حاكم سري في مثلث الرعب

وائل عبد الفتاح

ماذا لو عاش أمل دنقل حتى الآن؟

سخرنا من السؤال، وشعر صاحبه بالحرج. قلنا له إن المعنى الوحيد لسؤالك أننا نشعر بالعجز. كانت المقاهي مزدحمة، نسمع الكلمات بصعوبة تجعلنا نرفع أصواتنا، ونفكر مع صاحبنا الذي كان مشغولًا بسؤال اعتبره مهمًالماذا نحتفل بأمل دنقل؟“. كان صديقنا المتحمس للسؤال يقارن بين احتفال المجلس الأعلى للثقافة في يناير 2009 بـأمير شعراء الرفضوبين حكاية قديمة عندما سأل عبد الحميد رضوان وزير الثقافة سنة  1981 “من هو أمل دنقل؟“. كان سؤاله  تعليقًا على مقال كتبه يوسف إدريس فيالأهراميطالب فيه بعلاج دنقل على حساب الدولة. كان أمل يرقد في الغرفة رقم 8 بمعهد السرطان (له اسم أقل قسوة هو معهد الأورام). وعنوان مقال يوسف إدريس كأنه هتاف في مظاهرةيا لله يا أمل لا تمت فكلنا فداؤك“. كان الوزير تاجرًا من النوع الذي يحبه أنور السادات (أعطاه وزارة الثقافة مكافأة يعاقب بها المثقفين). وفهم رسالة أديب مشهور يكتب في كبريات الصحف. أرسل باقة ورد، وسعى إلى قرار بالعلاج. اكتفت الحكومة أن يكون في الدرجة الثانية (تحكي عبلة الرويني زوجة أمل أن باقات أخرى تحمل بطاقات كبار المسؤولين توالت على المستشفى احتفاء بالشاعر المريض…).

1
نجم النخبة على جدران المؤسسة

سخرنا مرة أخرى من الأسئلة التي تبدو مثيرة لغريزة النميمة. تبدو أيضًا منطقية لترتيب صراع وهمي بين مثقفي المؤسسة ومثقفي خارج المؤسسة. تساهم الأسئلة في هذا الوهم. كما تساهم في صنعأسطورةأمل دنقل.
لكنه أسطورة فعلاً“. قال صاحب السؤال عن السلطة وأمل، مشيرًا إلى أن السلطة تريدتوظيف أمل دنقل، وتضعه على واجهاتها كنوع من الإعلان عنديموقراطيةزائفة.
وقال صاحبنا الثالث إنه بالفعلأسطورة معاصرة يصنعها من يريدون تبني أمل دنقل لأسباب تخص تصورهم عن ثوريته أو نقائه أو الحنين للحظته كما يتخيلونها“.
كان سير الحوار في اتجاهتفكيكالأسطورة. لنرى أمل دنقل بالحجم الطبيعي (وهذا فعل صعب في لحظة لا يوجد فيها حجم طبيعي. كل شيء قابل للمبالغة والتحوّل رمزًا في حروب كبيرة وصغيرة…).
لأن الأسطورة ستجعل أمل دنقل يعيش مثل صور عبد الناصر التي يرفعها الناس في التظاهرات أو أغاني عبد الحليم في مديح الثورة الناصرية. هي فعلًا احتجاج على الواقع بالعودة إلى لحظة سابقة.وحنين إلىزمن ذهبيفي مواجهةالزمن الثقيل“. وهو حنين مقبول من وجهة نظر السلطة الحالية، لأنه دون خطر مباشر تقريبًا. فهو بديل عن صنع ثقافة أو رموز أخرى. ولأنها تستطيع استخدامه هي الأخرى للعب برأس الجماهير وتوجيه غضبها. صحيح أن أمل دنقل مختلف لأنه لم يكن قطجماهيريًّاأو مطلوب خارج حدود النخبة. ظل طول عمره نخبويًّا وثورته نخبوية. بتعبير أدق هو أقرب إلى نجم من نجوم النخبة.

2
صاحب المقام البدوي في القاهرة

أمل يجلس أمام ابيه الشيخ محمد فهيم محارب دنقل في تجمع مشايخ وأفنديه في قريته

صورة أمل دنقل في ذهني هي شاعر صعلوك تغويه الشوارع ولا يمتلك بيتًا. استعاض عن إقامة علاقة مع المدينة المتوحشة (القاهرة) وفق البرنامج التقليدي للأفندية والمثقفين المؤدبين في نظر السلطةوقرر أن يقيم خيمته في شوارع المدينة (مثل المتشردين) ويصبح مزارًا (لم يكن هناك عاشق للثقافة يأتي إلى القاهرة ولا يريد مقابلة أمل دنقل) ووليًّا أو صاحب مقام خاص بعيدًا عن سلطة تشتري المثقفين وتضعهم في واجهتها وعلى رأس كتائب مدفعيتها. ولا في علب التنظيمات السياسية التي إما تحوّلت إلى دكاكين نضال بالأجرة، أو استسلمت لسطوة الفكرة الواحدة.
أمل جاء إلى القاهرة بإحساس الغزاة. كان هذا في المرة الثانية. الأولى عاد منها إلى مدينته الأصلية قنا مهزومًا. كانت في أعقاب العدوان الثلاثي. عبد الناصر كان في زهوته. ومشروعه السياسي يفتن الجميع. أمل نفسه تطوع في كتائب الفدائيين. توهموا أنهم سيحاربون على الجبهة في بور سعيد، وتدربوا على السلاح. لكنهم لم يخرجوا من مركز التدريب. كان أمل وقتها في فورة صداقته مع عبد الرحمن الأبنودي. وهما ينتميان إلى نوع خاص من البيوت في ذلك الزمن في الصعيد؛ الأب مثقف تقليدي تخرج في الأزهر وعاد إلى القرية شيخًا معممًا، يدرس اللغة العربية ويكتب الشعر التقليدي ويصبح مرجعًا في شؤون الدين من إمامة الصلاة إلى الفتاوى. هذه الوضعية الخاصة تضعه في مرتبة مميزة. وهو ما تمتع به فهيم أبو القاسم محمد محارب دنقل. الأب الذي غادر الدنيا سريعًا، وأمل في التاسعة تقريبًا. ليرث مكانه في البيت ويسعى لوراثته في الشعر لتكتمل الصورة فيلقي قصائد في المدرسة ويتهمه الأساتذة والتلاميذ بأنه سرقها من مخطوطات الأب. كان همه السير على خطى قديمة. لكنه في الوقت نفسه بحث عن خطوته الخاصة. يحفظ مواريث العائلة والمجتمع. ويحتفظ بحق التمرد في الوقت نفسه. يقول في حوار (أجري معه في1974 ): ولدت في قرية في أقصى الصعيد بالقرب من الأقصر (يقصد قرية القلعة التي تبعد عن قنا كيلومتر واحد…) وكانت عاصمة أيام الفراعنة. واليوم تشتهر بآثارها ويتعايش فيها التفكير الفرعوني الموروث منذ آلاف السنين إلى جانب القيم القبلية التي حملتها القبائل العربية التي حطت هناك…” (..): “كان والدي رجل دين وكان متزمتًا. ومن هنا اكتسبت نشأتي الأولى بعض الصلابة، وربما بعض الخشونة والجفاف…” (…): “كنت في تلك السن المبكرة متدينًا جدًا، وأؤدي الصلاة في أوقاتها، كما كنت منتسبًا إلى إحدى الفرق الصوفية..ومن خلال معاشرتي للمتصوفين والمتدينين ابتدأت في كشف التناقضات والفوارق الشديدة بين ما يقولونه في المساجد والحلقات الدينية وما في حياة الناس العاديين. فبدأت بكتابة قصائد أقف فيها ضد البدع الدينية. ومن هنا نشأ ارتباطي الأول بحياة الناس…”.
في تلك الفترة كان تلميذًا متفوقًا يدرس بقوة. واختار شعبة العلوم في الثانوية العامة. وحلم بتخصص دقيق (ربما كان يراهن على مستقبل في الطب أو غيرها من مهن تلعب بأحلام البرجوازية الصغيرة). وكانت عائلته تبني آمالًا عليه، وكان كل شيء يسري وفقًا للعرف الاجتماعي حتى قابل الثقافة والقاهرة. سافر إلى القاهرة في سبيل حلم الجامعة. عمل في شركة أتوبيس الصعيد. وأقام عند عمه. لم يتحمل الجامعة، ولا عمه. وجرفه التيار الهادر وقتها في شعر عبد الرحمن الشرقاوي وقبله محمود حسن إسماعيل (ومعه على محمود طه) وبعده أحمد عبد المعطي حجازي. كان حجازي الأكثر تأثيرًا. إنه مغني الثورة الرومانتيكي وقتها. وشعره يسير في الطبقات العليا من الحلم الذي تروجه أجهزة الميديا في نهاية الخمسينيات الصاخبة.
يحكي أمل في فيلم عطيات الأبنوديحديث الغرفة ٨” : انتقالي إلى القاهرة، ارتبط أيضًا بتغير في نوعية الشعر، كنت انتقلت من الشاعر الرومانتيكي الحالم الذي يذوب وجدًا، ويكتب عن فتاة تمشي بخطوات موسيقية، وعن مشهد الغروب والنيل إلى شخص يربط الكتابة بقضايا المجتمع حوله، نفسيًّا بدأت أخرج من دائرة الاهتمام بذاتي إلى مزج الذات بالعالم، وهو الاتجاه الذي كان أكثر تآلفًا معي“.
في هذه المرة عاد بإحساس الغزاة. الفاتحين. نسي الأحلام العائلية وودع الوظيفة في محكمة قنا. وارتدى زي المحارب البدويوجاء إلى القاهرة كما يحكى في الفيلمعندما قررنا أن نأتي إلى القاهرة للمرة الثانية، قررنا أن نأتي كغزاة كنت أنا وعبد الرحمن الأبنودي، هو يكتب العامية، وأنا الفصحى، جئنا بأفكارنا الخاصة عن العالم، في المرة الأولى كنا نريد أن ندخل في النسيج الموجود أما في المرة الثانية جئنا بخيول جديدة ومستعدين نفتح بها المدينة أما نجحنا أو فشلنا ونعود للعمل كموظفين ونلتحق بكليات ونلتزم فيها ونبقى موظفين صالحين“.
المدهش أن أمل وعبد الرحمن افترقت بينهما الطرق بعد قليل من الوقت في القاهرة. ظل أمل تحت خيمته في شوارع القاهرة. وطارد عبد الرحمن أحلامه الواسعة. سار أولاً في طريق تنظيمات اليسار تحت الأرض. وذاق طعم السجن عدة أشهر. في التوقيت نفسه تقريبًا كان يذوق طعم شهرة مؤلف الأغاني ونجم المجتمعات الثقافية البعيدة عن الصعاليك. وأمل في مكانه بعيدًا عن التنظيمات والشهرة العمومية. ظل الأبنودي يقفز بطموحه بين ذكرى السجين وإحساس المشاهيرحتى غادر نقطة اللقاء مع أمل الذي قال له في الأيام الأولى بلغة الحكماءستصبح أغنى مني وأشهر، فأرجو ألا يغيرك هذا…”. هل كان هذا نوعًا من الغيرة؟! أم نبوءة؟! يحكي الأبنودي الحكاية الآن. ولا يعلق عليها.

3
الفوضوي في الخيمة

أمل دنقل يجلس بجوار يوسف إدريس في جلسة جمعت زوجته الكاتبةعبلة الرويني الدكتور جابر عصفور و زوجته الأستاذة ثريا الجندي الدكتور صبري حافظ و الأديب سليمان فياض والكاتب سامي حشبة

أصبح أمل دنقل أحد الحكام السريين لوسط القاهرة. مقره بينكافيه ريشوالأتيليه“. يضاف إليهم الآن مقهىالجريون؛ ليصبح هذا  مثلث الرعبحسب تسمية ساخرة كان أول من أطلقها المدمنون القدامى للمواعيد الثابتة. الثلاثاء والجمعة والأحد. تلك المواعيد تضفي على المكان والشخصيات هيبة الكتل المهمة والجماعات المؤثرة. تقريبًا مثل الأحزاب أو التنظيمات التي كان حلميالساذجأن أذوب في إحداها كتعبير عن أهمية أو كهروب من فردية محرمة أو حتى من أجل شيء كبير غامض. لكنني في مرات نادرة اقتربت من المحاولة بجدية وسعادة مراهقة. كنت أشعر بالملل بعد وقت قصير جدًا وربما قبل أن تكتمل خطوتي الأولى. الإحساس الغامض الذي ينتابني تجاه هذه الجماعات المغلقة كان يزداد غموضًا في مثلث الرعب. لأنني افترضت من البداية أنه في تلك المواعيد والأماكن الثابتة ليس هناك ولاء حزبي أو ميثاق تنظيمي، هناك الثقافة بمعناها الكبير المفتوح، المخلوط بالسياسة غالبًا. لكنه مبني إلى حد كبير على فكرة الاكتشاف والإضافة وليس اليقين النهائي المحدد.
ربما السبب هو تلك السلطة الخفية التي تحكم الأماكن والمواعيد. سلطة لها قواعدها الموروثة وتحتكم في النهاية إلى أوضاع تراتبية مقدسة. وهكذا ظلت أماكن المثقفين تتقلص وتنحسر حتى أصبحت تلك المنطقة المحددة في وسط القاهرة. وكأنها سلطة مركزية، تريد أن تتحكم في المداخل والمخارج، وتمنح الشرعية وتعتمد الصلاحية للشهرة. أصبح الحفاظ على المواعيد الثابتة هو حجز مقعد وبطاقة عضوية في نادي المثقفين. ولأن السلطة غير معلنة وتعتمد على مواهب خاصة، أصبح للنميمة قوة القانون، بل أصبحت هي القانون الذي يحكم وضع كل شخص، أنت في هذه الأماكن تصبح مثقفًا بحكم العادة؛ عادة الوجود الأسبوعي، وعادة التعدي اللفظي على آخرين. وعادات أخرى ترتبط بقدرتك على النقد الاجتماعي وتوجيه الاتهامات للآخرين باعتبارك النموذج النقي الذي يمتلك سلطة العارف وصلاحية إصدار الأحكام وتصنيف البشر. وهؤلاء أصحاب حظوة في مجتمع المثقفين، فهم الرتبة الأعلى من قوافل المضطهدين المعروفين باللفظ الكودي: كارهي البشر. هؤلاء يقيمون في تلك الأماكن مستعيدين صورة أمل دنقل وسيرته. مقلدين حياته في لحظة مختلفة تمامًا. تقليد باهت. وهؤلاء جميعًا آخر سلالة تأثرت بموضة أمل دنقل في الستينيات والسبعينيات: المثقف الصعلوك المتمرد الذي يعيش خارج الرعاية المباشرة للمؤسسات ويلعن الجميع. نموذج له سياق تاريخي ارتبط بتحوّلات في السلطة وقتها. وبتغيرات في المواقع بينها وبين المثقفين؛ فالسلطة أحيانًا هي التي تخلق المتمردين عليها وترسم أشكالهم وطرق حضورهمهؤلاء نوع من المتمردين، تبدو حياتهم متعلقة بوجود السلطة التي يحاربونها ينتهون معها ويشعرون باليتم حين تختفي فجأة.
أمل دنقل صورة من صور المثقف الخارج عن النمطية؛ فوضوي وصعلوك. اكتشف أمل صورته هذه بين ركام هزيمة يونيو . في الشعر بالمراثي. وفي الحياة بأسلوب الحياة الخشن الصدامي المختفي وراء أقنعة سادية، لتحمي رقتها وانكسارها. خلف تلك الأقنعة وتحت خيمته التي صنعها من قيم قديمة خارجة عن التقاليد عاش أمل دنقل حالة خاصة من المثقف. كان أمل دنقل في أشعاره وحياته أقرب إلى أمير الصعاليك. الذي يدافع عن المظلومين في مواجهة الظالم. فكرة قديمة قادمة من التراث. ربما استوحاها من طرفة بن العبد الذي كان يسرق الأغنياء ليعطي الفقراء. والأهم من هذا أنه لم يكن شاعرًا من شعراء السلطان وفي الوقت نفسه لم يكن من الخوارج أو المتصوفة. كان شاعرًا مستقلاً. وهذا ما جعل فكرة الصعلكة فكرة تقدمية (ثورية كما يحب دراويش أمل دنقل أن يصفوها) بمعنى أنها فكرة مفارقة لواقع ولثقافة كانت تفكك المجتمع الذي رتبته ثورة عبد الناصر في حشود. وجاء السادات ليفكك الجموع ويرتبها في طوابير أخرى. هذا ما جعل أمل دنقل ثوريًّا بمعنى من المعاني، لأنه عاد إلى فكرة قديمة جدًا ليواجه خللاً معاصرًا. إنها بشكل ما تشبه ما تفعله الجماعات الإسلامية التي تعتبر الأكثر راديكالية الآن في السياسة، لمجرد أنها ترفض الواقع. الفارق الكبير أن أمل دنقل صاحب موهبة اكتشفت مبكرًا تقنيات حديثة في كتابة الشعر. هذا ما لا يجعله مستقرًا في الصورة التي يرسمها له أعداء يرونه مجرد مغنٍّ ثوري قديم. تريده السلطة الآن مجرد مكياج على وجهها.

4
فدائي يكتب المراثي في ريش

لمع اسم أمل دنقل وسط طقس شعري جنائزي بعد هزيمة يونيو. كلطم الخدود والقسوة السادية على الذات. كان أمل مختلفًا. كان مثل الحكيم. الذي يعيد القبيلة إلى أفكارها الأولى، يحمل عصا الذاكرة. كان يدرك أن الخروج عن النظام العمومي (مناوشته). أو معاداة المؤسسات الشعرية ومصانع التوحيد القياسي. بضاعة تعلي من أسهم الشاعر في مدينة يبدو سطحها فوضويًّا. بينما باطنها وقنواتها السرية محافظة؛ على عكس المدن الحديثة، أو في تعارض معها. القبيلة موجودة تحت القشرة الرقيقة للمدينة. والشاعر هنا إله. نبي. رسول. معلم. وهو أيضًا مغنٍّ. اختار أمل المراثي، ربما كان أقرب إلى فكرة جميلة عثرت عليها في كراسة رشيقة كتبها الشاعر ويستن أودن عنأزمة الشاعر في أزمنة المدنوهي انه في زمن الحروب، إما أن يكون الشاعر فدائيًّا أو جاسوسًا ولا يصح أن يكون جنديًّا نظاميًّا“.
اختار أمل أن يكون فدائيًا. وهو يقول في فيلم عطياتطبعًا شخص مثلي يجلس في مقهى ريش ويقابل أناسًا من جميع الاتجاهات فهذا يشكل رؤية اجتماعية في الفترة السابقة على 1967، وكان حقيقة فالاختيار الذي اخترته صعب جدًا وهو أن أكون أنا وليس ما يريده مني الآخرون، سواء كان الآخرون سلطة أو من المثقفين الدائرين في فلك السلطة أو حتى كان اتجاهًا مؤيدًا
مثلاً كان هناك اتجاه يرى أن مصر قبل 1967 كانت دولة عظيمة ودخان المصانع أجمل شيء يغطي السماء وكل شيء زاه وجميل، وأنا في حقيقة الأمر أرى عكس ذلك، حتى عندما كنت أكتب شعرًا لم أستطع أن أنشره في ذلك الوقت، وعندما نشرته فيما بعد، كثيرون اعتقدوا أنني كتبته بعد الهزيمة، لكون الفنان أو الشاعر يلتزم بموقف ويصر عليه على الرغم من أن كل من حوله حتى الناس الذين احترم آراءهم كانوا ضد الموقف، أي فنان لا بد أن يدفع ثمنها ليس فقط ثمنها الاجتماعي، وإنما أيضًا ثمنها في المناقشات والانفعال في أثنائها، وهذا الخلاف في الرأي لم يكن يمنع الود والصداقات. فبعد هذه المناقشات الحادة نلتقي ونسهر ونذهب إلى السينما والمسرح والحقيقة أن فترة الازدهار التي كانت موجودة انعكست بشكل جميل على كثيرين…”.


5
صنم على رف الأبيض والأسود

في الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام أمل دنقل يداعب الدكتور نصار عبد الله وبجواره الدكتور جابر عصفور وفي حضور الدكتور لويس عوض وأقصى اليسار الدكتور محمد بدوي

هكذا كان أمل وكأنه على وشك الانفجار. يرونه في السلطة يساريًّا، واليسار  اعتبره مخبرًا لأنه لم يدخل السجن. وهو لم يدخل السلطة ولا دار في مدارات نجومها لأنه أولاً كان يشعر بكراهية من نظام الجنرالات على الرغم من أنه لم يختلف مع مشروعه القومي. أما هو فاعتقد أنه منافس للسلطة؛ ووريث عروبة مستمدة من القبائل العربية وتراثها وأساطيرها. وفي الوقت نفسه لم ينضم لتنظيم سياسي؛ فكان هذا سببًا في فقدانه شارة التميز وقتها: دخول السجن.
هكذا وضع خيمته على أطلال مشروع عبد الناصر. ومن بعده أصبح شاهدًا على عصر السادات. من حركة الطلاب في إلى فك الاشتباك الثاني بعد حرب أكتوبر وحتى الصلح مع إسرائيل. لم يترك أيضًا التفاصيل الصغيرة من انتشار زمن البيع من مواقف السياسيين إلى أجساد الفقراء في سوق كبير كان هو شكل مصر في السبعينيات. وفي كل هذا هو النبي المبشر بلحظة قديمة جدًا. لحظة المجد الذهبية. والقيم المطلقة وكعادة كل تبشير، ارتبطت أفكاره بالقيم المطلقة. بدا بدويًّا أحيانًا، وداعية للقومية المغلقة المتعصبة أحيانًا، ومجرد شاعر سياسي غالبًا. لكن أنقذته الموهبة وذكاء التقاط التفاصيل المعاصرة في لحظة عمل الذاكرة القديمة نفسها. لم يكن مع شعراء الأناشيد السياسية. وبقى مع مصاير شخصياته المغمورة في الأماكن الهامشية في القاهرة. الشوارع ليلاً والحانات، والشقق المفروشة. بقي مع صوره الخاصة ورؤية ذاتية لا يتمثل فيها نبوة ولا فروسية قديمة فيأوراق الغرفة “.
وهذا ما تخفيه اختصارات السياسيين الذين يبررون هزائمهم باستدعاء قصائد أمل دنقل. وبعشاق صنع الأساطير الذين يقيمون أصنامها ليطمئنوا إلى أفكارهم وليكتسبوا وجودًا من البقاء بجوار الصنم. وليطمئنوا إلى أنهم يمكن أن يلعبوا بقيم عالم الأبيض والأسود، عالم الوضوح الناصري: الأعداء والحلفاء. في عالم مختلف ليبدو لعبهم مقاومة للواقع وهو في الحقيقة هروب. يحول أمل دنقل من شاعر فعال إلى ذكرى قديمة منتهية المفعول. الآن أرى ضرورة أن نهرب نحن من اختصار أمل دنقل، ومن حبسه في فاترينة السياسة والسلطة. والتفكير فيه كشاعر يلعب، ليفسد كل الترتيبات من حوله. هل كان أمل دنقل شاعرًا يلعب فعلاً.

*الصياغة الأولي:يناير2009