عبده داغر أو لكي لا تشعر المدينة بالحزن

ما عثرنا عليه في بيت المعلم

أحمد أبو الحسن

ذي

في طريقي إلى مسجد الحصري بـ 6 أكتوبر، مع صديقي الموسيقار علي خطاب حيث صلاة الجنازة على العازف المصري الكبير عبده داغر، همس كلانا بالفجيعة والخسارة الموسيقية التي سيتلوى بها تلاميذه؛ فعبده داغر ليس مجرد عازف فطري مهم في تاريخ الموسيقى المصرية، بل مدرسة مستقلة بذاتها، من أول تصنيع الآلة الموسيقية، ومرورًا بالمقامات الموسيقية والتأليف والعزف.. لم يخل بيته ليلة من العازفين، وبراد شايه لم يكف عن الغليان فرحًا بهم، وسيظل علامة فارقة في وجدان جيلنا وأجيال قبلنا وبعدنا، كلها استمعت إلى كمانه في صولوهات مطولة، مع عدوية وروح الفؤاد ومداحين شعبيين، ومطربين كبار كأم كلثوم، ومشايخ في قمة مجدهم الروحي والموسيقي كالشيخ محمد عمران..
لقد عاش الفنان الكبير ومات عازفًا مصريًّا مستقلاً، لا يتبع مؤسسة ولم يكن يومًا رجل دولة، مع أنه لو في بلد أخرى لمنحته الدولة مقرًا أثريًّا ليستكمل مدرسته العريقة، وتوثق له نغمه وعلمه، وتشير إليه بنصف الفخر والاعتزاز الذي يحظى به في البلاد الأوروبية.. لقد خالطت موسيقيين من كل العالم كلهم يعرفونه وسمعوا موسيقاه، وهو صاحب مقطوعة إخناتون ودولاب حجاز، والنيل، فنان مصري فطري لا يقرأ ولا يكتب، لكن مدرسته مفتوح بابها على مصراعيه في منزله، منذ جاء من طنطا في ليلة شتوية في الخمسينيات..
وكان أكثر ما أدهشني في الفنان عبده داغر هو ذلك الحرص اليومي على إملاء كل ما تعلمه لتلاميذه؛ يجرب أعوادهم بأنامله، ويعزف على كمنجات أصغر واحد فيهم، ويضبط المفاتيح بدأب وصبر.. خسارة فادحة خسرتها الموسيقى المصرية لا يعرف حجمها إلا نحن الفنانين المستقلين، لن يكون هناك ليال في منزل عم عبده في الحدائق، تلك الرحلة التي كلما قطعها أي تلميذ من تلاميذه ارتسمت على وجهه ابتسامة لا تختفي ما دام يستمع إلى حكايات عم عبده الأسطورية، حيث أسماء النجوم الفطاحل تتطاير هنا وهناك، مع مسحة فطرية تربط أحوال النغم والفن بالسياسة.. لن أنسى أبدًا أن عبده داغر كان من القلائل في حياتي الذين حدثوني عن ثورة وشيكة على مبارك قبل أن تقع فعلاً بخمس سنوات، ولما صعد الإخوان قال إننا لن نتحملهم شهورًا قليلة!

٠٠فك الشفرات

وأعترف للعازف المصري الكبير عبده داغر بالفضل في أنه فكك لي شيفرة العقدة بين الموهوبين والمدينة الكبيرة، تلك العقدة التي ربتها المركزية في كل الأجيال التي تلت ثورة يوليو، ونماها منذ مراهقتنا أجيال من الشعراء والقصاصين والموسيقيين، وهم يتصلعكون مع المعاناة في المدينة الكبيرة التي تبتلع المبدعين السذج وتلقي بهم على الأرصفة في المقاهي وفوق الأسطح في غرف عفنة، أجيال من الفنانين ولدنا لنجدهم يلعنون الغربة في المدن الكبيرة الصاخبة المتوحشة، إلا عبده داغر من بين كل هذه الأجيال قدم من إقليمه ليشارك في صنع صخب المدينة، في الكباريهات ومع المداحين الشعبيين في الموالد.. سيظل عبده داغر محطة مهمة بالنسبة إلىَّ في هذه المدينة، وابتسامتي المرسومة على وجهي كل مرة وأنا أقطع شارع رمسيس والعباسية في الطريق إلى بيته في حدائق القبة ستظل مرسومة كلما تذكرت تعليقه مرة على سذاجتنا نحن الريفيين لما نعمل لصالح المدنية التي لا ترحم “تخيلت نفسي وأنا صغير مثل هذه السيدة التي تجمع السمن والجبن والمش من القرية وتذهب لتبيعه غالي الثمن لسكان في المدينة يشتهونه”..
عبده داغر هو شنطة النقود التي كان يعود بها البيت بعد العمل لثلاثة أيام متواصلة مع أحمد عدوية في أكبر صالات مصر.. شفقته على بليغ حمدي بعدما انتحرت من شرفته مطربة واتهموه بقتلها فطلب من بليغ أن يبقى عنده يومين ليستريح.. معلم المقامات الموسيقية الحاج عبد الفتاح الذي كان بين الفينة والأخرى يدخل علينا في مجلس عم عبده في يده طفلتين ريفيتين جاءتا في القطار كي يسمعهما عبده داغر ويرشد معلم المقامات إلى ما يميز كل موهبة منهما.. العازفون القادمون من كل مدن الدنيا يمسكون بأيديهم آلاتهم الشعبية الأوربية وينتظرون إشارة المايسترو ليبدأوا في عزف مؤلفاته على آلاتهم الغريبة عن مدينتنا.. عراك العازف المستقل الكبير مع الدولة.. ردوده اللاذعة على أسلوبها في تعامله مع صنعته.. ميراثه الموسيقي كله تتماهى فيه هذه الثنائية؛ الموهبة والمدينة، حيث الراقصة الفاتنة، والمطرب الشعبي النجم الذي يكسب الملايين في الليلة، والشيخ الكفيف القادم من المنصورة ليتمرن كثيرًا مع العازف الشعبي المتمكن ويتحقق، ويعيش ابتهاله حتى يومنا هذا ليمتع كل الأجيال.. صخب المولد في ساحة السيد البدوي وصخبه في ميدان السيدة نفيسة.. فنانو الإسكندرية؛ روح الفؤاد وهي تنتظر تسليمة الكمان من عبده داغر كي تدخل في الموال. وفي القاهرة كانت توجد مدرسة أخرى في الموال. لكن الجميع يقتبسون من القرية، حتى أصخب الصالات كان أبطالها عازفين ومطربين ونجومًا في الموال، تدربوا في المدرسة الشعبية المصرية حيث تستعيد البطانة خلف الشيخ طه الفشني، أو علي محمود، أو حتى إبراهيم الفران، المقام الموسيقي الرئيسي بعد كل وصلة غناء من الشيخ، الذي دائمًا ما يكون ذا طابع مصري ريفي خالص، أو ذلك المداح المنجلي في ليلة المولد الأخيرة يتعاجب بحنجرته المصرية الألماظ التي تراكم عليها آلاف السنين من التراتيل والاحتفالات الملكية والطقسية.

طيلة صداقتي وتلمذتي على يد الموسيقار عبده داغر حرصت دائمًا على أن أراقب تلك الثنائية بين موهبته والمدينة، وكنت لا أكف عن سؤاله بشأن ذلك، وكيف أن جيله وأصدقاءه من هؤلاء الموسيقيين الفطريين صبغوا أناملهم على سوق الأغنياء منذ قصور الباشوات قديمًا وحتى الآن في الأفراح الباهظة، فهناك زملاء كثيرون لعبده داغر وبنفس قدر موهبته جرفتهم المخدرات أو النساء، وانصرفوا عن النغم وماتوا منسيين في أجواء المدينة الكبيرة ونجوميتها.. ومن هذه الشلل الموسيقية التي اعتاد تكوينها طيلة حياته تعلم عبده داغر الكثير وعلَّم الكثير، رأى بعينيه صاحب محل الشرائط على محطة طنطا وهو يصعد نجمه حتى احتكر حق بيع وبث أغاني فطاحل الغناء.. ورأى بعين خياله أم كلثوم وهي في قطار الدرجة الثالثة في يوم ما من عشرينيات القرن الماضي في طريقها إلى القاهرة، المدينة المركزية الكبرى، لمقابلة أبي العلا محمد، حين لم يكن خيالها يتجرأ على ما ينتظرها من مجد، هكذا دائمًا ما كان عبده داغر يجيب كلما يسأله أحد عن أم كلثوم.. مثلي كانت تشغله هذه المركزية الملعونة، أن تغادر مدينتك وراحتك وذكرياتك وتذوب في أحشاء المدينة الكبيرة تدفع الأثمان من أجل مجد ربما يجئ مصادفة.. أنا وعشرات، وربما مئات، فككنا عقدة المدينة الكبيرة في بيت الموسيقار الكبير عبده داغر.. كنا صغارًا جدًا، نخاف حتى من ننطق باللهجة القاهرية ولنا أستاذ لاذع اللسان يسكن في قلبها ويعرفه كل شياطين المدينة ويهابون غضبه من نرجسية سكانها..

 في إحدى حفلاته بدار الأوبرا وهو يختبر الصوت، لم تعجبه جودته، فأرسل مرسالاً إلى مهندس الصوت الذي يجلس في المسرح المكشوف، بغرفة بعيدة عن المسرح، وتطوع الفنان محمود حميدة للذهاب إلى مهندس الصوت بدلاً من أن يترك أحد الموسيقيين مقعده، وأجابه الموظف إجابة تدل على عته وظيفي؛ إذ قال مهندس الصوت لحميدة إن رخام أرضية المسرح المكشوف يعطي مسحة من الحدة في الآذان، وأن الصوت الذي يخرج من غرفته منضبط ولا يحتاج إلى تعليق، عاد محمود حميدة يضرب أخماسًا في أسداس، ولا يعرف كيف سيبلغ رد مهندس الصوت لعبده داغر، لكن لا سبيل إلا الحقيقة في موقف كهذا، إذ سيبدأ الحفل بعد دقائق معدودة “لكنه لن يبدأ”، هذا ما قاله عم عبده وهو يأمر موسيقييه بالنزول فورًا من على المسرح، مصطحبين آلاتهم؛ بآلته في إشارة إلى الجمهور ومنظمي الحفل بأن الموسيقيين لن يكملوا الحفلة اعتراضًا على سوء التنظيم وإيكال أمر الصوت في الحفلات المهمة إلى مهندسين موظفين لا يؤدون عملهم بالشكل يليق بالموسيقى.

عبده داغر مع محمد الحلو وزينب يونس وامير عبد المجيد ومحمد عبد العزيز وممدوح الورافي

٠٠المدينة لا تحب الحزن

كان يقول دائمًا إن صخب المدينة يحب نوعًا صاخبًا من النغم، أما الريفيون وأبناء ملاجئ الأيتام فهم فخر الإحساس الموسيقي المصري، كبار الملحنين والمطربين والمغنيين في مختلف عصور الموسيقية جاؤوا من هذه الملاجئ، فالمدن في مصر لا تحب الحزن، تحركه نحو الانفتاح ينم عن فهم فطري لثنائية معقدة تتعارك فيها الموهبة والمدينة.. وفي المدينة جلب مطربًّا شعبيًّا كان يلح عليه في أن يعلمه المغنى؛ اسمه أحمد عدوية، الذي التصق بفرقته الموسيقية واخترع لنفسه عملاً، كي ينفرد بآذانهم في أوقات الراحة، ويليّل قليلاً عل واحدًا من عازفي الفرقة يتحمس لصوته.. ويحكي عبده داغر قصة تقديم عدوية للمرة الأولى على أسطوانة جلد، أرخص نوع أسطوانات كان ينتج في السبعينيات، وقد شارك في إنتاجها ثلاثة أو أربعة منتجين من تجار الموسكي، ذهب عبده داغر إلى شاعر يعرف أنه يقف في شارع عبد العزيز يقلي عصافير، وينادي: السح الدح امبو، إدو الواد لأبوه.. وقال له إنه يريد نداءه هذا أغنية مكتوبة قبل الصباح، وأعطاه 50 قرشًا، وجلس معه طيلة الليل يجهزان الأغنية ويبدلان في ألحان مقاطعها، ثم اتصل ببقية الأصدقاء؛ البابلى وأبو شفة، يبلغهما موعد البروفة في منزله مع نمرة جديدة.. وكان يوجد سبب آخر كان وراء حماسة عبده داغر لأحمد عدوية، وهو النكاية في محمد رشدي، بعد أن تكوم أجر عبده داغر عند محمد رشدي وكره مماطلته في ذلك، فقال له بصراحة ووضوح “هاجيبلك مطرب شعبي ينيمك من المغرب” وقد كان.. نزلت الأسطوانة، وفى الليلة التي تليها كان أحمد عدوية صاحب النمرة الأساسية في كازينو الأريزونا بشارع الهرم، وذلك أمر عظيم في سوق الموسيقى الشعبية المصرية؛ فدائمًا ما كانت نِمرة الأريزونا الأساسية للمطرب الشعبي الأشهر والأكبر. نجحت النِمرة إلى الحد الذي يسمح للموسيقى أن تتخذ فيها مساحة أكبر، وأصبح أحمد عدوية نجمًا رائجًا. وهنا بدأت تجربة عدوية والموسيقى المصرية تتخذ منحى جديدًا، كامل الصورة، واضح اللزمات الموسيقية والكوبليهات الغنائية والموال الذي في البداية.. أسست هذه المدرسة شكلاً للموال؛ يقوم على تبادل الأدوار بين حنجرة المطرب والآلات التي خلفه.. وبالتمارين اليومية مع البابلي وعبده داغر وأبو شفة وحسن أنور أصبح في إمكان عدوية أن يرد على كل آلة موسيقية من المقام الذي تنطق منه النغم ثم يشرع في الموال، ويفهم بذكائه الفطري أن مقام الموال سيكون من آخر تسليمة سمعها، فيبدأ حوار بين الحنجرة والنغم مفروشًا بالهارموني وبحة المطرب الشعبي الحزينة، وما هي إلا سنوات إلا وسادت تجربة الموال على الغناء الشعبي كافة، يترقبها الجمهور، ويميز كل مطرب بمواله، وكل تجربة كلما اكتملت أكثر وارتفع نجمها أكثر سيكون وقوعها كذلك، فالزمن هو الذي يتحكم في الموسيقى، تلك الحقيقة هي التي كان ما يعلق بها العازف الكبير على كل من يحاول أن يورطه في أن يبدو كلاسيكي المزاج، فقد كان عبده داغر يحب كل الموسيقى المصرية بكاملها، يعزف من الصعيد والدلتا ومن المديح والسيرة الهلالية، وكل مقطوعات عبدالوهاب تقريبًا وأم كلثوم ومحمد فوزي، وأظن أن أي موسيقى عاصرها أو سمعها كان يحفظها كاملة بسرعة غريبة، وهي عادة تعود عليها منذ صغره؛ لا يستطيع أن ينظر إلى الكمان وفي عقله جملة موسيقية.

“٠٠تمرين “عم عبدو

هناك تمارين في آلتي العود والكمان وبقية الآلات الوترية مسجلة فقط باسم عم عبده، تمارين لأصابع اليد اليمنى واليسرى، التقطها طوال 80 عاما من كل العازفين الذين التقاهم، لكن التمارين دائمًا يؤلفها للتلاميذ لمعالجة عيب كل واحد منهم؛ هذا توافقه العضلي بين أصابعه العشرة غير متوازن، وهناك تلميذ أصابعه غير واثقة من نفسها، وآخر لا يستطيع تمييز نغمات السلم الموسيقي بأذنيه عندما تخرج من الآلة، وفى نهاية كل هذه العيوب يخرج تمرينًا قويًّا يعالج كل هذه العيوب ويتناقله التلاميذ عبر كل الأجيال ويسهل مطاردة النشاز لمن يريد المتعة كاملة.. وكان له تمرين شهير يستعمل فيه العازف على أي آلة وترية أصابعه العشرة، يمشي بيده اليمنى على خشب الآلة بسرعة منضبطة مع نقر اليد اليسرى، ولم أر موسيقيًّا عرف هذا التمرين عن عم عبده وحفظه على آلته إلا وأحس بتحسن سريع في مستوى عزفه.. لقد رأيت عشرات من الموسيقيين الأجانب والمصريين تغير فهمهم وفكرهم الموسيقي بعد شهور قليلة جالسوا فيها العازف الكبير كل ليلة بعد المغرب في بيته بالحدائق.. عازفة الفلوت الفرنسية، مع أن الفلوت آلة غير وترية، لكن تلك العازفة تجرأت في مساحات تأليف جديدة مع آلتها بعدما درست على يد العازف الكبير، ولن أنسى كذلك عازف التشيلو الأمريكي الذي رأى عبده داغر في مرة يقلد جملة موسيقية يقولها الشيخ إبراهيم الفران من مقام الحجاز حين كان عبده داغر يقلد صوت حنجرة الفران ويحاول الرد عليها من نفس المقام، فقرر العازف الأمريكي أن يستمع إلى كل المبتهلين والمقرئين ويغلق على نفسه باب حجرته ويحاول تقليد صوت كل شيخ على آلة التشيلو.

٠٠أرانب الموسيقى المصرية

هذا هو الميراث الذي تركه معلمنا، مطبوعًا على الأصابع وفوق الأوتار، عابرًا لكل الأجيال، يتذوق كل الألوان باستمتاع واحترام، لا سيادة فيه إلا للموهبة والجهد والتمرين المتواصل، لا استسهال في التأليف الموسيقي، ولا بد أن يظل صوت الموسيقى المصرية مستمرًا، بكل تراكماته منذ العصور القديمة، وعلى كل عازف مهما كان حجمه أن يضع بصمته التي آتاها بعد الجهد والتمارين والعمل، وهذه هي ملامح المدرسة الموسيقية المصرية منذ العصور القديمة كما يقول الفنان المصري الكبير، إقليدس الذي استنبط معادلاته الرياضية تعلمها من كهنة الموسيقى في هليوبوليس القديمة، هؤلاء الكهنة الذين كانوا مسؤولين عن تدريب وتعليم الموسيقيين منذ طفولتهم، ولما يصلوا السابعة والنصف ينضمون إلى الدرس في المعبد، كان الكهنة يعلمون الأطفال الموسيقيين التوافق العضلي قبل أي نغم، يطلقون لهم الأرانب ومن يقبض أكبر عدد من الأرانب بأنامله من آذانها ينتقل إلى صف التعليم الموسيقي، الأرنب أسرع كائن يغير اتجاهه، ومن يقبضه هو الأكثر تركيزًا والأنبه توقعًا والأكثر في التوافق العضلي. سمع عبده داغر في طفولته هذه القصة كثيرًا، ولطالما توقف بخياله عند شكل النغم في الحضارة القديمة، وألف مقطوعة إخناتون متأثرًا بذلك الخيال، ودائمًا ما قال إن شكل الموسيقى في الحضارة القديمة يتخفى في الميراث الموسيقي المصري، وفي تراتيل الكنائس وصدح المبتهلين، وفي حناجر المقرئين وإيقاعات رقص المداحين الصوفيين وحكائي السيرة، وإن عبد الوهاب هو الموسيقي المصري الوحيد الذي فهم خيطًا واحدًا من هذا الميراث؛ غناء المشايخ والشيخات الذي كان سائدًا في شبابه، فتطبع به، وكان أبوه أيضًا إمام مسجد الإمام الصوفي الكبير عبد الوهاب الشعراني بباب الشعرية، فالتقط عبد الوهاب خيط المشايخ وأسبغ عليه موهبته وبصمته واستماعه للثقافات الأخرى.. إذ في ستينيات الموسيقى المصرية، كان يوجد ميراث ضخم من حناجر المشايخ وتنويعات بطاناتهم، وجاءت أم كلثوم، فاكتسحت المشهد بتلك الخلطة التي كانت أحيانًا تتقسامها مع محمد عبد الوهاب في أكثر من 20 لحنًا بينهما.. القصبجي الذي كان يقود حنجرة أم كلثوم في أثناء سيرها في بحر النغم كان شيخًا معممًا، وهذا الرجل بالمناسبة من نوابغ العازفين المصريين كما كان يقول دائمًا وهو يستمع إلى تقاسيمه أو يعزف ألحانه لكبار المطربين الكلاسيكيين، التخت التركي ساد مصر على يد عبد الوهاب وأم كلثوم، وارتفع صوت الموسيقى الشعبية من ميكروفونات الموالد، والأفراح وغناء العوالم ومطربي السيرة الهلالية…

٠٠عندما تهدأ الحرب في المدينة الكبيرة

جرب عبده داغر بأنامله ذوق أغلب مدن العالم الكبرى، وفي داخل مصر عزف تقريبًا في كل محافظة، وأغلب القرى والنجوع له فيها أصدقاء، وكل ما فعله الرجل طيلة تجربته الاجتماعية والموسيقية هو نقل ما تعلمه وعرفه إلى آذان تلاميذه، وحكايات فرقته عن حفلات أوروبا تكشف شهرة واسعة، لن أنسى حكايتهم الشهيرة عن عبده داغر في باريس لما أرسل مسؤولاً مهمًا في وزارة الثقافة الفرنسية ليشتري له دخانًا قبل الحفلة.. ولن ينسى هو طفولته في بداية الأربعينيات، حيث كل طفل في كل بيت يتمنى أن يصبح عازفًا على آلة ما، وفى الخمسينيات مع ثورة يوليو كان حاضرًا بكمانه شابًا عفيًّا، صاحب تجربة، وألغيت الحفلات بسبب الحرب، وظل لعام أو عامين لا يعمل، فعاد إلى طنطا للموالد التي لا تتوقف تحت أي ظروف عبر كل تاريخ مصر، لكنه كان هكذا دائمًا، بعدما تهدأ الحرب يعود إلى المدينة الكبيرة..

رسم للفنان عبده داغر يعزف على أحد أغلفة ألبوم “بلا وطن”للموسيقي المصري على خطاب