نسختنا السرية:أحمد خالد توفيق والرعب

وائل عبد الفتاح

وقفت الدولة حائرة؛ كيف لم تدرك حجم الكتلة التي تحب أحمد خالد توفيق! أدركت الصدمة من الجنازة؛ آلاف المعجبين سافروا إلى مدينة طنطا في قلب الدلتا، ليودعوا كاتبهم المحبوب. وهذا مهين لأجهزة ترصد دبة النملة عندما تصبح خلية نمل؛ أي كل تجمع بشري، وتخرج من دواليبها عدة السيطرة، يحدث هذا في كل المجالات؛ السياسة والرياضة والدين والفن والميديا.

كانت الصدمة ضخمة؛ عبَّر عنها مذيع مشهور معتق في دروب الأجهزة، بنوبة من اللوم “ تبحثون عن الشباب ليذهب إلى صناديق الانتخابات بينما هم في جنازة كاتبهم.. هل تريدون أن تعرفوا أين الشباب؟ إنهم يقرأون روايات ذلك الكاتب الذي لا أعرفه” هذا ما قاله (بتصرف) محذرًا أجهزة السيطرة من غيبوبتها. كيف لم يدركوا سحر كاتب بعيد عن الأضواء، يكره العاصمة، ويكتفي بشبكة محبين عرفوا القراءة في مراهقتهم عبر سلسة من أدب الرعب. يسمونه العرَّاب. وهو كذلك إن تتبعنا مرثيات موته المبكر. أو حصدنا بذور  “أخوية”  تكونت حول العالم الخيالي لأبطال اختارهم بعيدًا عن الخوارق.

1
بدلة المعبود

ما اللافت في بدلة زرقاء؟

يمنح الأدب لتفاصيل منسية، مثل هذه البدلة الزرقاء، اسمًا ومعنى.. ولهذا يكرر “رفعت إسماعيل” الحديث عن بدلته الزرقاء التي تجعله فاتنًا. يكرر هذا في كل رواية من سلسلة “ما وراء الطبيعة “، إنه بطلها الذي لا يشبه الأبطال الخارقين الذين كانت تلهث خلفهم روايات الصبيان والمراهقين، وهو عدمي، ومهزوم، وواهن، لا مصدر للقوة فيه سوى عقل يحفل بأرشيف مثير من حكايات الرعب.

كيف أصبح رفعت إسماعيل معبودًا ومنقذًا ودليلاً للمراهق الذي يعيش غموض التسعينيات في البقعة المسماة بالعالم العربي؟

أحمد خالد توفيق يفاجيء بصورة رفعت إسماعيل

2
ماوراء الفانتازيا

ظهر رفعت إسماعيل حين تحول انسجام الستينيات إلى غموض؛ وذلك حين اختاره أحمد خالد توفيق بطلًا لسلسلته “ما وراء الطبيعة”؛ بعد 3 سنوات من احتلال صدام حسين للكويت. هذه اللحظة التي لم يعد ممكنًا فيها إخفاء تفتت الحوائط القديمة للانسجام الذي أرادته تنظيمات التحرر من الاستعمار. هذه التنظيمات بدأت كالمافيا عصابات نبيلة لاستعادة البلاد من المحتل الإمبراطوري، وفقدت نبلها تدريجيًّا، بالنزعة السلطوية والتفاخر الذكوري والتماهي مع مشاعر النبوة الأرضية، رافعة راية الرسالات الكبرى والخلاص، وهذه عناصر تعميم فانتازيا دولة ما بعد الاستعمار.

تعتمد هذه الفانتازيا على الخيال والإذعان؛ الخيال يحمل رواية السلطة عن ذاتها وعن العالم، بل هو جزء من بنية هذه الرواية. والإذعان هو الأداة أو الأدوات التي تخلق قطعانًا تعيش بالعبودية المختارة، تعيش جمهورًا منسجمًا مع الرواية، خاضعًا لرسالتها، مؤمنًا بأن الرواية المتخيلة للسلطة قدر لا فكاك منه، فيه السعادة ولا مستقبل دونه.

هذا الخيال يصنع الانسجام، الذي هو “توحيد” المجتمع في مزاج نفسي/ عاطفي تسيطر عليه السلطة، وتختار حتى معارضته، هذا الانسجام يتحور كلما فشلت السلطة الشمولية في إدماج المتمردين على روايتها في الرواية نفسها، فيتحول الجمهور  إلى عنصر في الرواية بتوريطه في نوستالجيا لحظة الانسجام باعتبارها “اللحظة الذهبية” التي يمثل الابتعاد عنها “الرعب الكامن” في الجموع الخاضعة. الانسجام قدر، كما الرواية. والدولة معبد/هرم يحكمه الكهنة ويزدهر كلما ارتفعت صيحات كورال هستيريا الخائفين خارج المعبد.

هنا وبالتحديد كلما يكتمل هذا المشهد تتجلى “ميتافيزيقا الدولة”.

عبد الناصر بدأ فترة رئاسية في مارس 1965،وبعدها بأسابيع كان الإعلان عن غزو مصر للفضاء

غلاف عدد ``المصور`` الذي نشر فيه على عشر حلقات التحقيق السري عن قرب الإنتهاء من سفينة الفضاء المصرية

3
الكفاح العلمي

قبل ولادتي بـ 28 يومًا تقريبًا كان الإعلان عن “سفينة فضاء مصرية”. كان ذلك عام 1965 نهاية أول خطة خمسية، أول وعود دولة “الأب” لشعب متعطش لمستقبل سعيد. والخطة التي حققت أهدافها بنسبة 97٪ كما يذهب المنحازون للحكم الناصري، وسحبت على الرغم من “النجاح” كثيرًا من الفانتازيا، في طريق موحش إلى واقعية أثارت المخاوف من المستقبل.

جمال عبد الناصر كان قد بدأ فترة رئاسية جديدة في مارس، قبل أسابيع قليلة من ظهور البشارة في أسبوعية “المصور”؛ غلاف أحمر مكتوب عليه بالأسود “سر يذاع لأول مرة” وباللون الأبيض “سفينة فضاء مصرية”، على الرغم  من أنها جملة غير تامة، لكنها كتبت تحمل سمت وسحر التبشير بدخول مصر إلى عصر جديد عبر “الخيال العلمي”.

مغامرة “سفينة الفضاء” نشرت على 10 صفحات كاملة بدأها المحرر بسطور مثيرة ومؤثرة؛ كتب فيها “96 ساعة مضت قبل أن أحصل على موافقة خاصة بدخول منطقة الأسرار -منطقة أبحاث الفضاء المصرية- ومضت بنا السيارة إلى مكان ما في منطقة ما ببلادنا، لنعيش ساعات غير متصلة قصة كفاح علمي عسكري مدني ينتهي بنا إلى إطلاق أول كبسولة فضاء عربية تحمل كائنا بشريًّا حيًّا مصريًّا إلى الفضاء الخارجي..”
يكشف استخدام المحرر تعبيرًا لافتًا هو “الكفاح العلمي” جانبًا من علاقة الدولة الشمولية/الموديل المصري بالخيال العلمي. وهو نوع من أوراق الترشح في “السباق العالمي بين الشرق والغرب” على امتلاك “قوة علمية”، وهذا ربما يشرح لماذا كتب المحرر في تحقيقه المثير أنه “بناء على توجيهات الرئيس عبد الناصر تقوم لجنة مكونة من علماء القوات الجوية والصواريخ وبعض الأطباء المصريين وعلماء الفلك والهندسة بإعداد برنامج دراسي سيخصص للدراسات العليا التي تعدها جامعة القاهرة لأبحاث الفضاء كي يتخرج إلى الحياة جيل جديد من الجامعيين الدارسين للفضاء وعلومه، حتى لا يصبح الأمر وقفًا على علماء القوات المسلحة”.

هذا مجرد مثال على تجهيز “مجتمع الحرب”، قبل الهزيمة، التي أسماها الكاهن المحنك الذكي: النكسة. والتسمية مهمة في صنع خيال يرى فيما حدث ظهيرة 5 يونيو على أنه حدثًا عابرًا، وفيما سيحدث بعدما يخرج قطعان العبودية المختارة يهتفون ببقاء الأب الجمهوري ليقوم من نكسته.

وبعد نكسة الأب بسنوات كان لا بد أن تنتظر قطعانه المرعوبة/البائسة أبطالاً مثل “أدهم صبري” رجل المستحيل.

بطل المخابرات الذي يرمم البطولة الممزقة؛ ذلك الترميم الذي يطمئن عموم الناس على اندماجهم. 

التحقيق السري

الكلام عن غزو لفضاء كان أقدم من السر الذي كشفته ``المصور``

4
اليوتوبيا من الفانتازيا

رفعت إسماعيل، حكاء الرعب الذي يشبه في الملامح والشخصية والتكوين العقلي مؤلفه أحمد خالد توفيق، وُلِد في سنوات التمهيد لهزيمة الفانتازيا الناصرية، وفي نفسيته وعقله ركام هذه الهزيمة ورماد إنكارها. ومعًا (البطل والمؤلف) اجتذبا قطاعات واسعة من جيل شارك في صنع “يوتوبيا” يناير 2011.

رفعت اسماعيل كما ظهر في روايات سلسلة ``ماوراء الطبيعة``

هذه مفارقات الولادة بين الركام، حيث اكتشف المؤلف(أحمد خالد توفيق) في التسعينيات مكانه في التسلية المرعبة. قال في حوار أخير (بتصرف): “… بعدما كنت أكتب قصة قصيرة واقعية متأثراً بمكسيم جوركي، حسيت في لحظة أني يجب أن أتوجه للجمهور…كان هناك كاتب اسمه نبيل فاروق يكتب سلاسل بوليسية وجاسوسية قلت ماذا ينقص السوق؟ وفكرت في الرعب…قلت أنا طول عمري أحب الرعب…أكتب رعب”.

وجد أحمد خالد توفيق المكان الفارغ في السوق، بوعي المتخلي عن واقعية جوركي، التي كانت في طور الاندثار أساسًا، مع صعود أجيال تبحث عن الحكاية الشخصية، بينما كان الجمهور متخمًا بسعي رواية سيد قطب عن العالم، لإتمام الهيمنة على أطلال جمهور الفانتازيا الناصرية.

رفعت إسماعيل لملم هذه الأشلاء، دون أن يطلب منها موقفًا من العالم. فقط تتبع حكاياته من عالم الرعب الشخصي.

أيقظ رفعت إسماعيل النسخ السرية من الذين لم يهتموا بإظهار انحياز نهائي من العالم. وعبر براعة أحمد خالد توفيق في التقاط التيمات والحبكات المميزة لأدب يلعب على الرعب الشخصي من المستقبل، لا من الرعب العمومي في أساطير نهاية العالم ولا دمار العالم في قيامة القنبلة الذرية. إنه الرعب من هواجس لا ترتبط بتواريخ الرعب المحلية، لكنها تربط أجيالاً تعيش في فقاعاتها الشخصية. على هامش الدولة المستقرة في تحللها. تربطها بخيوط مع كاتب لم يحب العاصمة ولا الشهرة المبالغ فيها.

في محاكمة المتهمين بمحاولة إغتيال نجيب محفوظ سنة 1994

صورة شهيرة لواحدة من جولات نجيب محفوظ في المدينة

5
العارف و العطار

بعد عام تقريبًا من بداية سلسلة “ما وراء الطبيعة”، غرس قاتل سكينته في رقبة نجيب محفوظ.

القاتل لم يقرأ “أولاد حارتنا” الرواية المحرمة، إنه مجرد واحد من جمهور الرواية المتخيلة عن العالم، وجندي من جنود سلطتها في إصدار الفتوى. ونجيب محفوظ في الرواية يبني عالما متخيلاً عن علاقة السماء بالأرض، أو عن أبطال يعيشون في خيالنا؛ أبطال تروى قصصهم علينا ونحن أطفال. يتحولون إلى أساطير تصارع شياطين الظلم والفساد والشر.

التحريم والفتوى أداتان من أدوات السيطرة على الخيال، واحتكار الجمهور في حرب فانتازيا “الصحوة” الإسلامية التي قامت على أنقاض فانتازيا التحرر الوطني (الناصرية)، ونجيب محفوظ في روايته كان مزعجًا لطرفي الحرب، مغرم بالفلسفة وطريقتها في تفكيك الحقيقة الكبرى، واتخذ من قصص الأنبياء وغيرهم من أبطال خيالنا مسرحًا لمناقشة فكرة بسيطة؛ وهي حتى متى يتحمل الناس في الحارة البغي والظلم؟

الأهم من فكرة الاستفادة من قصص الأنبياء هو انحياز نجيب محفوظ إلى «عرفة» (والاسم كما يبدو مستلهم من فكرة المعرفة)، وهو في الرواية رمز العلم الذي كانت الفلسفات الحديثة تقدمه في الخمسينيات على أنه «الدين الجديد».. وهو يتصارع حسب خريطة الرموز مع الأبطال الآخرين. وهذا ما يجعل محفوظ وهو ينحاز إليه، ويضيف إلى قدراته ميزة أخرى وهي الجمع بين العلم والإيمان. وبين التعرف على العلم الحديث والمعرفة بخبرات العطار القديم. «عرفة» حسب بناء الرواية كان أقرب «أنبياء حارتنا» إلى نجيب محفوظ.

مصطفى محمود كان من هواة الظهور فى أجواء المعامل العلمية

6
رخاء المؤمن

أحمد خالد توفيق من عمري تقريبًا؛ مولود قبلي بسنتين، من طنطا عاصمة المحافظة التي تتبعها مدينة ولادتي؛ المحلة الكبرى. وابن المجال الاجتماعي الذي ولدت فيه. وبدأنا المراهقة مع البشائر الأولى لجحيم الطبقة الوسطى حين بدأت الدولة طريق التحلل من مهامها الأبوية مع احتفاظها بسلطة الأبوة كاملة.

السادات لم يكن أبًا بالمعنى الناصري؛ المقاتل، المحارب، المناضل، بل “رب العائلة المصرية الكبيرة”، راعي دولة العلم والإيمان، ذلك المزيج الذي يحول فانتازيا التحرر الوطني إلى عرض تليفزيوني، يظهر فيه الأب الجمهوري بملابس تقليدية متكلمًا باللكنة الريفية، مصحوبًا بوصف الرئيس المؤمن، بينما يرتدي في الجولات الخارجية أحدث قصات بيوت الموضة في الغرب.
اختفى الكفاح من القاموس بما في ذلك الكفاح العلمي، وانتقلت المسارح الاستعراضية من الساحات والميادين إلى التليفزيون بالكامل، حيث الرئيس نفسه ملك من ملوك الاستعراض، وعقيدة “الدولة” الجديدة تتجسد في برنامج تليفزيوني اسمه “العلم والإيمان”، قدمه مصطفى محمود وهو طبيب اشتهر في منتصف الستينيات ككاتب مولع بموضات الأفكار في الغرب من النزعات الوجودية، إلى كتابة الرعب المعتمد على الخيال العلمي. وفيه كتب روايته “العنكبوت” في 1965، عام “سفينة الفضاء” عن راغب دميان المهووس بفكرة الاستنساخ، أو الحياة المتعددة للإنسان في أكثر من جسد، الهوس الذي أدى إلى موت صاحبه، بعد أن تحولت الرواية إلى عمل تليفزيوني.

ترك مصطفى محمود الطب وتفرغ للكتابة، بداية من الرد على المشكلات العاطفية في مجلة “صباح الخير” إلى إثارة الأسئلة التي كانت رائجة أيامها عن علاقة الجسم بالروح/الحياة بالموت /العلم والدين، وصُنِّف ملحدًا بعد سلسلة مقالات في كتاب عنونه بـ “الله والإنسان”.

تزامن هذا مع هوس الدولة بالعلوم، ولم يقتصر ذلك على “سفينة الفضاء”، ولكن في مجالات التصنيع العسكري؛ حيث استضاف عبد الناصر العلماء الألمان الهاربين من محاكمات النازي.

لكن بعد انتهاء زمن “الكفاح”، وتبشير الرئيس المؤمن بعصر الرخاء الذي لم يأت أبداً، اكتفى العلماء بالاندماج، وعاشوا بأسماء مصرية، نسخًا مدهشة للتحولات الإنسانية، وأعلن مصطفى محمود توبته؛ وكتب مقالاً شهيرًا أعد فيه قوائم للذاهبين إلى “الجنة والنار”، قبل أن يبدأ رحلته في العودة من “ الشك إلى الإيمان“ وأخذ يعرض أفلامًا غربية عن العلوم، يستعرض فيها معجزات الاكتشاف العلمي بدقة متناهية، ورأسه تهتز كما الدراويش، بينما حنجرته تستطيل وهو يعلق على المعجزة بعبارة يمعن في تنغيمها  “سبحااان الله”.

السادات أول من جعل علامة الصلاة أو الزبيبة كما يسميها المصريون من إكسسورات السلطة

7
مجسم الرعب

في وسط القاهرة مبنى ضخم لمكتبة الجامعة الأمريكية، دهشت قبل عشرين عامًا عندما عرفت أنه مصمم أصلاً ليكون أحد الخنادق ضد القنبلة النووية. ويدهشني الآن وقد تحوَّل الحرم اليوناني الذي يضم الخندق النووي، إلى فضاء مفتوح متعدد الأغراض، يحوي مقرات شركات ناشئة، ومساحات للحفلات واسعة الجمهور، اتسعت مؤخرًا رأسيًّا لتسمح باستخدام أسطح المبنى في إقامة حفلات تستقبل أعداد مختارة وفق كود الانتقاء الاجتماعي، تحوَّل الخندق النووي إلى مركز من مراكز الإحلال الطبقي لقلب القاهرة.

كلاهما؛ الخندق والمركز، فيه غربة حتى عن غرباء “المدينة” من سلالات كانت ناتئة في “الانسجام “ وفي الركام الناتج عنه.

مجسم الرعب أُنشأ تقريبًا و”رجل المستحيل” أدهم صبري، يرث “الشياطين ال13” كلهم. أبطال مراهقين ولدوا في الفجوة الزمنية التي سقط فيها المجتمع والدولة بعد يونيو 1967.

كنت في مراهقتي متيمًا بألغاز “المغامرين الخمسة”، لم أعرف كاتبها محمود سالم، ولا انشغلت بتفاصيل حياته، ولا أدركت أنها نسخة مصرية من سلسلة إنجليزية اسمها “كاشفو الحقائق الخمسة”.

كانت مغامرات عاطف ولوزة ونوسة ومحب وكلبهم زنجر هي ولادة الخيال خارج غرفتي، وعالمي المنعزل وسط أسرتي، خيال مشترك لكنه يحول الورق إلى كهف من السمر مثير ولطيف، أنتقل فيه من المدينة البعيدة في الدلتا إلى ضاحية المعادي، مصحوبًا باكتشاف عالم أوسع مع اللهاث لحل الألغاز بوليسية، وهو ما ربط غريزة الفضول بحياة أوسع من تعليمات العائلة والمدرسة ومؤسسات التربية المحافظة كافة.

لم تفعل “الشياطين ال13” كل ذلك؛ كان عالمها بالنسبة لي مغلقًا على بطولة ترتبط بالأسرار العليا، ربما جديتهم تشبه صورة رجال مخابرات تحت التمرين، وربما مهامهم الكبرى كانت جزءًا من عالم ممل تلاحقنا أخباره دون طرافة العالم المثير لجيمس بوند، رجل المخابرات الساحر، المستمتع بالحياة، اللاهي في مهامه الكبيرة، والمستغني عن رومانسيته المثالية، وهو يحقق أهدافه النبيلة.

رومانسية “الشياطين…” كانت قديمة. هدفها طمأنة قطعان هائمة تنتظر بطلاً.

8
قطعان إفتراضية

مع التكنولوجيا، توالدت الرغبة في تكوين قطعان افتراضية، أكثر ذكاءً، وسعة في الأفق.

وهكذا تجمعت حول كتب جيب تحمل حكايات رجل، عجوز أصلع، رفيع كقلم الرصاص، مقبول المظهر، مريض، يتغذى على اقراص النتروجلسرين بسبب ضيق شرايين القلب.
رفعت إسماعيل نسخة مكتوبة من أحمد خالد توفيق، الذي كان يحكي ليذهب الخوف عنه وعن عائلته. ومن رفعت اسماعيل ظهرت نسخًا أخرى “علاء” الطبيب صاحب المغامرات في أفريقيا، و”عبير” التي تتميز بأنها لا تتميز في شيء. لكن خيالها واسع.

جنازة أحمد خالد توفيق في مدينته طنطا التي عاش فيها طيلة حياته

ذكاء أحمد خالد توفيق، أنه لمس شيئًا ما يجمع حوله “أخوية” افتراضية حول الرعب الشخصي. يعتمد في حبكته على مرجعيات سينما الرعب، وروايات أشهرها لستيفن كينج، ويستطيع أن يخلق عالم مشترك بين مراهقين يعيش كل منهم في فقاعته وهامشه.

كان الرعب هنا شفرة هذه الأخوية، بما أنه يسمح للنسخة السرية بالطفو مع كل عدد جديد، لم تكن هذيانات بل شحنات تغذي الانفصال عن النسخ المنسجمة مع “القطعان الهائمة” المنتظرة لبطلها الذي كلما أتي صنع الكوارث. وفي واحدة من مغامرات رفعت إسماعيل، يقابل نسخته التي يعيش في عالم موازٍ، كما تقول نظريات في الخيال العلمي، لا يتحمل رفعت وجود نسخته، فيصنع له فخاً لإعادته إلى العالم الذي أتي منه.

من هذه الشفرات المخبأة في الجيب، والرابطة التي تتكون عبر الرعب، كان جمهور أحمد خالد توفيق خارج رادار الدولة، ولأن الكاتب بعيد عن الشهرة، وظل مخلصًا لما يطلبه مستمعوه، فقد ظلت الرابطة بينهم بعد أن رحل رفعت إسماعيل، وبعد أن خبا تأثير الـ 18 يومًا، وهُزمت يوتوبيا يناير.

لم يجد هؤلاء ثابتًا سوى ذاكرة القراءة الأولى، حيث الرعب، وكاتب كان موته مدهشاً كأنه نهاية رواية من روايات تسلية المراهقين.

أما الجنازة فكانت موعداً للإفلات من مصير مشترك مع القطعان الهائمة، وهي في لحظة إعادة بناء الانسجام القديم المتهالك، ولن تقبل إلا بانضواء القطعان الافتراضية المتمردة، وإلا ستلتهمها التهامًا.

وهذا رعب قد يكون بوابتنا للمستقبل. وأقول قد لكي لا تتصوروا أنني أقول نبوءة؛ فقد أهلكتنا النبوءات وأصحابها؛ وقتلنا اعتبار جورج أورويل مبدعًا فقط لأنه توقع الأسوأ، ويعلو شأن واحدة من رواياته المتواضعة لأنها تشبهنا الآن

وليس أسوأ من ارتباط المستقبل بالبضاعة الرديئة.

  • ورقة قدمت في منتدى “المستقبل متخيلاً” الذي نظمته مؤسسة آفاق ؛ برلين- يونيو 2018