأبيات التي تسبق ما لدينا هنا. 

طيب، ربما يكون الأمر كذلك. 

 

لكن كما تعرفون فإن الهدف الرئيسي لفقه اللغة 

هو اختصار كل متعة نصية

في حادثة من حوادث التاريخ. 

ثم أني لا أرتاح لأي ادعاء بمعرفة محددة 

لما يقصد شاعر أن يقول. 

دعونا إذن نترك علامة الاستفهام هناك 

 

في بداية القصيدة 

ونُعجب بشجاعة ألكمان 

في مواجهته لما تحتويه.

الشيء الرابع الذي يعجبني 

في قصيدة ألكمان 

هو الانطباع الذي تعطيه 

 

بإفشاء الحقيقة على الرغم من نفسها. 

كم من شاعر يطمح 

إلى نبرة الوضوح غير المتعمد هذه

لكن قليلين بلغوها ببساطة ألكمان الشديدة. 

بساطته زائفة بالطبع. 

ألكمان ليس بسيطًا على الإطلاق، 

 

إنه مبتدع ماهر – 

أو ما كان أرسطو ليدعوه “مُحاكٍ” 

للواقع. 

المحاكاة (مايميسيز باليونانية) 

هي المصطلح العام، لدى أرسطو، لأخطاء الشعر الحقيقية.

ما أحبه في هذا المصطلح 

 

هو اليسر الذي يقبل به 

أن ما نتعامل معه حين نفعل الشعر هو الخطأ، 

الخلق القصدي للخطأ، 

الكسر المتعمد الذي تسببه الأغلاط وتعقيدها  

الذي قد ينشأ عنه

عدم التوقع. 

 

هكذا فإن شاعر مثل ألكمان 

يتجاوز الخوف، والقلق، والعار، والندم 

وكل المشاعر السخيفة الأخرى المرتبطة بارتكاب الأغلاط

وذلك كي يقارب 

حقيقة الأمر. 

حقيقة الأمر بالنسبة للبشر هي غياب الكمال.

 

يكسر ألكمان قواعد الحساب 

ويخاطر بالنحو 

ويفسد وزن أبياته

كي يضعنا داخل هذه الحقيقة. 

في نهاية القصيدة تبقى الحقيقة 

وألكمان ربما ليس أقل جوعًا. 

 

غير أن شيئًا ما تغيَّر في ناتج قسمة توقعاتنا.

إذ بالخطأ فيها، 

أخذ ألكمان شيئًا ما إلى الكمال. 

بالطبع لقد فعل 

ما هو أكثر من أخذ شيء ما إلى الكمال. 

مستخدمًا ضربة فرشاة واحدة.

إشارات 

قصائد “مقدمة“، “حديث قصير عن أوفيد“، و”حديث قصير عن بارمينيدس“، و”حديث قصير عن الكبرى والصغرى“، و”حديث قصير عن سعادة أن تكون محبوبًا“، و”حديث قصير عن مبدأ المتعة” تأتي من* “أحاديث قصيرة” Short Talks، من طبعته الأولى الصادرة عام 1992.  

*”حديث قصير عن هيجل” نُشِر في كتاب “طفو” Float (2016)، بعنوان “كريسماس سعيد من هيجل”. ونُشِر بعنوانه الحالي في “ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى حديث قصير” Thirteen Ways of Looking at a Short Talk (2020).

*”حديث قصير عن هوميروس وجون آشبري” ظهر أولًا في مجلة النيو يوركر، 17 ديسمبر 2018، ثم نُشِر في “ثلاث عشرة طريقة …”.  

*”حديث قصير عن كافكا عن هولدرلن” ظهر في النيو يورك ريفيو أوف يوكس، 28 مايو 2020. 

حديث قصير عمَّا أفكِّر فيه أكثر من أي شيء آخر” نُشر أولًا في “رجال في ساعات الفراغ” (2000) بعنوان “مقال عمَّا أفكِّر فيه أكثر من أي شيء آخر”، ثم ظهر بعنوانه الحالي في “ثلاث عشرة طريقة …”.*