كيف حكت أمينة رشيد عن حياتها؟

ذلك الهروب الملهم

مدينة

نشرت مجلة الهلال في عددين متتاليين، أبريل ومايو 2002، في باب “التكوين”، ما حكته أمينة رشيد عن رحلتها، وفيه إشارة مذهلة إلى الأثر الذي تركته السنوات الأولى على وعيها، لم تتحدث فقط عما وصلت إليه، بل عما بدأت به وغادرته، في هروب متواصل للاندماج مع عالمها المفضل. لم يكن هذا الهروب إلى “ماكيت” من ماكيتات تقدمها الأيديولوجيا للزائرين، ولا إلى مسرح تستعرض فيه بطولات التمرد على طبقتها الأرستقراطية، أو مداواتها للفصام بين ثقافتين عربية وفرنسية، وموقعين، الأكاديمية والمناضلة الثقافية والسياسية، وعالمين سري وعائلي.. في حكيها لم تحول العالم الذي تهرب منه إلى أرض ملعونة، كما لم تعتبر تجربة عبورها إلى الضفة الأخرى، دخولاً إلى الجنة.. حكت أمينة حفيدة “مؤسس الديكتاتورية الحديثة في مصر“، كما أسمي إسماعيل صدقي الذي كلما قرأت عنه اكتشفت أن له بصمة في كل تفصيلة من تفصيل البناء المجهز للديكتاتورية، من الملكية إلى الجمهورية.بصمات جد تلك السيدة موجودة على كل طوبة في بناء الاستبداد، وهي المتمردة المحبة المتحررة من كل انتماء أو قيد يحرمها من المحبة. أمينة هي الإلهام دون بطولة، أو دون تسلق لمسرح الاستعراض الكبير، تتسلل بكل عذوبة لتطبع وجودها سواء كان في جلسة حميمة بين أصدقاء، أو في نشاط يدافع عن أفكار أو يحتج على فرض الأمر الواقع أقدار محكمة

..

اخترنا للغلاف صورة تجمع بين أمينة طفلةً مع أمها خديجة صدقي، وهما ينظران إلى هذا العالم البعيد عن القصور والطبقات الحائرة خلف جدرانها. والذي كانت خديجة تتوق إليه، بينما ذهبت إليه أمينة بكامل وعيها وقدرتها على الحب بلا حدود.

…. وائل

أمينة رشيد – تصوير داليا السجيني

 

الأقواس من مجلة الهلال عددي أبريل ومايو 2002، في باب التكوين، الأول كان بعنوان “كنت أشعر في مجتمعنا الذكوري أننا منحدرون من سلالة نسائية”، والثاني “أشعر بالرغبة في التخلص من أوراقي وأبدأ على صفحات بيضاء“. الصورة من أرشيف المجلات

القوس الأول: جذور الحزن والشعور بالوحدة

 ولدتُ في أول يناير عام 1938 ونشأت في بيت كبير بحي حلمية الزيتون أصبح الآن «مدرسة أمون»، أحتفظ بالكثير من الذكريات الجميلة لهذا البيت، لكن أيضًلا أكثرها قسوة، ظننت أنني استطعت أن أهرب منه، لكن مع مرور الزمن، أكثر فأكثر، أجده محفورًا بداخلي.

كان البيت محاطًا بحديقة واسعة مليئة بالشجر العالي وبكل أنواع الزهور، ومغطاة بنجيل كنا نجري على خضرته ونلعب «الاستغماية» أنا وأمين، ابن خالتي بهية، كانت فوزية أخته، تكبرنا بست سنوات، وأخته الأخرى ملك وأخي إسماعيل، أصغر منا بأربعة أعوام، نتجاهلهم جميعًا، أو يتجاهلوننا. ونعتبر بيت حلمية الزيتون خاصة حديقته، مملكتنا الرائعة.

كانت تسكن البيت أسرتان، أو ثلاثة، أمي خديجة وأبى، إبراهيم رشيد، ونحن، خالتي بهية وزوجها وأولادهما، خالتي أمينة المطلقة بمفردها، لكنها كانت بصخبها الدائم ومرحها أحيانًا، تكون أسرة بأكملها، أو بمعني أصح تكون عالمًا له ملامحه المميزة، ففي بداية تكويني كان هذا البيت،‏ وكانت تلك الأمهات الثلاثة: خديجة وأمينة وبهية.

في مجتمعنا الذكوري آنذاك (وربما حتى الآن!) كنت أشعر أننا نعيش منحدرين من سلالة نسائية، فأمي وخالاتي ‏بنات إسماعيل صدقي، وكان هو صاحب ‏بيت حلمية الزيتون، وأعاره لنا، وربما (رمزيًّا) صاحب مصير كل الذين يعيشون تحت سقفه، ولكن في الواقع كان الثلاثي النسائي يتحكم في كل تفاصيل الحياة، فالرجال يخرجون في الصباح إلى أعمالهم، والنساء أيضًا يخرجن إلى ممارستهن للعمل الخيري في «مبرة محمد علي»، أمينة بحماس شديد، وخديجة بوفاء هادئ، وبهية بالتبعية لأخواتها فيما أظن!

…..

‏كان البيت منقسمًا إلى جناحين. جناح «الكبار» حيث يسكن أبي وأمي وخالتي بهية وزوجها، وجناح «الصغار» المخصص لنا ولخالتي أمينة. وربما كانت هذه التقسيمة قد غذت في نفسيتي الحزن والشعور بالوحدة اللذين لازما طفولتي بأكملها، لم تكن لي علاقة مباشرة مع أمي، كانت شغالة سودانية، دادا زينب، ثم مربية نمساوية، فرو لاين متسي، تشرفان على أموري من تغذية واستحمام إلى دروس المدرسة وبعض النزهات، وكنت أزور أمي في جناح الكبار. مرة أو بالكثير مرتين في اليوم، تقبلني محتفظة بمسافة، تتفحص نظافة ثوبي وكيه، ضفيرة شعري الذي كان ناعمًا، كستنائي اللون وجميلاً، تنظر إلى دفتر درجات الأسبوع، وتفخر بي، إذ كانت في الغالب جيدة، فأشعر أنني لعبة، عروسة كاملة الملامح، أرضي من حولي، ولم يفهم أي منهم كم من الشجن المبكر كنت أخزنه بداخلي.

أما أبي فكان إله طفولتي. لم يكن يهتم بأمور التربية السليمة، بل يسرع إلى جناح الصغار تو عودته من عمله، مشعًا فرحة بي، يداه مليئتان بالهدايا والحلويات. يحملني ويحضنني، ثم يتركني محبطة إلى عالمنا من الأطفال والخادمات والمربيات، كانت خالتي بهية الوحيدة التي تأتي لنا بانتظام، تجلس معنا.. وتقرأ لنا قصصا وتحكي الحكايات، لن أنسى أبدًا هذه اللحظات ولا الفرحة التي دخلت في حياتي من خلال روايات الآخرين، كان ينفتح عالم جديد في خيالي، وربما العالم الحقيقي الذي جعلني أنظر إلى واقعنا على أنه واقع زائف، فاتر وبلا معنى، وحفزتني قصص خالتي بهية إلى تعلم القراءة بسرعة كي أستطيع القراءة بمفردي، ومنذ هذا الزمن استمرت الكتب في حياتي فرحتي وملاذي، معلمي وصديقي، لا تتركني أبدًا إلا في بعض لحظات اليأس المطلق.

أما أمينة فكانت حكاية هي نفسها. تزوجت في شبابها من أمير ينتمي إلى الأسرة المالكة واكتشفت بعد سنة أو سنتين أنه «مثلي» وتزوجها طمعًا لأنها ابنة إسماعيل صدقي. سمعته في يوم يقول لصديق يسأله إذا كان قد وفق في الزيجة الثرية التي كان يتمناها: غني إيه؟ قالوا عليه استفاد من بناء كورنيش الإسكندرية واغتنى، لكن دول مجانين وبيرموا فلوسهم من الشبابيك! فطلبت الطلاق وعاشت معنا في البيت الكبير. كانت جميلة ومندفعة، خفيفة الدم وسليطة اللسان، انغرست في العمل الخيري مواجهة كل تفاصيله الإدارية، وإنهاك سفرياته المنتظمة إلى الصعيد، وأحيانًا مخاطرة! فعندما غزا داء الكوليرا مصر، كانت تجوب قري الصعيد مع فرقة أطباء وممرضات لتطعيم أهلها بلا أي خوف من العدوى الممكنة، وفي أسيوط أيضًا تعرفت على الشاعر عزيز أباظة الذي كان في هذه الأيام محافظًا للمدينة وتزوجته، ورغم أنها كانت «مزعجة» بمعنى من المعاني، إذ كانت تتدخل في تربيتنا تدخلاً صارمًا مهددة ليبرالية خديجة وبهية، عندما تركتنا لتتزوج بكيت كثيرًا!

كانت لي صديقة وراء سور حديقتنا الرائعة لعبت دورًا في كسر الطبقية الشديدة التي كانت تعم حياة البيت الكبير. اسمها «ماري» وكانت ابنة بالتبني لنجار وخياطة يونانية يسكنان بجوارنا، وكانت بالفعل جنة حديقتنا محاطة بالبيوت الشعبية، وتقع على شارع اسمه «شارع دار السعادة»، وأشعر أحيانًا أن هذا التناقض بين القصر وفقر الجيرة عشش داخلي في وجع لازمني منذ الطفولة، وكان بيت النجار في الحقيقة كوخًا، يجمع أفراد الأسرة الثلاثة في غرفة واحدة بها كل شيء آلات النجارة وآلة الحياكة والسرير الواسع، كانت روائح كريهة تشارك حياة سكان البيت لم أستطع أن أميز بينها روائح الطبيخ، عن رائحة الملابس العطنة والرطوبة التي كانت تنبثق من الأرض، ولحم قطط ميتة! كانت أمي تسمح لي بزيارة ماري، رغم اعتراض أمينة وصمت بهية، لكن لم يكن لي حق دعوتها في أعياد ميلادي كما لم يُسمح لي بدعوة صديقات المدرسة (مانعرفش أصلهم ولا فصلهم!) كان يدعى أولاد أصدقائهم من الطبقات العليا الذين لم أشعر بأي انتماء إليهم، بينما كنت أحب ماري وكانت تحبني.

لم يكن الأمير زوج أمينة الأول مخطئا تمامًا عندما قال إن أسرتنا ترمي الفلوس من الشبابيك! كنا ننفق كثيرًا أنفسنا وعلى الآخرين (فكان منطق الأسرة ضرورة الاهتمام بالفقراء، رغم تفادي صداقتهم والظهور معهم في الحياة الاجتماعية) ومع ذلك كانت أمي تخرق أحيانًا هذه القاعدة. أتذكر أن جدي أعطي يومًا لبناته تذكرة «لوج» في الأوبرا (لم يكن يحب الخروج مساءً) فدعت أمي صديقاتها المتواضعات الأصل. فاحتجت أمينة،‏ إزاي تعزمي أصحابك الجرابيع في لوج رئيس الوزراء فكان ردها: لأن أصحابي التانيين بيروحوا الأوبرا عادي لكن دول لأ! وتأثر جدي بهذا الرد البسيط، الصادق، لابنته الكبرى، وربما المفضلة، رغم عشق أمينة له.

القوس الثاني: ديمقراطية جدي الديكتاتور

وقد تعلمت من جدي الذي عرفته الحياة العامة دكتاتورًا طاغيًا، بعض الدروس في الديمقراطية! فكان يجيد العلاقة بنا، نحن الأطفال. لم يهتم بنا كثيرًا، لكن عندما ينتبه لوجودنا كان يستطيع أن يحدث فينا الإنسان لا الطفل الظريف أو المزعج، كما كانت تفعل أسرتنا في الحياة اليومية. يكلمنا بمنطق الكبار، يأخذني إلى الحديقة ويشرح لي طبيعة الشجر والزهور، يأخذني في «العزبة» ونذهب معًا لنرى الفلاحات يجمعن العنب في أقفاص ويشرح لي معاني أغانيهن التي كانت تسعده كثيرًا، وعندما سقطت الوزارة بعد اتفاقية صدقي/ بيفن، وانزعجت من غضب أهلنا، شرح لي بابتسامته الدائمة، أنه قدم لشعبه ما رآه صحيحًا، ورفضه الناس، وسوف يعود إلى حياته الهادئة، مستغنيًا عن وجع القلب!

وعندما انتمى محمد سيد أحمد (متسو) ابن خال أمي إلى الحركة الشيوعية، في فترة اختبائه التي لم يكن أحد يعرف أين كان. سمعت هذا الحديث بينه وبين وحيدة. أم متسو، كانت تبكي، فسألها لماذا. فقالت لخوفها عليه. وأجاب: دا معناه إن ابنك راجل! فاستغربت أن يأتي هذا منه. القامع الأعلى للشيوعيين والمتظاهرين والمناضلين عامة، فأجاب أنا مش شايف إن الشيوعية صالحة لمصر. لكن شابًا مستعدًا لأن يموت لأفكاره في سن العشرين. في يوم هايكون راجل! أما بالنسبة لي، فكان يحبني حبًا خاصًا، كان يعجب بحسن أخلاقي، ونجاحي في الدراسة، يراني ذكية وجميلة، وفي يوم كنت في سن العاشرة تقريبًا، كان ينظر لي بحزن، فسألته أمينة لماذا. فأجابها: لأني خايف عليها، هايكلوها! لم يكمل، ولم يفهم أحد ما كان يعني، لكن بعد ذلك بسنوات، عندما انتميت لليسار، وللشيوعية خاصة، رأت أسرتي في جملة جدي تنبؤا!

القوس الثالث: انفصام ثقافي

 

وكان انفصام آخر يميز أسرتنا وربما طبقة ملاك الأرض بأكملها: الانفصام اللغوي بين العربية والفرنسية، كانت النساء في البيت، باستثناء بعض الجمل التي أشرت إليها، وباستثناء الكلام في السياسة، يتحدثن بالفرنسية وكانت الفرنسية ليست فقط لغة الكلام، بل الثقافة والتاريخ، والموضة والفن، كنت أسمع كل شيء عن مأساة ماري – أنطوانيت ولويس السادس عشر، أو عن منفى نابليون في سانت – هيلانة، ولا أعرف شيئًا عن التاريخ العربي، أسمع أغاني إيديت بياف وإيف مونتان، وعندما يسمح لأبي بأن يستمع لأم كلثوم في سهرة الخميس، كانت النساء لا يخفين نفورهن! وحدث أن غنت أم كلثوم في بيتنا (إذ كانت صديقة للأسرة)، فنامت بهية على كرسيها ولم تفلت من سخرية الست: كده يا بهية. أنا أغني وأنتِ تنامي!

كانت السياسة جزءًا عضويًّا من حياة بيتنا، تهم الرجال والنساء معًا. وكنت آنذاك أكرهها، كنت أسمع أسماء تتكرر – النقراشي، النحاس حافظ عفيفي وغيرهم – تدور حولهم الكثير من الحواديت، وأحيانًا المآسي كاغتيال النقراشي، ولم أفهم أبدًا ما هي القضية، وبين السياسة والمبرة والسهرات شبه الليلية، في الخارج أو في بيتنا، بين النمائم حول حياة السرايا وحياة كبار الأسرة الإقطاعية، كنت أفتقد دفء الأسرة وحميميتها، وأعتقد من خلال القصص والروايات أنها موجودة عند الفقراء، فمجدت الشعب قبل أن يدخل حياتي أي وعي سياسي. كنت أحلم بكوخ يجمعني بأم تضمني وتجفف دموعي، نجلس معًا تحت مصباح مائدة الطعام وهي تشرف على واجباتي، وتطهو بيديها حساء الأمسيات الباردة. وأجد نفسي وحيدة في غرفتي الجميلة ذات الأثاث الفستقي اللون، يسمح لي بالقراءة في سريري بعد إطفاء النور عند جميع أطفال البيت، ربما علاجًا للفزع الذي كان ينتابني مع غروب الشمس وتقدم الليل، هل كانت هذه المشاعر أول بذور انتمائي فيما بعد نحو بيئاتنا الشعبية من برجوازية صغيرة وريف، ونفوري حتى الآن من كل مظاهر الوصولية والتسلق الطبقي؟

أتذكر حدثًا كان علامة في طريق ابتعادي التدريجي عن مناخ بيتنا، سُمح لنا نحن الأطفال، أن نشهد من شرفة علوية سهرة موسيقية ليلية أقيمت في حديقة البيت، كانت في وسط الحديقة مساحة مبلطة للرقص، وحولها موائد مربعة للجلوس والعشاء وفي الخلفية بوفيه فخم بلا شك، وفجأة رأيت ضمن الراقصين أبي يرقص مع فاتنة شقراء، عارية الظهر في ثوبها الأنيق، لا أعرف لماذا ذعرت من هذا المشهد، كنت في الخامسة من عمري ولا أعرف شيئًا عن العلاقات بين الرجال والمرأة، ووجدت نفسي، ووجدني من حولي، أصرخ وأبكي وأحتج: لماذا يرفض أبي مع هذه الفاتنة. (وفي الغالب يحضنها)، ولا يرقص مع أمي؟ قامت أمي من مائدة كانت جالسة بجوارها، لتأتي وتشرح لي سلوك السهرات الراقصة: لا ينبغي أن يرقص الأزواج معًا، بل من اللائق أن يدعو كل رجل امرأة أخرى للرقص. لا أظن أنني اقتنعت بهذا المنطق، بل أراحني صوت أمي الجميل وعيونها عسلية اللون التي كانت تبرق فيها أشعة من الذهب، لم أفهم في تلك الأيام أنها كانت هي أيضًا مغتربة في سلوك بيئتها، تحب البساطة والتواضع، لكنها لا تريد أبدًا الاعتراض على ما يحدث حولها وتحاول دائمًا أن ترضي الجميع.

حادثة أخرى أكثر خطورة أثرت فيَّ كثيرًا، كنت في العاشرة من عمري. أو حول ذلك بقليل. كان أهلي قد أعطوا فرولاين متسي، مربيتي النمساوية، إسورة من الذهب بمناسبة عيد ميلادي، وفي حفلة الغداء التي أقيمت في الحديقة أيضًا، لعبت متسي بإسورتها مع قط كان يتقافز حولها. ثم استطاع القط أن يخطف الإسورة ويهرب بها. انزعجت متسي وأزعجت الجميع، فشرع الكل في البحث عن القط الذي اختفي ولم يعد، وكان الشك أن أحد خادمي البيت وجده وسرق الإسورة، ثم أتت الشرطة لتحقق في الحادث، وجاءت «بكلب البوليس» كلب ضخم وشرس، ورأيت كل خدم البيت، خمسة عشر تقريبًا، مصطفين ومقرفصين في الحديقة، والكلب ينتقل من الواحد إلى الآخر، وأحيانًا يمسك بجلبابه ويمزقه، كنت مذهولة، كانت أسرتي في الغالب طيبة مع الخدم، تسميهم الـ«عيلة»‏ وتهتم بشؤونهم وشؤون أسرهم، أما هذا المشهد فكم وجدته مهينًا ومؤلمًا! وتحولت القصة ‏بعد ذلك إلى حدث سياسي، إذ تناولته مجلة «روز اليوسف» – في إطار حملتها ضد النظام – مثلاً على بذخ بيت إسماعيل صدقي حيث يعطي الذهب لمربيات الأطفال، وتلعب القطط بالسلاسل الذهبية بينما الفقر يعم البلاد. وأتذكر حتى الآن الكاريكاتور الذي يصور متسي تلاعب القط بالإسورة!

القوس الرابع: فترة النضال الوطني

‎⁨ خبر المصور ١٩٣٠ عن الاعتداء على اسماعيل صدقي ⁩

كانت في هذه الفترة، بين 1947 و 1952، الحركة الوطنية والاجتماعية، في أوج عنفوانها. المظاهرات تملأ البلاد، وكثيرًا ما كانت إدارة مدرسة الليسيه الفرنسية بمصر الجديدة – مدرستي – تعيدنا إلى منزلنا قبل اكتمال اليوم. أسمع الشارع يهتف «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» وأشعر أن أحداثًا مهمة تجري لم أكن أفهم كل دلالاتها، وفي يوم مشمس في حوش المدرسة، كنت كعادتي منفردة بإحدى صديقاتي – لم أكن أحب الألعاب الجماعية – اقتربت مني مجموعة من التلميذات ورمتني بالحجارة متهمة جدي بالخيانة، تألمت كثيرًا ليس فقط لما جرى، فشعرت بإحساس مبهم بأن التلميذة التي كانت تتصدر المجموعة على حق، وأن صوتها يتماثل مع صوت الشارع منافيًا لكل ما كان يقال في بيتنا. منذ هذا الحدث دخل في حياتي هذا الشعور بالذنب الذي استمر يلازمني.

في هذه الأثناء سقطت وزارة إسماعيل صدقي، وماتت جدتي، وأظهر جدي زوجته الثانية، ثم قرر السكن في بيت حلمية الزيتون مع سونيا، وبناء عمارة على أرض الزمالك مكان الفيلا التي كان يسكنها مع جدتي، هذا المشروع الذي كانت ترفضه تمامًا، وبعد سنة من التشتت بين سكننا أنا وأخي مع جدي وزوجته الثانية، بينما استقر أبي وأمي مؤقتًا في فندق «متروبوليتان»، (كوزموبوليتان، الأن) انتقلنا إلى الزمالك في شقة من الشقق التي كرسها جدي لأبنائه وبناته، تركت الحديقة الرائعة وسافر أمين، ابن خالتي، رفيق الطفولة، مع أهله إلى الخارج (كان علي مرعي زوج بهية يعمل في السلك الدبلوماسي)، دخلت في سن المراهقة، وتغيرت حياتي تمامًا.

في الزمالك، من شرفتنا المطلة على النيل، كانت أسمع عن قتال الفدائيين في منطقة القناة، ومن الزمالك أيضًا شهدت لهب حريق القاهرة. بدأت متابعة الأخبار، من بعيد إلى حد ما. فكانت القراءة ما زالت تشغل كل أوقات فراغي، أصنع شرنقة تحميني من توترات الخارج والداخل: في الخارج يشتد الصراع الوطني والطبقي، وفي الداخل يصعد القلق أمام التغيير الحتمي، وتصعد أيضًا المشاجرات بين أبي وأمي، هو ينفق بلا مبالاة وهي مسئولة إلى أبعد الحدود، يشتري الملابس والهدايا، وينفق على السهرات، وهي تعيش بين المبرة وأخواتها، تلبس نفس الثوب على مدى الفصول، لا تبكي أبدًا، وعندما يقتحمها الحزن، أرى ذقنها ترتعش وعيونها الجميلة ترغرغ بلا دموع.

القوس الخامس: اليسار كان اختياري الصعب

تدريجيًّا تشكل عالمي المستقل، صداقات حميمية في المدرسة: ثم في الكلية، ليلي الفار وهناء موسى، نهي الروبي، وفيفيان هراري، ثم سهير عبد الوهاب، رحمها الله، سيزا قاسم ووحيد النقاش، وموازيًا لهم انتميت للجزء اليساري من أسرتي ودخلت في العمل السري، أترجم منشورات، أخفي كتبًا وكتابات، أشتري تذكرة طائرة لرفيق. سوف يستبدلها فيما بعد للسفر إلى دمشق، أسهم في إخفاء إنجي أفلاطون، أشعر بفخر وسعادة، إذا كنت أسهم في بناء عالم جديد وتغيير قيم، أحلم بالمساواة بين البشر، أحب الاستراتيجية وأنفر من التكتيك! وأيضًا تنتابني لحظات الرعب، فلا أنسي أبدًا شتاء 1959 القارس، شتاء اعتقال الشيوعيين وبداية الحملة الوحشية ضد اليسار، الأتوبيس الفارغ في أنصاف الليالي وأنا أقوم بمهامي السرية ولا أعرف إذا كنت أرتعش من البرد أو الخوف.

عندما قامت حركة الضباط الأحرار، أو ثورة 1952 كما سميت – كنت على وشك الانتهاء من دراستي الثانوية، التي تمت في 1954 في بداية 1954 أيضًا قررت الانتماء إلى الماركسية، منهجًا للثورة وللحياة، لم أنم في تلك الليلة -ليلة اختياري هذا! – التي ما زلت أتذكر تاريخها: 3 مارس 1954، كانت أوضاع أسرتي قد تدهورت نتيجة للإصلاح الزراعي، وخاصة وضع أبي وأمي، إذ لم تكن لأبي ملكية خاصة أو عمل ثابت مثل زوجي أمينة وبهية، وانقسمت حياتي من جديد إلى نصفين: نصف سعيد بوعد التغيير، ونصف يشاهد انهيار من أحبهم، وبصراحة كان انتمائي الأساسي للنصف الأول، رغم المثل التي أعطته لي شجاعة أمي وتحملها لكل الظروف السيئة التي مرت بها، ولا أنسي جملتها في وسط معاناتها: إحنا استفدنا كتير والناس في بلدنا مظلومة، هل استفادت الناس حقًا بعد ذلك؟

أثناء دراستي الجامعية عشت إحباطًا آخر: إلغاء الحريات رغم إنجازات «الثورة»، اشتركت في مظاهرتين في الجامعة، الأولى احتجاجًا على إقالة النابلسي، الوزير الوطني في الأردن، والثانية رفضًا لتعذيب المستوطنين الفرنسيين لجميلة بوحيرد، المناضلة الجزائرية، كانت حكومتنا مع القضيتين ورغم ذلك قمعت المظاهرتين وفصلت بعض قادتها من الجامعة لمدة سنة أو سنتين. لا أتذكر، وعندما حدثت حركة مطاردة اليسار في 1959، فقدت ثقتي تمامًا بثورية النظام التي لم أفهم إنجازاته إلا بعد ذلك بسنوات، عندما حدثت الانهيارات الأخرى.

كيف أنسى وطني؟

رغم نشاطي الذي استمر سريًّا، كنت قد عينت في جامعة القاهرة: مدرسة لغة بقسم اللغة الفرنسية وآدابها الذي ما زلت أعمل فيه حتى الآن. وفي 1961 حصلت على بعثة للدكتوراه في باريس. انقطعت لمدة عن كل هذا لأندمج في الدراسة، تاركة من ورائي نضالي وحزن أمي وأبي المعتقل في قضية جاسوسية، (وربما كانت تهمته الأساسية أنه زوج لابنة إسماعيل صدقي)، وأخي إسماعيل الذي تحمل بمفرده كل متاعب أبوينا رغم صغر سنه آنذاك، تركت أصحابي، وما زلت أتذكر بكاء سيزا قاسم في المطار وهي تودعني مع مجموعة أصدقاء الدراسة (فالآخرون كانوا في السجون!) وبعد سنوات من الابتعاد جاءني كارت عتاب من وحيد النقاش، هل نسيت هذا البلد الذي كم كنت تحبينه؟ ولم أبعث له الجواب المخزون في كياني: كيف أنساه، يا وحيد، وهو محفور بداخلي؟

القوس السادس: باريس الكئيبة

وصلت باريس في نهاية شهر أكتوبر 1961. لم أشعر مثل د. محمد حسين هيكل ببهجة اكتشاف مدينة الحرية كما وصفها في مذكراته! صحيح أنني لم أصل عشية حفلات ذكرى الثورة الفرنسية في 14‏ يوليو مثله، حيث يرقص الفرنسيون في الشوارع في كل مكان! وصلت في جو كئيب من الأمطار الخفيفة ومطاردة الجزائريين وأنصارهم من العرب والفرنسيين وغيرهم، في نهايات حرب التحرير الجزائرية.

كانت العنصرية، وكان الرعب في أوج عنفوانهما، وربما كنت أحمل بداخلي رعب مصر والمطاردات التي شاهدتها قبل سفري، فانتابني شعور قاس بالغربة والوحدة منعني من الاستمتاع بشهوري الأولى في باريس. ومع ذلك، استرددت ما تبقى لدي من شجاعة لأدخل في إجراءات تسجيلي للدكتوراه.

كانت ثقافتي العربية ضئيلة -كما قلت- ومعرفتي باللغة العربية ضعيفة.. لم أكن قد قرأت بالعربية إلا روايات عودة الروح وزقاق المدق وحديث عيسى بن هشام ودعاء الكروان، في السنة الرابعة لليسانس، من خلال محاضرات اللغة العربية مع د. عبد الحميد يونس، إلى جانب المنشورات السياسية التي جعلتني أفهم المراحل المهمة لتارِيخنا الحديث، لكنها لم تكن تساعد كثيرًا في التعلم السليم للغة العربية! فقررت منذ البداية، وحتى قبل سفري أن أعمل في مجال الأدب المقارن، بتشجيع من د. مؤنس طه حسين، أحد أساتذتي في قسم اللغة الفرنسية، وكان قد عانى من نفس المشكلة.

توجهت فور وصولي إلى قسم الأدب المقارن بجامعة السوربون، وطلبت مقابلة إيتيامبل، وكان من أعلام الأدب المقارن ليس فقط في فرنسا، بل أيضًا في العالم، حيث اشتهر من خلال سجالاته مع المقارنين الأمريكان ودراساته المهمة حول فرنسا والصين في القرن الثامن عشر، ورسالته في موضوع أسطورة رامبو، الذي استطاع من خلاله قبل انتشار دراسات التلقي والاستقبال أن يفكك الأسطورة بين المعجبين والمنددين بالمشاعر، من القراء والنقاد، معطيًا هكذا نموذجًا في الحياة الأكاديمية الفرنسية لإمكان، وربما ضرورة، كلمة أخرى غير الكلمة الدارجة، واستمر طيلة حياته بخوض المعارك في كتاباته ومواقفه العامة، التي لم يكن يفصل بينها، ومن أشهرها رفضه لغزو اللغة الإنجليزية للغة الفرنسية كإحدى وسائل “أمركة” فرنسا ونقده اللاذع “للمركزية الأوربية” في الدراسات المقارنة.

لا أنسي أبدًا مقابلتنا الأولى، كانت سمعته وكان شكله كالنسر الذي يتفحص من أمامه، مستعدًا لاقتحامه وإسكاته إذا لم يعجبه قوله! وكنت خائفة بالطبع، يغلب عليَّ الخجل في اللحظات الحرجة وتعودي على التأدب من خلال تربيتي، مما جعلني، وحتى الآن، لا أستطيع الرد بسهولة على من يعارضني أو يعاديني. بدأنا بالتعرف؛ من أين أتيت ولماذا أريد الدراسة في مجال الأدب المقارن؟ ثم عرض عليَّ موضوعا لم يعجبني، فقلت ذلك بأدب لكن بلا تردد، رغم خشيتي من رد فعله الذي جاء عكس ما ظننته! (فهمت بعد ذلك أن هذه طريقته لاختبار شخصية من أمامه!). وتفتحت المناقشة بيننا صريحة وطليقة.

كنت من خلال تدريسي في قسمنا قد اكتشفت العصور الوسطى ودور العرب فيما يسمى بعصرهم الذهبي. قلت أيضًا إنني أريد إعادة اكتشاف العقلانية العربية ورفضي لأيديولوجيات العبث التي كانت سائدة في فرنسا في تلك الفترة (متأثرة في الغالب بقراءاتي لسارتر). ووجدته معجبًا بموقفي، مشجعًا له، ونصحني بأخذ فترة قراءة وتفكير قبل اختيار موضوع للرسالة. واستمرت علاقتنا على هذا النحو، متسمة بالاحترام والمعزة، عندما كنا نتفق أو نختلف.

لم أتعجل اختيار «الموضوع» بل شرعت في اكتشاف باريس، محاولة تجاوز صدمة البدايات. مثل جميع الطلاب الأجانب ذهبت إلى المسرح، وزرت المتاحف، وفرساي وفونتينبلو، وكانت أجمل متعة تعرفي على روائع السينما العالمية، وكانت صداقاتي الأولى مع طلاب من العالم الثالث وليس مع فرنسيين، نذهب الرحلات معًا، نجلس في مقاه معًا، نثرثر بلا نهاية عن التجارب المختلفة المتشابهة لبلادنا، كانت أغلب صداقاتي من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا الشمالية، وأفريقيا عامة، أيضًا من المانيا وإيطاليا، إسبانيا، الاتحاد السوفيتي سابقًا، يوغوسلافيا سابقًا، وغيرهم، كلهم من اليساريين. نشتم الغرب ونستمتع بملذاته، نشجب السياسات الاستعمارية، ونبتهج بحرية الحديث التي لم يكن أغلبنا يجدها في وطنه.

القوس السابع: مابين العرب و أوروبا

انتهت حرب الجزائر، وحضرت احتفالاً بالاستقلال في مقر طلبة أفريقيا الشمالية تعرفت فيه على جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، لم يتركا في نفسي الأثر الآسر الذي كنت أتوقعه مماثلاً لكتاباتهما وموقفهما المساند لحرب تحرير الجزائر وللعالم الثالث عامة، في نفس الفترة تعرفت على رشدي راشد وكان قد دعاني إلى هذا الاحتفال. كان آنذاك يعمل في ألمانيا الشرقية (سابقًا!) مطاردًا من الحكومة الفرنسية بسبب مساندته للثوار الجزائريين، ومن السفارة المصرية لأنه دافع عن زميل سوري حجز جواز سفره بسبب نشاطه السياسي في فرنسا (كان ذلك في فترة الوحدة بين سوريا ومصر). وبعد عودته النهائية إلى باريس تزوجنا، تعرفت من خلاله على مصر حي الحسين التي لم أكن أعرفها، وعلى صرامة نادرة في البحث العلمي. لكن زيجتنا لم توفق فانفصلنا، بعد ميلاد ابننا مروان في 26 يونيو 1971.

قرأت كثيرًا في هذه الفترة، كنت أقرأ في العلاقات بين العرب وأوروبا في العصور الوسطى، أبحث عن كل التأثيرات العربية المعروفة وغير المعروفة. أذهب بانتظام إلى المكتبة الأهلية، أقضي فيها ساعات طويلة، سعيدة ومنهكة، أغرق في قراءات صعبة لم أكن مؤهلة لاستيعابها! أحضر أيضًا بعض المحاضرات والسمينارات في تخصصات العصور الوسطى، وأخيرًا اخترت موضوع رسالتي للدكتوراه، من خلال لقاء مع جاك بيرك الذي كلمني عن رامون لول. هذا الإسباني العقلاني الذي سافر إلى بلاد العرب بغرض تبشيري وأراد أن يجذب المسلمين إلى المسيحية، فتأثر هو بالثقافة العربية، وكتب في المجالات المختلفة للسجال الفلسفي وقصص الحيوان والنثر الشاعري الصوفي، معلنًا إعجابه بالثقافة العربية فلسفة وأدبًا، واقتناعه بعقلانية العرب وانجذابه لجمال الشعر العربي في الـ«حبيب والمحب». كان يقال عنه إنه تعلم العربية وعرفها جيدًا، لكنني استطعت اكتشاف أنه قرأ الأعمال العربية من خلال الترجمات اللاتينية والإسبانية التي قام بها المسيحيون الإسبان.

لم أنغلق مع ذلك في حدود رسالتي. كانت الستينيات في فرنسا، رغم كآبة بداياتها، فترة رائعة، ازدهرت فيها الاتجاهات المختلفة للنقد الأدبي، وتعمقت القراءة المنهجية. وتعددت أساليب السينما الطليعية. كل هذا في سياق تاريخي رأى تفاقم حركات التحرر الوطني في العالم، فيتنام تخوض حربًا بطولية ضد أمريكا وتشي جيفارا ينادي بالكفاح المسلح وبزرع ألف فيتنام في العالم.

القوس الثامن: رفضت البنائية

أقرأ مع غيري نظرية الشكليين الروس وأنبهر بإنجازاتها، رغم رفضي المبكر للبنائية التي نتجت عنها، أو أخذت مناهجها مبررًا لدفاعها عن انغلاق النص الأدبي، وانفصاله عن سياقه التاريخي الاجتماعي. أتابع رفض عالم الإثنولوجيا ليفي – شتراوس لاستخدام نقاد الأدب لنظرياته في بنى النسب الأسرية، التي رأى أن تطبيقها على النص الأدبي غير صالح. أتابع أيضًا عمل مجموعات كانت تقرأ ماركس في النص (وليس من خلال المنشورات). وفرويد: فكانت الأولى تجد في كتاب رأس المال مبادئ الاستلاب الناتج عن إخفاق الصراع الطبقي، والثانية تتعمق في الاستلاب النفسي الذي تختفي جذوره وراء إخفاق اللاوعي.

كانت فترة الفيلسوف الفرنسي ألتوسير وإعادة قراءة ماركس. وخرج من عمله المشترك مع آخرين كتاب قراءة رأس المال الذي قرئ في أوساط المثقفين في فرنسا وترجم في الكثير من لغات العالم (وترجم أيضًا إلى العربية). أما أنا فكنت أقرأ إلى جانب تودوروف وجينيت وبارت، التطور الجديد للنظرية الماركسية في النقد الأدبي: جولدمان وماشري، ومنهم عدت إلى لوكاتش، أما باختين فلم أكتشفه إلا بعد عودتي إلى مصر.

كانت أوساط المثقفين المصريين في فرنسا أيضًا تشغي بالتساؤلات حول مصير الثورة، ثورتنا المصرية. كنا مجموعة حية من المشاغبين، نطرح على السلطة أسئلتنا القلقة، نتبنى مفهوم الطبقة الجديدة في مصر، ونتنبأ بصعود الثورة المضادة، وفي هذا السياق الملتهب تكونت مجموعات عمل لتدرس مشاكل الزراعة والصناعة، والتربية والديمقراطية، والثقافة والعلم. إلخ. اتهمنا بالغربة التي جعلتنا لا نرى الواقع، وبالتأثر بنظريات غريبة لا تتجانس مع قضايانا، ومع ذلك أخذت مواقفنا في الاعتبار، أن ننظم في مصر مؤتمرًا للمبعوثين انعقد في 1966، كي يتم فيه «تبادل وجهات النظر».

القوس التاسع: وكانت كارثة 1967

أمينة رشيد -تصوير:راندا شعث

كانت الصدمة والذهول، لنا ولكل الجالية العربية في فرنسا. بقينا يومين نرفض الهزيمة ونتهم الإعلام الغربي بالكذب عندما تعلن إذاعته استسلام الجيوش العربية. ننظم اللجان التي تتصل بجميع وسائل الإعلام لقول الحقيقة. وبالفعل كانت جريدة «فرانس سوار» قد أصدرت عددها الأول في صباح 5 يونيه بعنوان «المصريون يعتدون» ثم استبدلته بعد احتجاجنا -أم بعد أن عرف العالم أن الإسرائيليين كانوا المعتدين؟- لم نصدق شيئًا مما يقال إلا بعد سماع صوت جمال عبدالناصر، وقورًا، حزينًا يعلن تنحيه عن كل مناصبه ومسئولياته. ولا أعرف كيف وجدنا أنفسنا جميعا أمام السفارة المصرية، في الساعة التي تلت خطابه، نطالبه بالبقاء، علمنا بعد ذلك أن نفس الشيء كان قد حدث في مصر.

تغيرت حياتي بعد ذلك، ودعت بداخلي مباهج باريس، وهم الحرية والثقافة. الاستمتاع بالسينما، اكتشاف النقد الأدبي الجديد، الثرثرة في المقاهي. أركز على هدف واحد: الانتهاء من الرسالة والعودة إلى مصر. كتبت صفحات وصفحات نالت إعجاب إيتياميل، الذي هنئني على منهجي الماركسي (مضيفًا أنه ليس ماركسيًّا بل معجبًا بنا كآخر الشرفاء في العالم!).

هذا لم يمنعني من ممارسة العمل في «اتحاد الطلبة المصريين» حيث كنت أقوم بالتنسيق مع «اتحاد الطلبة العرب» وبالعلاقات الخارجية مع طلاب فرنسا والعالم. أحببت هذا النشاط وتعرفت من خلاله على بشر رائعين، وعلى القضية الفلسطينية التي دخلت حياتي منذ هذا الحين كي لا تخرج منها أبدًا بعد ذلك.

في هذه الفترة، وقعت أحداث مايو 1968. بدأت ثورة طلابية تندد بمناهج التعليم البالية لما سمي ب‏ «سوربون بابا» وبموروث نابليون الطبقي والسلطوي في كل مراحل التعليم. رأيت جدران السوربون الكئيبة في العادة، تمتلئ بالشعارات الثورية والطوبائية إلى حد كبير (مثل: «الخيال في السلطة»). رأيت الطلبة وبعض العمال الذين انضموا إليهم يهتفون ويغنون، يرقصون وينادون بالثورة «في الفرح». رأيت فرنسا الـ«ديمقراطية» تجند أمنها المركزي لمهاجمة الطلاب بدروعهم الزجاجية وأقنعتهم الشفافة. ثم تحولت الـ«ثورة» إلى انتفاضة عمالية. وعشت بذهول التجربة المثيرة لإضراب الشهرين الذي شل الحياة في فرنسا. لكن كل هذا لم يكن يهمني كثيرًا: كنت راغبة في الانتهاء من رسالتي والعودة إلى مصر!

في ظروف صعبة وسنوات أليمة انتهيت من رسالتي. ولد مروان وانغلقت معه في البيت (باستثناء حضور بعض السمينارات)، أهتم به وأكتب الرسالة. أحكي له الحكايات وأكلمه عما يحدث وأفاجأ بذكائه المبكر وحساسيته المفرطة، بأسئلته الصائبة وتعليقاته الدقيقة. ملأ حياتي بالهناء والأمل، وأيضًا بتمزق الاختيارات الصعبة عندما جاء وقت العودة وقرار تركه في باريس مع أبيه.

ناقشت رسالتي واحتفل بي أصدقائي في بيت مصطفى صفوان. نهاية سعيدة وبداية السؤال الصعب: هل أعود إلى القاهرة، إلى جامعتي، أم أبقى في باريس؟ كنت قد عينت في الـ «مركز القومي للبحث العلمي» في فرنسا وكان الإغراء بالبقاء شديدًا، لكنني لم أتحمل فرنسا أكثر من ذلك، أعيش في أحداث مصر وأبكي عندما أفتح نافذتي وأرى سماء باريس الرمادية أشعر أنني استفدت كثيرًا مما عشته من تجارب فكرية وسياسية ووجدانية لكن أدركت تمامًا أن هذا التاريخ ليس تاريخي، وأن هذه الحياة ليست حياتي.

القوس العاشر: العودة إلى القاهرة

عدت إلى مصر وإلى جامعتي. وفي المناخ الصعب لـ«كامب ديفيد» واتفاقيات السلام انتميت لدوائر مختلفة من الوعي ومن العمل. تعرفت على لطيفة الزيات. في البداية كنا نلتقي في شقة الصديقة العزيزة ليلي الشربيني في حلقة نسائية، أسبوعيًّا. في كل مرة تحكي إحدانا عن تجربتها، وكانت أغلبها تجارب صعوبة التوفيق بين الارتباط الزوجي والحياة المستقلة التي يشغلها هدف خاص، نضالي أو بحثي أو إبداعي. ثم بعد «كامب ديفيد» ونشأة «لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية»، أنتمى أغلبها إلى هذه اللجنة، نلتقي كل يوم أحد. ننظم الندوات والمسيرات، تصدر مجلة «المواجهة» وننجح في خوض بعض المعارك: رفض التطبيع، الذي كنا أول من رفع شعاراته ومعركة معرض الكتاب التي استطعنا من خلالها أن نمنع نهائيًّا وجود إسرائيل في المعرض.

أمينة رشيد وسيد البحراوي في بيت عائلته بمحافظة المنوفية

تعرفت على سيد البحراوي في حلقة أخرى كانت تجتمع في بيت د. عبد العزيز الأهواني. مع بعض الزملاء من تخصصات أدبية مختلفة وبعض المثقفين. كنا نناقش المناهج الجديدة في النقد الأدبي أو الاتجاهات الفكرية، نعرض كتابًا جديدًا ونتبادل الحديث فيما يدور.

جمعتني صداقة خاصة بسيد البحراوي، انجذبت في البداية لطيبته التي كانت تحيط بي وتمحو كل جروح حياتي، ثم قرأنا كتبًا معًا، ترجمنا معًا، أحبني وأحببته. وبعد خروجي من السجن 26 ديسمبر 1981 تزوجنا. معه اكتشفت عالم الريف الذي لم أكن أعرفه إلا من خلال خبرة ملاك الأرض أو رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي. ومعه تجاوزت صعوبة الكتابة بالعربية.

ومعًا خضنا الكثير من المعارك، في «لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية» و«نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة»، وغيرها من المجموعات. استفدت كثيرًا من خبرته الثقافية واستفاد هو من بعض خبراتي. وفي صعوبة الحياة العامة في مجتمع متشرذم والتجارب المتقطعة والفاقدة للتراكم. أنشأنا بيتًا نحبه ويحبه معنا الكثير من الأصدقاء ومن الأسر الصغيرة التي كوناها، أو تكونت من حولنا.

القوس الحادي عشر: التجربة السعيدة

في 1981 كانت تجربة السجن. بالطبع لا أستطيع أن أقول إنها كانت تجربة سعيدة! لكنني تعلمت خلالها الكثير. رأيت التضامن الإنساني لبشر لا يجمع بينهم شيء، كونت صداقات أخرى، تعمقت علاقتي بـلطيفة الزيات وتعرفت على صافي ناز كاظم. وساعدتني كل منهما على تجاوز عدم الثقة في نفسي الذي كان قد تجذر بداخلي. وأساسًا استكملت تجربة الانتماء التي كم كانت صعبة، مؤلمة، وكم مزقتني في لحظات مختلفة من الحياة، ولأول مرة في حياتي أشعر أنني كل لا يتجزأ ولست منقسمة، أعاني الاختلاف، شخص هجين، لست فرنسية ولست مصرية. شعرت أنني مصرية وعربية، أعيش تجاربنا بكل أبعادها وأنتمي لمجتمعي مع كل مشاكله وصعوباته. لا أستطيع أن أشك في ذلك الآن ولا يشك فيه أحد من حولي.

الدكتورة أمينة رشيد والدكتور سيد البحراوي وسط مجموعة من زملاء وطلاب كلية آداب القاهرة في الثمانينات؛ بينهم الدكتور عماد أبو غازي؛ من صفحة الدكتورة أمينة رشيد على على الفيس بوك

ثم استقرت حياتي، أعطي الجامعة أولوية مطلقة، رغم نصائح الكثيرين من حولي أن أهتم أكثر بكتاباتي وأبحاثي. أحب طلبتي ويحبونني، أتأثر بصعوبة حياتهم في سياق لا يساعد على الدراسة السليمة، ولا على الانتماء ولا حتى على حياة مراهقة سعيدة. عن طريق الأدب المقارن، أحاول تجاوز عبثية التدريس في أقسام لغة أجنبية في زمن يخلط بين الأجنبي والعولمة والتبعية، ولا يساعد على اكتشاف المشترك الإنساني والعالمي في الفكر والعلم والكتابة الأدبية.

واعترف أيضًا أنني ما زلت هاوية في قراءاتي، أما في كتاباتي فأنا لا أركز على موضوع وأكمله (باستثناء بعض المقالات وكتابين انتهيت منهما تحت ضغط وبصعوبة فظيعة!). تمتلئ أدراجي بأوراقي غير مكتملة، خطط لمشاريع، كتابات خاصة، كروت بحث.. وأحيانًا أشعر أنني أريد التخلص من هذا كله وأبدأ من جديد على صفحات بيضاء. ومع ذلك تشغلني بعض المواضيع وأقرأ فيها كثيرًا. موضوع الزمان والمكان في النص الأدبي. موضوع السيرة الذاتية في تجلياتها المختلفة (ومنها سيرتي الخاصة، بدأتها منذ أكثر من عشرين عامًا وأخاف الاقتراب منها)، وأهتم بمشروع نور لكتابة المرأة العربية، رغم أنني لم أنتم أبدًا لمشروع نسوي: مع الزمن وتجارب الحياة اقتنعت بأن هناك خصوصية لقضايا المرأة، لكنها لم تتحول أبدًا إلى مشروع حياتي..

والآن في نضالنا من أجل فلسطين أشعر أن لا شيء له قيمة حتى تتحرر فلسطين. أعيش وجع الجميع رغم أنني أرى أن جنون المجزرة التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة يشير إلى أن هذه الدولة المزيفة تعيش بداية نهايتها. لكن الثمن مؤلم، غاية الألم، والدمار مريب، نقوم بالكثير من المسيرات واللقاءات، نوقع على بيانات. أتأثر بكفاح سيد مع آخرين، اكتشف بشرًا في نضالنا لم أكن أتوقع أن شيئًا عامًا يهمهم. وأحاول أن أقتنع أن أمتنا بخير. أتابع بأمل تحول الرأي العام العالمي، وخاصة جهود فرنسا التي عايشت قوة الصهيونية في إعلامها. وقبل كل شيء يحيي قلبي كل يوم وفي كل لحظة جسارة المقاومة الفلسطينية: كنا نظن أن العرب سوف ينقذون فلسطين. وأعرف الآن أن فلسطين هي التي سوف تنقذنا.