عبد المنعم السعودي الذي ترك الشوارع وحيدة

كان مكان سكنه سرًا والوصول إليه مستحيلاً

أمين حداد

“وكمان عمّك عبد المنعم مات

حتى ولو عايش

حدّ بيعرف له عنوان

الله يرحمه كان إنسان غلبان

بيلف شوارع مصر وماسك في إيديه الجرنان

مسكين الجرنان من غيره

وحزين

زيي

وزي شوارع مصر

وزي دموعي في قلب عينيا” 

  من قصيدة أفكار ومشاكل – ديوان بدل فاقد – أمين حدّاد

عبدالمنعم السعودي

كان عم عبد المنعم السعودي يدق على شراعة بابنا في سنة تسعة وستين في الإمام الشافعي كل يوم، ويدخل ليجلس مع أبي ليراجع معه ترجمة كتاب “لا مذكرات” لأندريه مالرو، وكان فؤاد حداد يقرأ له ما ترجمه بالأمس وعم عبد المنعم يبدي له بعض التعليقات، واللغة العربية بينهما؛ فعبد المنعم من أعلم الناس بها، وفؤاد حداد يمتلكها كأحد خالقيها كما وصفه أحمد عبد المعطي حجازي. وأبي يأتنس برأي عم عبد المنعم ويأتنس بوجوده معه، يعملان في المراجعة ساعة، وبعد ذلك يتكلمان في السياسة والشعر والأدب والتاريخ ساعات طويلة استمرت من سنة تسعة وستين لخمسة وثمانين. لما مات فؤاد حداد في يوم جمعة حزين، وكان موعد زيارته الأسبوعية، وجاء عم المنعم في موعده وفوجئ بموته وظل يجوب البيت مرتبكًا ويقول: “ليه كدا بس يا فؤاد!”. وأصدقاء عبد المنعم كانوا هم حياته على مر السنين، ارتبط بهم وارتبطوا به، مثل الصحفي فتحي خليل، والمثَّال إبراهيم حسان، وعلي الشريف، وعوني الصادق، وكمال عبد الحليم، ومختار العطار، وفؤاد عبد الحليم، وتوفيق خليل، وعلاء الديب، ومحمد حمام، رحمهم الله جميعًا، وأطال الله بقاء رشدي أبو الحسن وأحمد هريدي. وكان عبد المنعم يشارك بعض أصدقائه السكن في الجيزة، وتنتهي المشاركة بوفاة الشريك، وظل على هذه الحال إلى أن مات في 2003. ولا يدعي أحد في العالم أنه زار عم عبد المنعم في بيته في الجيزة، أو أي بيت عاش فيه، كان مكان سكنه سرًا والوصول إليه مستحيلاً، تقابله اليوم وتتفق معه على موعد قادم وإن لم تتفق معه فلتنتظر حتى يظهر “بمزاجه”، وإن كان لا يغيب كثيرًا، ومن الممكن أن يكون قد اكتسب هذه الخصلة من الاختفاء من البوليس السياسي طول عمره الذي بدأ في قريته السعودية في محافظة الجيزة مركز العياط. ولا أعرف إلى أي مرحلة أكمل تعليمه، ولكنه لم يدخل الجامعة، أو من الممكن أن يكون دخلها ولم يكمل تعليمه بها. وطوال المدة التي عرفناه فيها من تسعة وستين إلى ألفين وثلاثة لم يكن له عمل ثابت، وعرفنا أنه في زمن قديم قبل ثلاثة وخمسين عمل موظفًا في مكتبة جامعة القاهرة لمدة طويلة مكنته من الاطلاع على ذخائر الكتب العربية وحفظ القرآن الكريم وآلاف الأبيات من الشعر العربي. وأحبَّ طالبةً فارعة الطول مفرودة القامة بيضاء ذات شعر ذهبي وعين عسلية، ولم تهتم به بعد أن عرفت أنه يحبها؛ فهو أكبر في السن أقصر في القامة، لا يهتم بمظهره كثيرًا، تملأ خديه بثور حبُّ الشباب، ولكن عينيه سوداوان ذكيتان، ويكتب شعرًا عموديًّا ضاع كله للأسف. وصفه مرة توفيق خليل أنه كالأشعار التي تجدها محفورة على موائد الحانات القديمة أو مكتوبة على جدران الزنازين أو في ورقة مهربة في زجاجة من سفينة غارقة أذكر منها كلمة “المخدع الوردي” والتي لا تعني لي أي شيء الآن، ولكن إحساسي بالشعر حين سمعته منه مرة أنه شعر مختلف، وكتب مسرحيات لم أر أيًّا منها ولا يعرف أحد أين هي ومتى قدمت ومن قدمها، ولكنه ذكر امامي أنه كتب مسرحية عن مقام لأحد أولياء الله وقف في طريق مد مجرى مائي لقرية، وانقسم الناس بين هدمه وبقائه، ولعل هذا الذي جعل أبي يراجع معه ترجمته العامية لمسرحية “البرجوازي النبيل” لموليير، ويأخذ بملاحظاته في الحوار، وضحك أبي جدًا عندما تساءل عما تقول الخادمة وهي تزف لسيدتها خبرًا غريبًا، فرد عم عبد المنعم بسرعة تقول: “أحيه”.
 ولما انتقلنا من الإمام الشافعي إلى حي مدينة الطلبة في مدينة الصحفيين في أوائل سنة واحد وسبعين لم تنقطع زيارات عم عبد المنعم الذي كان معتقلاً قبل ذلك، لا أدري قبل “لا مذكرات” أم بعدها، وحكى لنا أن أحد العمال المعتقلين أكل “أناناس” للمرة الأولى في حياته من طبلية لمعتقل آخر وفرح، به وأخبر زوجته في الزيارة أنه بخير وأكل “آنذاك” وضحك عم عبد المنعم وقال له “ولسّه لما تاكل.. حينئذٍ”. وغنَّى عبد الحليم وهم مسجونين “على حسب وداد قلبي يا بوي” واعتبروا أنه يغني لهم حين قال “لا حاسلم بالمكتوب ولا حارضى أبات مغلوب” ولم يدخل السجن في الاعتقال الشهير في 1959، وظل هاربًا.. وهو ينتمي من ناحية أمه لعائلة عزام التي كان منها عبد الرحمن عزام أمين جامعة الدول العربية.

وفي بدايات السبعينات سافر إلى ليبيا حين استعان به عبد الرحمن الشرقاوي مراجعًا للغة العربية في فيلم “الرسالة”، وجلس جلسات مطولة مع نجوم الفيلم ومنهم “أنتوني كوين” و”عبد الله غيث” والست “إيرين باباس” والست “سناء جميل”، وعاد سعيدًا مهندمًا، ولكنه لم يتزوج في حياته. وكنا في جلسة تضم أبي وأمي وعلى الشريف وزوجته السيدة “خضرا” التي فاجأته بسؤال: “إنت ليه ما اتجوزتش لحد دلوقتي يا منعم” فتطوعتُ أنا مجيبًا مندفعًا بين الجد والهزل: “عم عبد المنعم واهب عمره للقضية”، فأمّن هو على كلامي: “أيوة فعلاً.. ويا ريت كفاية” وعيناه تلمعان لمعتهما الذكية الحزينة. وكان بينه وبيني ود منذ طفولتي جاء مرة وقبل أن يجلس التفت لي وقال: “نسيت أجيب لك القميص” قلت له مستغربًا “قميص إيه” قال ضاحكًا: “قميص عبد الناصر” متهكمًا على السادات الذي وصف الناصريين بأنهم يرتدونه. وحلمت به مرة يصعد على منصة تشبه حلبة الرقص يقف عليها السادات ممسكًا بميكروفون وتقدم منه عم عبد المنعم وقال له بهدوء: “لقد ضقتُ ذرعًا بك” ولما حكيتُ له ولأبي الحلم قال أبي: “دي جملة موزونة”.
وكانت لعم عبد المنعم حكايات كثيرة، أحبُ منها حكايته لما ذهب لحلاق وجده خاليًا يوم جمعة في الجيزة، وطلب منه أن يحلق ذقنه وجلس مستسلمًا له ولفُرشته وصابونه وموساه، ولكنه أحس بثقل الموسى على خده فقال له: “خف إيدك شوية” فرد عليه الحلاق: “أخف إيدي؟ دا إنت تستاهل الدبح”، واتضح أن الحلاق مجنون وهرب منه بأعجوبة.. واختفى عم عبد المنعم فترة طويلة وحزن أبي من ابتعاده وكتب له:

لقد رأينا ما هو أشدّ

رأينا الأمل شهيدًا والرواسي تقع مثل الطير 

لا أنفي شبهة الصبر عن المنتفض والمذبوح 

شبهة الصبر الجميل 

النورُ خيطٌ واحد 

صوتي عندما يُسْمَع 

وشيبك حين تبتسم 

يرحمنا الله كنّا صادقين 

وكان الإخاء جنة الصدق

 ديوان كليم الشيخة أم الآه – فؤاد حداد

ثم عاد بعد ذلك، وأبي يكتب كل يوم، ويملأ التاريخ بأشعاره العابرة للسنين، وعبد المنعم يستمع ويبتسم مستمتعًا ويعلق مستحسنًا ومبهورًا ويدخن سجائره الكليوباترا ويغفو أحيانًا على كرسيه. وحين نشر أبي قصائد “الحضرة الزكية” في مجلة صباح الخير أهدى نسخًا من العدد الأول لأصدقائه بقصيدة لكل واحد منهم، وكان نصيب عم عبد المنعم هذه القصيدة:

عبد المنعم يا ساكن

ومسافر في الزمان

المغرب دوشة لكن

فى الفجر وفي الأدان

كوبري الليمون بيسمع

جامع أولاد عنان

أبو زيد فارس هلالي

يا ابو زيد كاتب هلال

والليل كان قلبه خالي

والاّ قلبه ملان

ويلين والاّ ما لان

فى خيال الظل والاّ

سرّ فى ظل الخيال

والاّ موقع مسجّل

على دمغة وعرضحال

مش ضحك الضحك نازل

متكسّر م الجبال

مش دمع الدمع نازل

مستغرق فى الجلال

واتلفّت ابن ابني

على قافية الارتجال

يشهد لك فى الرجال

يشهد لك فى الحنان

كوبرى الليمون بيسمع

جامع أولاد عنان

وباحبّك حبّ ودني

في الفجر وفي الأدان

في البحر وفي المحارة

وفي تأميم القنال

والنطق الأولاني

اللي بعيد المنال

الآن و في كل آن

وضاحكٌ وباكٍ

عبد المنعم وساكن

ومسافر فى الزمان

 ديوان التسالي – فؤاد حداد

فؤاد حداد

ومات أبي في خمسة وثمانين، ولأول مرة يكتب عبد المنعم مقالاً ونقرأه جميعًا، بل ويقرأه هو على الجمهور في حفل تأبين فؤاد حداد على مسرح السلام بشارع القصر العيني.

وبدأت علاقة أخرى بيننا؛ كان بجانبنا في كل الأوقات، سندًا معنويًّا وعقلاً يناقش معنا ما نفعله من أجل الوالد، ومراجعًا لمسودات الدواوين، ومساعدًا في اختيار عناوين القصائد عند نشرها، ومصاحبًا لنا في كواليس الأمسيات. واستمرت زيارته الأسبوعية يوم الجمعة الذي تجتمع فيه عائلتنا فهو واحد منا وحكت لي السيدة عصمت قنديل زوجة علاء الديب أنه كان يزورهم باستمرار، ولكن الزيارة الأهم كانت كل عام في أول مايو ليحتفلوا معًا بعيد العمال رافعين الأنخاب قائلين: “يا عمال العالم اتحدوا”. وقد قال لي علي الشريف: “أنا بابقى زي المجنون لما عبد المنعم يتأخر عني شوية”. ومات علي الشريف، ومات عوني الصادق، ومات مشروعهم لكتابة فيلم عن المطران كابوتشي مع المخرج علي بدرخان، وكانوا في مرة يحدثون أبي عنه، فقال أبي مرتجلاً مداعبًا ضاحكًا وضاحكين: “عوني الفتى الهمام بتاع السيناريو.. وعبد المنعم السعودي بتاع الحواريو”.
 كان عم عبد المنعم يقول لي: “مش فاضل كتير في العمر.. ومستخسر أنام.. يا ريت الواحد يقدر يسهر الباقي من عمره” وكلمني مرة في التليفون في الليل ليقول لي إنه يسمع أغنية “يا حمام البر سقف”، وتوقف عند جملة “دي بلدنا خد براحك”، ثم أردف “دا معنى جميل أوي يا أمين”. وفي زيارته الأسبوعية كان عم عبد المنعم يأتي أحيانًا ومعه أحد أصدقائه منهم صديقه من بني سويف علي الدشلوطي، ومرة جاء ومعه فتاة صغيرة ضئيلة الجسم، وقال لنا إنها شاعرة من المنصورة واسمها إيمان مرسال، وقالت لنا إيمان قصيدتها “المتصف”، ونشأت بين عم عبد المنعم وإيمان وعائلتها صداقة كبيرة، حتى إنه شارك أختها في سكنها وهي طالبة في الجيزة بناءً على رغبة والدها، وقابلتُ إيمان منذ سنتين وجلسنا جلسة مطولة في كافتيريا الهناجر لنتكلم عنه.
 وفي يوم من الأيام دخل ومعه سيدة بيضاء طويلة مفرودة القامة ذات شعر ذهبي وعينين عسليتين؛ ولم تكن إلا الحبيبة التي أحبها في الجامعة؛ قابلها مصادفة ونشأت بينهما صداقة جديدة بنفس شروط الماضي؛ نظرات حب وابتسام من ناحيته، وسعادة بقربها واستمتاع من ناحيتها، لكن دون ريق حلو أو ود، ولكن العمر والوحدة ووفاة زوجها وسفر أبنائها والحنين إلى ماض جعلها تقابله وتذهب معه إلى عائلته، التي هي أسرتنا.. وهكذا مرت الأيام إلى أن مرض مرضه الأخير، وعرفت أخيرًا رقم تليفون أستطيع أن أطمئن عليه فيه، وكنت أقابله في نادي فيديو في أحد حواري الجيزة بعد أن ثقلت قدماه، ثم أخذه أخوه إلى بيته في قرية السعودية، وزرته قبل وفاته بأسبوع مع هيثم عوني الصادق، ولم أجد عم عبد المنعم؛ بل وجدت جسدًا هزيلاً دخل علينا المندرة محمولاً، وفتشت عنه وأنا أنظر إليه حتى نظر إلي بعينيه السوداوين اللامعتين، وسألته هل تريد شيئًا يا عم عبد المنعم فرد بتلقائية “ابقى هات لي جرايد”.