محمد عبد الوهاب: في الليل لما خلي.. الضربة الأولى 

شريف حسن

تمر علينا هذه الأيام ذكرى رحيل الأستاذ محمد عبد الوهاب؛ أكثر من أسهم في تطوير شكل الأغنية المصرية والشرقية، موسيقار الأجيال، له عدة ألحان تتربع على قمة كل عقد، لستة عقود، 60 عامًا من الألحان والتجديد والتجربة والمغامرة، دون كلل أو ملل أو تكاسل، اليوم وفي ذكرى رحيله الـ 29، نقف أمام الضربة اللحنية الأولى، أول ما جادت به روح وفكر محمد عبد الوهاب الموسيقي.

محمد عبد الوهاب

محمد عبد الوهاب

لم يكن محمد القصبجي وصديقه سيد درويش، وحدهما من يفكران في تجديد الأغنية العربية، والبحث عن مسارات جديدة؛ لم يمهل القدر سيد درويش وقتًا، ليرحل في بدايات العشرينيات، وفي اللحظة نفسها كان ميلاد نجم جديد قادر على خوض جدالات ومشاجرات أمام المحافظين على شكل الموسيقى القديم، وإعلان نفسه متمردًا وثائرًا على القواعد والأطر.

القصبجي أستاذ عبد الوهاب، أستاذه بحكم السن والأسبقية، والخبرة والإنجاز. القصبجي أصغر من سيد درويش بأسابيع قليلة، وقد جلس عبد الوهاب تحت يد القصبجي تلميذًا، ليتعلم منه العزف على العود. ويحكي القصبجي عن تلك الفترة قائلاً: “إنني لا أزال أذكر المرة الأولى، التي عرفت فيها صديقي محمد عبد الوهاب.. فقد كان ذلك في عام 1920، ولم أكن قد سمعت عنه مطلقًا، شاب نحيل الجسم، رقيق الحال، نظيف الملبس، يرتدي بذلة رخيصة الثمن ولكنها أنيقة، ودار بيني وبين عبد الوهاب حديث أردت به امتحانه، وأراد هو من جانبه أن يطمئن على مستقبله كمطرب فطلب أن يسمعني صوته، وغنى عبد الوهاب وأحسست أن الشاب تقيل وراسي، وأنه سيدخل المجد من أوسع الأبواب، ودرس عبد الوهاب على يدي العزف على العود، وأصبح في فترة وجيزة من أمهر العازفين الذين سمعتهم في حياتي، ومن مزايا عبد الوهاب أنه كان سريع الالتقاط، فكنت أراه ينصت إلى ألحاني ويرددها بعد دقائق كأنه هو ملحنها“*، اعترف عبد الوهاب بفضل ودور أستاذه القصبجي، وهو ما أعجب القصبجي بأن ذكره في وقت لا حاجة له بذكر فضل أحد عليه. كان عبد الوهاب يلازم القصبجي في تسجيلاته ويستمع إلى ألحانه وطريقة تفكيره، كان هو المصدر الأهم في إتقان التلحين وفهم الموسيقى الشرقية بشكل أعمق، كان عبد الوهاب تلميذًا للقصبجي لا لسيد درويش.

حاول عبد الوهاب طول مسيرته أن يضع من نفسه خلفًا لسيد درويش في الموسيقى العربية، مع أنه كان يلهث وراء تجديدات القصبجي ويحاول أن يتفوق عليه، وإحقاقًا للحق كان عبد الوهاب خير تلميذ وندًا للقصبجي، خصوصًا وقد انسحب القصبجي سريعًا من الساحة واكتفى بما قدم، وهو ما يكفي لوضعه على قمة عظماء الموسيقى المصرية بلا أدنى شك. كان الوقوف خلف شخص رحل مبكرًا أسهل بكثير من الوقوف خلف شخص ما يزال قادرًا على إبهار الجميع، وإذا وقف الجميع وقفة شكر وإجلال لما قدمه القصبجي في مونولوج إن كنت أسامح وأنسى الأسيه، كان محمد عبد الوهاب يخفي إعجابه وغبطته.

وبدأ في البحث عن رد خاص به على تلك النقلة الفنية في الغناء والتلحين، أم كلثوم تنفرد بالقمة كمطربة، والقصبجي يحلق فوق سرب الملحنين والمجددين، حتى ولو لفترة وجيزة، كان الأمر أشبه بمعارك الكر والفر، يجب على عبد الوهاب تقديم شيء يلفت الأنظار إليه، في نفس الساحة والقالب، كيف استثمر هذا التطور في تقديم مونولوج يستطيع الصمود أمام مونولوج القصبجي، عبد الوهاب يحاول التربع على قمة الغناء، لا يحاول تخطي القصبجي، بقدر ما  يحاول منع أم كلثوم من التربع على قمة الغناء، وذلك عن طريق مونولوجفي الليل لما خلي“.

لعب الشاعر أحمد شوقي دورًا كبيرًا ومهمًا في حياة محمد عبد الوهاب الشخصية والفنية؛ في إنتاجه الموسيقي، وفي يومياته العادية استفاد الطفل والشاب كثيرًا من تلك العلاقة والصداقة والأبوة، وساعده في تخليد الكثير من أشعاره في الغناء العربي. بكل تأكيد كان لعبد الوهاب دور مهم في قرار شوقي بكتابة أغنيات بالعامية، والتخلي تدريجيًّا عن الفصحى، ومحاولة مساندة ابنه الفني في مواجهة الثلاثيأم كلثوم ومحمد القصبجي وأحمد رامي، فكتب شوقي عدة أغنيات باللغة العامية، كانت من ضمنها تلك الأغنية، ومن داخل مدرسة الإحياء والبعث والمنتمي إليها شوقي، حاول هنا الوقوف على الطبيعة ووصفها، وبدأ وكأنه يترجم بعض الأبيات الوصفية الليل والنجوم من قصائد التراث العربي والمعلقات، مضيفًا عليها سحره الخاص ولغته، والتي جاءت منقسمة بين العامية والفصحى، من المعري وامرئ القيس كانت ترجمات وتحويلات شوقي، ليخلق نصًّا وصفيًّا جديدًا على الأغنية العربية، لا يقف عن حبيب أو حبيبة، لا يوضح موقف المغني، إنها لحظة رصد لليل وولوج النهار، ووصف ما تشعر به وقتها، وعلى المستمع وضع بقية أجزاء القصة والمشهد من حياته هو،  كان ذلك جزءًا من اتجاه محمد عبد الوهاب لتحرير الأغنية المصرية من الأسلوب والشكل القديم، الذي عانى طويلاً في تطويره وكسر قواعده خاصة في طريقة الأداء، كان على عبد الوهاب السير تجاه التجديد محاذيًا أستاذه القصبجي.

أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وزوجته نهلة، عزيز أباظة، و محمد القصبجي

أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وزوجته نهلة، عزيز أباظة، و محمد القصبجي

ومع أن هناك تضاربًا في تاريخ الأغنية بين عام 1928 و 1932، وضعها عبد الوهاب  كمرحلة أولى له في التجديد والتلحين، ذلك يقربنا أكثر من عام 1928، جاء هذا التضارب بسبب غناء عبد الوهاب للمونولوج في عدة مناسبات مهمة، وذلك تأكيد على أهمية اللحن بالنسبة للموسيقى في وقتها بشكل عام، وبالنسبة لعبد الوهاب بشكل خاص، في البدايات لم يملك عبد الوهاب العديد من الألحان لتقديمها في المناسبات الرسمية، كما أنه يحب دائمًا تقديم نفسه في أحسن صورة، لذلك غنى عبد الوهاب المونولوج أمام الملك أحمد فؤاد الأول في حفل افتتاح معهد الموسيقى العربية في ديسمبر 1929، وذلك تأكيدًا على أن المونولوج ينتمي لما قبل ذلك، أي عام 1928، أما بالنسبة لتاريخ 1932، اقتران ذلك التاريخ بالمونولوج، لأن عبد الوهاب غناه في مؤتمر الموسيقى العربية في العام نفسه.

بعيدًا عن ذلك، هناك إجماع على أهمية ذلك المونولوج في مسيرة الاثنين؛ المونولوج وعبد الوهاب. عبد الوهاب هنا قرر التماشي مع كلمات شوقي وحالته، فتحرك بلحن متقلب ولكنه كله يدور في فلك واحد، داخل رحاب مقام البياتي، المقام الشرقي الشعبي، والقرآني أيضًا، وفي الوقت نفسه يحاول التمرد بالاقتباس من الموسيقى الغربية، ليصنع شكلاً جديدًا على الآذان الشرقية، غير مفتعل أو مقحم على العمل..

محمد عبد الوهاب

محمد عبد الوهاب

قبل دخول في تفاصيل ذلك، دعونا نقرأ وجهة نظر محمد عبد الوهاب بشأن الاقتباس من الموسيقى الغربية في بدايات الثلاثينيات، يقول محمد عبد الوهاب: “لا بد من الاقتباس والعالم الشرقي كله في دور ترجمة عن الغرب، لكن المهم مراعاة الذوق في هذا الاقتباس، وهنا الصعوبة كلها. وفي الموسيقى الغربية جانب رائع إذا اشربت به الموسيقى الشرقية دبت الحياة فيها أكثر، وسمت“*. كان ذلك واضحًا في ذهن وفلسفة محمد عبد الوهاب منذ العشرينيات إذن، وكان سؤاله الدائم كيف ينصع هذا المزج دون أن يخل بالموسيقى الشرقية، نفس ما كان يصبو له أستاذه القصبجي ولكن لكل منهما أسلوبه وفلسفته في ذلك.

البحث عن أشكال جديدة للتعبير الموسيقي، الشغف بوقع الأول للجملة على أذن المستمع، الهوس بإبهار نفسك ومن ثمَ من حولك، كانت فلسفة عبد الوهاب في الاقتباس، وتظهر هنا جليًّا في شكل اللحن والمقدمة الموسيقية الممهدة، ومحاولة محمد عبد الوهاب في التخلي عن الإيقاع في أغلب المونولوج، والتعامل مع المونولوج كأنه مقطع من مقاطع الأوبرا.. حاول عبد الوهاب إيجاد طرق تمنح صوته مساحة أكثر للوصف والأداء التعبيري أكثر منه أداءً طربيًّا، مع أنك بالطبع ستطرب من أدائه المتمكن السلس، نسمع كيف يتنقل بين المشاعر والكلمات بكل دقةسكون.. ووحشة.. وظلمة.. وليل مالوش آخر، وكيف تعامل مع قدوم الصباح، وانتقل من الليل للنهار، والانتقال هنا انتقال تدريجي كما في الصورة الشعرية التي تلي الموسيقىالفجر شقشق وفاض على سواد الخميلة، مستخدمًا إيقاع الفالس عن طريق آلة الكاستانيت للمرة الأولى في الأغنية المصرية، مستمرًا في تحرير الأغنية المصرية، من إيقاعاتها وطريقة أدائها، والبحث عن أشكال وطرق جديدة للطرب في الوقت نفسه، كان عبد الوهاب يرى أن البناء اللحني قبله يضيع وسط طريقة الأداء، كانت الغلبة للمؤدي وليس للملحن، حاول عبد الوهاب أن يجعل الغلبة للملحن، حتى لو كانت شيئًا مرتجلاً، فكان يصبح ارتجال على أسس وقواعد وتحت إشرافه التلحيني

كان عبد الوهاب في ذلك الوقت وقبل ذلك المونولوج، يقف على القمة بقدراته الصوتية أكثر من قدراته اللحنية، ونقرأ وصفًا له، من مراسل جريدة مرآة الشرق الفلسطينية عام 1927،فقد كان يعلو بنا إلى ملكوت الأرواح، وينتقل بنا في أرجائه، ويحلق في سمائه حتى انقضى الليل إلا قليله، وكأنه فترة لم نشعر بمرورها ثم ذهبنا إلى منازلنا عسى أن تنتشلنا الحقيقة من بيداء الخيال ويعيدنا سيرتنا الأولى.. ولكني أصدقك القول يا عزيزي إميل، لقد تركت العنان الفكري بعد سماع عبد الوهاب، وإذا بي أرى أن هذا الشاب النادر قد ملك علينا أذواقنا، وسلب حواسنا، واحتكر اعجابنا، فأصبحنا إذا ما سمعنا غيره لا نطرب وله ونشعر أن بالأذن حاجة إلى حلو ترانيمه وبديع شجوه وأفانينه، كان هذا وضع محمد عبد الوهاب وقيمته، ليس فقط داخل مصر، ولكن في بلاد الشام وفلسطين والعراق

وعلى الرغم من تقديم عبد الوهاب الكثير من المونولوجات قبل وبعد، لكن يبقىفي الليل لما خليأحد أهم العلامات في تاريخ المونولوجات العاطفية..
في مونولوج في الليل لما خلي، لا يتنقل عبد الوهاب كثيرًا بين المقامات، غير مهتم إبهارك بشيء لافت مثلما حدث في مونولوجأهون عليك، الأمر هنا بسيط، فقد حافظ عبد الوهاب على التيمة الرئيسية لحالة الكلام، وجعلك تشعر حقًا بالليل والنهار والهجر والدوح والفراق

عبد الوهاب كان الصوت الوحيد القادر على الوقوف أمام صوت أم كلثوم، لكنه يختلف عنها بملكة التلحين، هو من يصنع غناءه، هو الأعلم بقدراته الصوتية، والقادر على صناعة أجمل الألحان لها، وفي الوقت نفسه، من يستطيع في ذلك الوقت أداءفي الليل لما خليمثل عبد الوهاب، لا أحد. لذلك بدأت منافسة قوية بين عبد الوهاب المطرب وعبد الوهاب الملحن، انتصر فيها الملحن بالطبع، وضمن حق القيادة والتحكم في الأمور، فذهب عبد الوهاب في رحلة التجديد والإبهار اللحني والاقتباس، كان ضربة محمد عبد الوهاب الأولى في عالم التلحين والتجديد، والتي أعلنت عن ملحن لا يقل موهبة وقيمة عن المطرب، وانتقل من مطرب ذي صوت لا مثيل له، إلى مجدد وسابق لعصره ويملك فلسفته الخاصة.

مصادر:

– مقال ذكرياتي مع محمد القصبجيمجلة الكواكب.
– نحو ساعة مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، في صحيفة الدفاع الفلسطينية
1943.