الغرفة ٣٠٤

أو كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عاما

عمرو عزت

1997

كنت أعلم أن أبي يدخل إلى غرفتي أحيانا في غيابي ويفتش في أوراقي وكتبي، لذا كنت أخبيء أوراقي المقلقة في الأرفف العالية التي تتضمن كتبه وكتالوجاته القديمة التي نادرا ما يعود إليها، خبأت هناك الأبحاث الفقهية أو العقدية التي يطلبها مني شيخي السلفي، أوراق الإعداد لمجلات الإخوان المسلمين،  أي مطبوعات قد يبدو لأبي أنها “خطيرة”.

كان قلقا جدا وكنت وقتها أكثر قلقا منه، أعد نفسي للاعتقال والاستجواب والتعذيب. بكيت أكثر من مرة ليلا لظني أنني ربما قد أكون أضعف من احتمال ذلك، كنت قد قرأت شيئا عن تعذيب الإسلاميين في مقال في جريدة ما، كان مقالا عن شاب تم اعتقاله بالصدفة في صلاة الفجر في مسجد كانت تنشط فيه “الجماعة الإسلامية” في امبابة. بكيت ثم تمالكت نفسي وتوضأت ونزلت لصلاة الفجر.

التقيت صديقا كنت ألعب معه لعبة مسلية، نستكشف كل أسبوع مسجدا مختلفا من المساجد الكثيرة الموجودة بالمنطقة، وذهبنا إلى مسجد مختلف، كان رواده بسطاء رأوا لحانا الخفيفة وسألونا إن كان أحدنا يجيد قراءة القرآن فقدمني صديقي – اعترافا بكفاءتي في التجويد وأيضا بقدر من المزاح المرتبط بلعبتنا في اسكتشاف المساجد – فكنت إمامهم وأعجبوا بقراءتي للقرآن وإتقاني لأحكام التجويد فأصروا على أن نجلس قليلا نقرأ القرآن ونصحح لهم.

جلسنا قليلا وتفقدت مكتبة المسجد فوجدت فيها كتبا للإخوان المسلمين فسألت أحدهم عن المسئول عن المكتبة فأخبرني أنه معتقل وأنهم لم يفتحوا المكتبة منذ اعتقاله وينتظرون عودته.

خرجت مع صديقي اشترينا فطورا وذهبنا لنفطر عند النيل ونشاهد شروق الشمس وتحدثنا عن نتائج الاستكشاف وعن نفوذ الإخوان المسلمين الهزيل في امبابة مقارنة بنفوذ السلفيين وبقايا الجماعة الإسلامية.

في طريق عودتي وجدت جارا يجري ناحيتي ويخبرني أن أبي “قلب الدنيا” بحثا عني منذ صلاة الفجر. عدت فوجدته ثائرا، لم تكن مثل ثورته اللاحقة بسبب شكوى ابن مالكة البناية، ولكنه كان ثائر للغاية. صرخ فيّ أنني سأتسبب في موت أمي قلقا عليّ- كان دائما ما يتحدث عن قلق أمي بدلا من قلقه في مثل تلك المواقف – وأمسكني من ياقة قميصي بعنف وقال لي: اخرج من بيتي.

لم يضربني أبي أبدا، تلك المرة كانت الوحيدة التي اتخذ فيها ضدي موقفا جسديا به شائبة عنف، لم أنتبه كثيرا لمقولة “اخرج من بيتي”، راهنت نفسي أنه لا يقصد، وهو تجاوزها سريعا، ترك ياقة قميصي وأمسك ذراعي وقال لي: “أعرف منين إنك ما اتقبضش عليك من صلاة الفجر زي ما بيحصل؟ إنت مش كنت بتقرا المقال دا قبل ما تنزل؟ إنت ما صلتش في الجامع القريب ليه؟ إنت لازم تقول لي بعد كدا إنت بتصلي فين”.

كان أبي قد عاد إلى البيت بعد الفجر ووجد الجريدة مفتوحة على المقال في غرفتي – ثغرة أفلتت مني – ولم يستطع النوم، انتظرني وعندما تأخرت بدأ الاتصالات وأوقظ أصدقائه العاملين في الشرطة وبدأوا في البحث عن مكان اعتقالي.

“اخرج من بيتي” لم تكن جادة أبدا، ولكن عودتي إلى غرفتي في بيته بعد تلك المواجهات، كانت في مثل تلك المواقف ممتلئة شعورا بالحصار، كما كانت ممتلئة شعورا بالأمان والعناية، لقد علم أبي من أصدقائه في الشرطة بعد ساعتين من صلاة الفجر أنه لم تحدث حملات أمنية ذلك اليوم، أنا مطمئن بقدر ما أنه سوف يجدني وربما يخفف ذلك مما سيحدث لي، أنا قلق مثله وربما أكثر، لا أعرف إن كنت أود أن أفلت من عنايته أو أنني ممتن لأنني أحظى بها.

تلك الثغرة كانت استثناء لم يتكرر كثيرا، وفي معظم الأوقات كنت ماهرا في الاختباء في غرفتي وفي إخفاء الأدلة والآثار التي تقود إلى نشاطي، الفكري أو العملي. كان عندما يفتقد أي أدلة إو إشارات يبدأ في التردد على غرفتي وأنا فيها، يحاول معرفة ما أقرأ تلك اللحظة، وعندما يطول اعتكافي في الغرفة مغلقا الباب منكفئا على كتاب لا يبدو مقلقا، رواية مثلا، كان يبدأ مطمئنا في المزاح من رغبتي في الهدوء والعزلة لأوقات طويلة، يفتح الباب بعد أن يطرقه طرقات تمثيلية ويسألني: “الغرفة 304 عاوزة العشاء هنا ولا هاتتعشى معانا في المطعم؟”، فأبتسم وأقول أني سأخرج إلى المطعم، يوجه كلامه لأمي ويقول، بالرغم مما قلت، أن خدمة الغرف يمكنها إحضار العشاء إلى غرفة 304 بدلا من أن أنزعج بالخروج.

1978

عندما قرر عزت محمود، أبي، الزواج من هدى مصطفى، أمي، كان ذلك بعد مشادة بينهما احتد فيها أبي ورجعت أمي إلى البيت تبكي، فابتسم والدها الذي طالما أربكه ترفع ابنته على شبان المنطقة، وقال لها أن هذا زوجك.

يحكي لي أبي أو تحكي لي أمي ذلك بابتسامة راضية، تبدو الحكاية مفتتحا ممميزا. الشاب الأسمر ذو الشعر الخشن، مهندس الديكور، الذي يحمل جاذبية فنان تخرج من كليةالفنون الجميلةوخشونة ضابط مهندس امتدت خدمته العسكرية في الجيش من هزيمة 1967 إلى نصر1973 وطموح مهندس قرر أن يبدأ عمله حرا ويصمم وينفذ واجهات بعض المتاجر الكبيرة في امبابة قبل أن يبدأ العمل مديرا للديكور بشركةعمرافنديالعريقة ذات الفروع الممتدة في كل أنحاء مصر. والفتاة الجذابة المدللة، التي بدأت تدريبها مبكرا أثناء دراستها الجامعية في شركةمصر للسياحةمع والدها، ثم بدأت العمل هناك مبكرا وتحمست لمجال عمل بدت واعدة فيه ونظرت بكثير من الاستعلاء والاستغناء للمتقدمين للزواج من الفتاة الجميلة التي تلفت أزيائها الحديثة نسبيا أنظار شباب امبابة.

امبابة في الخلفية، الضاحية الضخمة التي لا تزال حتى الآن تتمدد بمساكن عشوائية البناء على مساحات واسعة من الريف الذي يحتل الضفة الغربية للنيل ويحاول أن يتسع لسكن الطوفان القادم من الصعيد والدلتا، وتشتهر بمحاولة أسطورية للاستقلال عن الدولة كـجمهورية إسلامية“.

وفي الخلفية أيضا جمال عبد الناصر، وانقلاب الجيش على الملك في 1952 وتأسيس الجمهورية ذات الطابع الاشتراكي، فرص أوسع للالتحاق بالتعليم الجامعي لمعظم فئات الشعب، فرص أوسع للعمل في الشركات المملوكة للدولة، عمرا فندي ومصر للسياحة هنا. تنحسر الحماسة للتجربة الاشتراكية بعد الهزيمة، صور في السبعينات لأبي بالبنطلون الشارلستون ولأمي بالجينز، تحكي أمي ذات الحجاب الصارم الآن كيف كان صادما ومثيرا أنها كانت من أوائل الفتيات اللاتي ارتدين الجينز في امبابة، يحكي أبي كيف استطاعت غيرته وصرامته أن تجعلاها تتخلى عن حبها للموضة لتعود إلى أزياء أكثر محافظة.

تزوجا واختارا السكن قريبا من الأهل ولكن على مسافة ما في طرف امبابة، بعد شريط القطار الذي يحمل الغلال من الصعيد إلى الصوامع قرب النيل، في أرض قامت جمعية تعاونية بتخطيطها وبيعها للأهالي، قررت الدولة أن تسميهاتقسيم 6 أكتوبرلكن الناس أسموهاأرض الجمعية، بعد ثلاثين عاما استسلمت الدولة وغيرت اسم المنطقة في كل الأوراق الرسمية وفي لافتة قسم الشرطة. المنطقة التي حظت بتخطيط أفضل للشوارع ومساحات المساكن احتلها سريعا أبناء الأجيال الأحدث من عائلات امبابة، بعد جدالات مع الأجيال الأقدم الذين استنكروا أن يبتعد أبناؤهم عنهم وعن الشقق التي أعدوها لهم في بيوتهم القديمة ليسكنوا في ذلك المربع الخاليالبعيدوراء شريط القطار.

لاحقا سأتمشى إلى ذلك المربع البعيد وسط زحام من البيوت والناس عابرا شريط القطار من بيتنا إلى حيث بيتي أجدادي لأبي وأمي في ثلث ساعة على الأكثر.

كلا من العائلتين أتى في رحلة أطول بكثير من الريف، أجدادي لأبي من ريف الصعيد، وأجدادي لأمي من ريف الدلتا، كلاهما بنى بيتا صغيرا متواضعا سكن فيه بعض أولادهم، والبعض الأخرى سكن في بيوت محيطة، بينما فضلت أقلية الابتعاد لخطوات مثلما فعل أبي وأمي.

أوائل التسعينات كانت لدى أبي وأمي خطة للانتقال من ضاحية غرب النيل إلى ضاحية شرق القاهرة، إلى شقة في حي مدينة نصر، الثكنة السكنية/العسكرية الشاسعة التي قررت الدولة إنشائها في أواخر السبعينات، تترامي فيها العمارات المتشابهة غالبا للشرائح الجديدة الصاعدة للطبقة الوسطى بين أسوار المنشأت العسكرية والمباني الحكومية وكليات جامعة الأزهر. كانت الشقة جزءا من أتعاب أبي عن مقاولة كبرى لتصميم وتنفيذ مجمع طبي كبير، لكن المسافة كانت أكبر مما يحتمله أبواي اللذين استراحا في البقاء على بعد خطوات من بيوت الآباء.

1996

ملامح وجهه الغاضب وهو يزعق فيّ: “يا ابني. أنا اللي جبتك”: هل هذه هي ملامح الحجة الإلهية للعتاب على العصيان؟

كان ذلك، ربما، قبل عشرين سنة. في ذاكرتي كل التفاصيل البصرية للمشهد: تغضنات وجه أبي الأسمر وهي أكثر حدة وحيوية، تختلج بقوة مثيرة للانتباه عند أدنى انفعال. كان يرتدي فانلة داخلية بيضاء على سروال البيجاما، كما يعتاد أن يرتدي في البيت أيام الصيف، واقفا عند أول الممر الممتد بين الصالة وبين الغرف، خلفه تظهر الثلاجة من باب المطبخ والدولاب الضخم الذي يحتل حائطا كاملا في غرفة نومه يظهر بعضه من بابها، وإلى اليسار الباب المقفل لغرفتي التي أفكر متى ينتهي هذا المشهد لأهرب داخلها.

لم أستطع أن أهرب من الجسارة الإلهية لتلك العبارة: “أنا اللي جبتك”، كيف يمكن في جدل بين إرادتي وإرادته، في توتر بين وجوده ووجودي أن أواجه حجته تلك في أن إرادته هي التي أتت بي إلى الوجود.

عثرت على رد: “صحيح. المفروض أعمل إيه؟”، أو فوجئت بي أقوله. تأملت ردي يصدر مني ويبتعد متوجها إليه، وتأملت أبي وهو يسمعه ولا يقف عنده كثيرا ويواصل عتابه وغضبه. فكرت إن كان ردي يعني استنكارا أم يتضمن امتثالا، أم أنه كان امتثالا استنكاريا. إن كان يقع في تلك المساحة التي أشعر فيها بذلك الارتباك من أن وجودي متعلق بوجوده، مستند إليه، خارجا منه، أو في تلك المساحة الأخرى التي وجدت فيها وجودي وإرادتي يبتعدان عنه، بخطوات مرتبكة، ويقفان أمامه الآن في مواجهة، وكيف أن ذلك ذاته كان مدهشا وغريبا، ولا يزال.

كانت المرة الوحيدة التي قالها، ولكنها كان لفظها طوال الوقت كعنوان كتاب، تظلل دلالاته وإيحاءاته كل ما هو مكتوب فيه. كان ذلك دائما عنوان إشهاد مربك.

1995

في القرآن: “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”.

يروى أن النبي محمد قال تفسيرا لهذه الآية أن الله مسح على ظهر آدم فأخرج إلى الوجود، مؤقتا، كل أولاده من وقتها إلى قيام الساعة وأشهدهم جميعا وقال لهم: “أنا ربكم”، لئلا ينكروا ذلك لاحقا، ثم أعادهم إلى ظهره مرة أخرى.

قال لي شيخي السلفي في درس العقيدة أن هناك خلاف بين العلماء إن كان ذلك الإشهاد قد حدث بالفعل أم أنه مجاز لفعل الله في الفطرة الصحيحة الأصلية للبشر التي تقر بأن الله هو خالقهم، لكن القول الأصح، في رأيه، هو أن نفهم تلك المرويات على ظاهرها بدون الاعتقاد في مجاز، ولذلك فكلنا جميعا كنا هناك في ذلك المشهد حيث خاطبنا الله مباشرة وقال لنا أنه ربنا وأننا أقررنا ذلك قبل أن نعود إلى ظهر أبينا آدم.

“وما حجة التذكير بذلك الإشهاد إن كنت لا أذكره فعلا الآن؟” سألته.

قال لي: الإنسان ينسى، ونسيان الشيء لا ينفي وجوده.

ضحكت وقلت له: ولكن كلنا نسينا فيما يبدو. هل تذكر أنت؟

ضحك وقال: نعم أذكر جيدا وأذكر أنك كنت معنا. ثم اعتدل في جلسته وقال بجدية: عموما، المتفق عليه أن أثر ذلك الإشهاد، سواء كان مشهدا أو مجازا، هو في فطرتنا الصحيحة التي تميل للاعتراف بوجود الخالق.

لم أجادل أكثر، كنت أنا و”فطرتي” وقتها في جانب واحد مع شيخي، فلم تكن هناك مشكلة.

كان ذلك قبل الإشهاد الأبوي: “أنا اللي جبتك”. بعدها فكرت، وباب غرفتي مغلق، أن الآباء عادة لا يحتاجون لإشهاد، أبي خاصة لم يكن ليحتاج لإشهاد، إن أبوته هنا، خلف باب غرفتي، وداخلها أحيانا، لا أحتاج أن أتذكر أو أنظر في “فطرتي” كما يقتضي البحث عن أثر الإشهاد الإلهي. بل إن لسان الألوهية في “الكتب المقدسة” يشكو ميل البشر للانصياع لتأثير الأبوة الذي يعادي الامتثال للألوهية ورسلها. عاتب الله كثيرين في القرآن أنهم ظلوا على ما وجدوا عليه آباءهم بينما لم يطيعوا فطرتهم ولا رسله ولا كلماته التي أرسلها معهم. قالوا له ولهم: “بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا” أو تساءلوا استنكارا: “أنترك ما وجدنا عليه آباءنا؟!”.

وباستثناء تلك اللحظات الصراعية، التي أسفرت فيها الألوهية عن نفسها عبر رسل واجهوا صعوبات مع تأثير الآباء، يبدو أن الألوهية نفسها تجد طريقها المستمر إلى الناس عبر الأبوة، الآباء المؤمنون يورثون أبناءهم الإيمان. هذا هو أكثر الطرق ازدحاما إلى الإيمان.

يقول لي الشيخ مرة آخرى: إن قولا آخر للمفسرين أن الإشهاد ينتقل عبر الذرية. هممم، عبر الآباء. الآباء هم ضمان الذاكرة الأزلية وحاملوها.

لقد بدا لي الدين كله، بعدما قمت وذهبت بعيدا عن شيخي السلفي، مسألة تذّكر. ليس على طريقة فرويد، الذي يعتقد أن الدين يحمل الذاكرة البدائية البشرية: طفولتها، بحثها عن الأب في العالم. على العكس، بدا لي أحيانا أنه عند انسداد كل الطرق إلى الألوهية، أو إلى مطلق يهديء قلق الوجود: التجربة الروحية، الفطرة، العقل، نظرية الخلق، التفسر الديني للعلم، إحكام الرسائل الدينية وإعجازها، الاحتياج الإنساني إلى الأزلية والأبدية، عندما يتعثر كل ذلك هناك طريق محتمل: الدين هو ذاكرة البشرية بشأن الألوهية التي لا مدخل لنا إليها الآن، لقد كان هناك طريق- ربما- ولم يعد موجودا، لم يعد لنا إلا الذاكرة، ومعها التشوش والاضطراب والنسيان.
في الدين نحن بالكاد نتذكر ما هو بعيد جدا، ما هو أبعد حتى من النسيان، نتذكر ما لم نشهده. وفي هذا الطريق، إن بدا لنا أن نسلكه، يجب أن نثق في آباءنا، أو يجب أن نجد لنا آباء، ونقنع بما بقي في ذاكرتهم لنحمله إلى من بعدنا عندما نصير آباء.

ولكن حتى وأنا أكتب مشهد إشهاد أبي عليّ: أنا اللي جبتك، حاولت أن أتذكر سبب جدالنا وسبب غضبه وما كان يريده مني. لا أذكر شيئا سوى الإشهاد نفسه.

1999

أذكر جيدا اللحظة التي امتلأت فيها بالسخرية وأنا أسمع فيروز تغني: “أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة” من أشعار جبران خليل جبران، كان اللحن رديئا جدا وكأنها تهتف بشعار في مؤتمر.

كنت قد افتتنت بعبارة جبران لفترة وأنا في مرحلة طفولية متململة من الأبوة وسلطتها وغارقة في الروح الغنائية الحالمة، لكن في لحظة أخرى عندما ذكرتني فيروز بهذه العبارة كنت قد أنجزت كثيرا من التأمل في غرفتي في إشكالية الأبوة، كما أني قرأت بعض الأشياء البنيوية لميشيل فوكو وليفي شتراوس، فصار ساخرا جدا بالنسبة لي أن يكون تحررا أن نكون أبناء الحياة، وكأن هناك فضاءا حرا تماما من الشروط والقيود اسمه الحياة، كأن هذه الحياة وسط الطبيعة أو وسط الناس ليست ملأى بما هو أكثر تسلطا ورغبة في الحصول على الامتثال من الآباء.

إننا نولد لأبائنا، امتلاكهم لنا واستئثارهم بنا بدلا من أن يتركونا لأبوة الطبيعة، هو ما يجعلنا أناسا، واستئثارهم بنا بدلا من أن يتركوا لآباء آخرين هو ما يجعلنا أبناءهم. في النهاية ليس لنا ونحن كائنات مولودة للتو، ولفترة طويلة بعدها، أي خيار. عناية الأبوة تمتلكنا وتشكلنا. ولكن ذلك البروز المدهش والغريب للوجود الشخصي وللإرادة يدفعاننا ليس إلى الانطلاق بحرية، ولكن إلى الانصياع للتشكل أمام آباء آخرين، تأخدنا إليهم أقدار أو أهواء أو رغبات أو إرادة غامضة، ليشكلونا بدورهم وهكذا. لتصير أقدارنا وأهواءنا ورغباتنا وإرادتنا أكثر تركيبا وتعقيدا وأكثر إدهاشا من نتجاهلها، وربما أيضا من أن نعتد بها كثيرا ونقدسها وكأننا آلهة وجدنا أرواحنا جميلة وحرة وبها إرادة مقدسة ذات جوهر باهر.

ربما كان جبران يدعو الآباء للامتثال هنا لحقيقة أن آباء آخرين سوف يشاركونهم أبنائهم الذين طالما امتلكوهم، يضفي تعبير “الحياة” هنا منحى شاعريا جميلا مخادعا على الآباء الآخرين، مسحة جمالية تناسب إغواء الأباء الجدد الذي يغري بخيانة الأباء القدامى.

1990

لم يكن لأبي مكتب لأعماله الخاصة معظم الأوقات، بعيدا عن مكتب عمله الحكومي، لذا كان مألوفا لفترات طويلة رؤيته وهو يجلس أمام طاولة السفرة بالبيجاما أو بالملابس الداخلية، بحسب الوقت في السنة، ويضع عليها لوحة خشبية عريضة عليها طبقات من الورق الشفاف تتابع عليها مراحل خروج تصميماته إلى الوجود بخطوط من الخبر الثخين وهو يدخن ويسمع الكاسيت.

قضيت أوقاتا طويلة في تأمله وتأمل خطوطه، تعلمت مبكرا أشياء عن المنظور والظل والمساقط المختلفة للأجسام، كما أنه قضى وقتا طويلا بصبر ومزاج رائق يشرح لي وأنا في العاشرة من عمري تقريبا، بينما هو منشغل جزئيا في الرسم، أغنية ناظم الغزالي التي تبدأ بموال: “سمراء من قوم عيسى من أباح لها قتل امريء مسلم قاسى بها ولها”، بكل ما فيها من الزوايا والظلال.

كنت أرسم جيدا أنا الآخر، أو نشأت كذلك، احتفظت طريقتي في الرسم بالخط الثخين الذي يروح ويجيء مستسلما لمراوغة حواف الأشياء التي يجعلها الرسم الهندسي المدرسي حادة وواضحة وبلا أي سماكة وفاصلة بين سطحين بلا لبس. لاحقا قضيت وقتا لا بأس به في كلية الهندسة أحاول التخلص من تلك العادة، المرور ذهابا وإيابا على الخط الواحد، التي تجعل الناس تظن أني مرتبك أو متردد أو أني أحاول أن أعيد الرسم، بينما كانت تلك ببساطة هي الطريقة التي تعلمتها يدي، في الغالب بتأثير من أبي، ولكني لا أذكر أني حاولت تقليد خطه في الكتابة رغم أن خطه كان جميلا فيما يكتب داخل اللوحات وعلى هوامشها.

في المدرسة انتبهت إحدى المدرسات لتغير خطي عندما غيرت رفيق الدكة واستنتجت ببعض النباهة وبعض الحماقة المتسرعة أني أقلد خط من هو بجانبي، وقالت ضاحكة وسعيدة باكتشافها الذكي: يا عمرو إنت بتقلد خط اللي قاعد جنبك، مالكش خط!

غبية. كان واضحا أني أتأثر فعلا بخط كل من يجلس بجانبي لفترة طويلة، غير أن خطي يكون مختلفا وفيه تأثيرات ممتزجة، في النهاية أعترف أني لم أصل في أي مرحلة لأن أقول أن خطي كان جميلا، ولكنه كان مميزا في معظم الأوقات، ولم يبد لي في أي وقت أني قد أصبحت مستقرا على خط ما أسميته خطي، بدت لي فكرة غريبة عندما استفزتني المدرسة بملاحظتها، ولكني فعلا تأثرت فترة بالتكعيبية الحادة لخط ياسر، وفترة بالنمنمة المنمقة لخط سمر، وبالغموض المهمل لخط عمر، وبالتكويرات المتقاطعة لخط واحد لا أذكر اسمه، وكنت أكتب بتنويعات مختلفة في أوقات مختلفة وأنسى بعضها ويظل بعض تأثيرها معي، لم أكن جيدا في إتقان الخطوط العربية المعروفة، ولم أحب حصة الخط، ولكني ظللت طوال الوقت حرا في اللعب بخطي وحرا في التأثر بخطوط غيري، يشبه الأمر وقتها ما أفعله الآن من اختيار الخط المفضل في برنامج معالجة النصوص على الكمبيوتر، غير أنني وقتها كنت أشارك في اختراع تلك الخطوط الغرائبية غير المنضبطة، نسيت يدي تلك العادة مع الكمبيوتر، لكن لا زالت لدي مشاكل مع البنوك لأنني أحاول أن أتذكر أي لعبة استخدمت وقت توقيعي أوراق إنشاء الحساب.

انتبه أبي بعض المرات لتغيرات خطي، وسألني لماذا أكتب هكذا بخط مكوّر أو خط مكعب، وبدا له الأمر طريفا، ولكنه لم يكن يعلم شيئا عن بعض مصادر هذه الخطوط، ولكن ما استفزه هو تغيرات في سلوكي بدت له دخيلة.

كان يحرص على التعرف على أصحابي الذين يأتون إلى البيت، يجري معهم حوارات قصيرة وسريعة ولكنها تحاول أن تكون كاشفة بأسئلة مقتحمة تتخفى وراء المزاح والذكاء الاجتماعي لأبي، أو لا تتخفى. ربما تمزج حقا بين الود وحب الاشتباك مع الناس في العموم بالرغبة في الاطمئنان عليّ واستكشاف أصدقائي ومعارفي. كانت أفكاره وأحكامه على أصدقائي مصدر أحكام أخرى عليّ فاجأتني وأشعرتني بقدر من السوء أن تكون فكرته عني كذلك: هذا التمرد على المدرسين يشبه تمرد أحمد، هذا التشدد في الدين يشبه تشدد محمد، هذا الولع الزائد بالموسيقى والاهتمام الزائد بالمظهر مصدره عمر.

كانت تلك تعليقات مختزلة وسطحية ومهينة لطريقة تفاعلي مع الناس التي كانت تبدو لي ذكية، ليس لأني أمدح نفسي ولكن لأني أظن أن في ذلك بعض من محاكاتي لذكائه الاجتماعي. ربما لم يستطع تفهم ذلك التفاعل المتقلب لأنه كان مختلفا بوضوح عن قوة شخصيته وثباتها على الأرض، أتخيله طفلا راسخ الطباع مثلما هو الآن. لا أعتقد أنه كان لدي في أي وقت تصورا واضحا ومتصلبا عن ذاتي، ويعجبني ذلك الآن.

من موقعه القوي والثابت هذا أطلق أحكامه تلك التي مست صورة حكمته وبصيرته عندي. لم أرد عليه في الغالب لأحاول الدفاع عن نفسي وأقول أني كنت قائدا ومؤثرا في أصدقائي ومعارفي، لقد كنت في مساحة مسترخية بين الريادة والاتباع، بين الاسترخاء لأركان من السلوك جعلتها بيتي في العالم وبين التجريب الهاديء والزيارات المتقطعة لما هو بعيد عني، لتبدو تغيراتي كرحلات بطيئة متهملة أشعر، ويشعرون، بالمفاجأة أنها قد أرسلتني بعيدا جدا.

قُدت أصحابي لبعض المغامرات وانسقت وراءهم في بعضها، كما أني كنت رائدا لعوالم جديدة مهاب الجانب بالنسبة لإخوتي وأولاد العائلة، وكان أبي يعلم بعض ذلك، ولكني أعتقد أن حكمة أبي اهتزت من تأثير الغيرة من تلك “الأبوة الجديدة” التي تتأثر بها حياتي خارج البيت بعيدا عنه، كان يستكشفها ويحاول تحليل تأثيراتها واتجاهاتها، وتحت تأثير الغيرة نسى ذلك العامل المدهش والغريب الذي يكمن فيّ وفي فاعليتي، أو بالنسبة له هذه فاعلية غريبة وغامضة نشأت في وليده الذي أحضره إلى العالم وأخدته بعيدا عنه وعن خطته له.

إلى الآن لا زال يحاول الاستكشاف محافظا على فضوله وسؤاله الدوري: “من هم أصدقاؤك الآن؟ من هم رفاق عملك؟ هل أعرفهم؟”

هذه الأسئلة أصبحت محاولات لا طائل منها لمعرفة أي شيء عن الابن الذي ذهب بعيدا، ببطء، بدون أن ينتبه متى وكيف سلك هذه الطرق. منذ أن لمست غيرة أبي على أبوّته تعلمت إخفاء بعض أصدقائي عن أبي، وتعلمت أن أجعله فقط يرى ويعرف من أعتقد أنه لا مشكلة في أن يعرف أنني أعرفه، أو أحب أن يعرف أني أعرفه، كانت تلك أولى مناوراتي للاختباء من الأبوة وغيرتها، ليس فقط لأدع نفسي أذهب مع تأثيرات جديدة بسلام، ولكن أيضا لأنني ابن مهذب يحب أباه، والتوتر بينهما ينزع عنه ارتياحه في العالم. لقد كان ذلك مرضيا ومريحا لكلينا معظم الوقت، فلم لا.

1995

بالملابس والأحذية الرياضية، كنا في بيت الشيخ نتلقى أولى دروس العقيدة السلفية، لم نعد من عوام المتدينين الذين يحضرون الدروس والمحاضرات المفتوحة، رأى المشايخ فينا شيئا واعدا والتحقنا للدراسة على يدهم في فروع مختلفة من علوم الشريعة في جلسات مغلقة في البيوت.

كان مشايخنا من ذوي الماضي مع تنظيم “الجماعة الإسلامية” الذي سحقه الأمن وأخضع ما تبقى من دوائره لرقابة صارمة، ولم يكن مسموحا لهم عقد حلقات التدريس في المساجد ولا الخطابة على المنبر يوم الجمعة إلا وفق تفاهمات صارمة مع ضباط الأمن.

قال لنا الشيخ في أول جلسة أن الأمر ينطوي على بعض الخطورة، فهو قد يؤدي إلى أن تكون لنا ملفات في جهاز أمن الدولة، ملفات أكثر جدية من الشباب الذين يصلون في مساجد تجمعات السلفيين أو يحضرون المحاضرات العلنية المسموح بها، قد يؤدي الأمر لاعتقالنا واستجوابنا أحيانا، والتعذيب وارد. قال المشايخ أننا سنتبع بعض الاحترازات، لن يكون للدرس موعد أسبوعي ثابت، سنغير اليوم خلال الأسبوع، وسنغير الموعد خلال اليوم، مرة بعد المغرب، مرة بعد العشاء، ليبدو الأمر أنها زيارات متفرقة وليست جلسات دراسية، ولكن كل ذلك لا يمنع تماما احتمالات وصول الأمر لتحريات الأمن.

طلب منا الشيخ الحصول على إذن صريح من الوالدين، وقال لنا أنه لا يجوز الكذب عليهم حتى من أجل طلب علوم الدين، وأننا نحتاج إلى دعمهم في حالة حدوث أي مكروه. ثم نقل بصره بين أجسامنا وأرجلنا وسألنا لماذا نرتدي الملابس الرياضية.

عندما ذهبت إلى أبي وطلبت منه الإذن بحضور جلسات خاصة في العلم الشرعي. اعتدل في جلسته ونظر في الأرض طويلا، كان يكبح غضبا ما، يستعيد وقائع التوترات ما بيننا منذ بدأت أقترب من السلفيين في المنطقة وأرتاد مسجدهم، يستعيد وقائع توتره الشخصي، بين رعبه وخوفه علي من الاعتقال والتعذيب وبين بعض الاحترام والإكبار أن ابنه قرر أن يكون “شيخا” – كما يطلق العامة على السلفيين- أو أن يكون “ملتزما” – كما يطلق السلفيين على أنفسهم – والآن “طالب علم” يدرس علوم الشريعة بشكل شبه نظامي. كان يحاول أن يستعيد بعض ما ألزم به نفسه من أن يعطي لأولاده الحرية ويحترم خياراتهم، يستعيد تلك القوة بداخله التي لا تحتاج لسند أو تبرير في عزمها على توجيههم وتشكيلهم وفق ما يراه الصواب والأصلح والأكثر أمنا.

كبح في نفسه صرخات أطلقها سابقا: “لماذا السلفيين تحديدا؟ متشددون. لماذا ليس الصوفية؟ يمكنني أن آخذك إلى مشايخ في الأزهر، معتدلون ويعيشون في أمان. لم لا؟”. استعاد في نفسه قدرا من الاحترام للسلفيين، الذي يكنه الكثيرون من المختلفين معهم، باعتبارهم متدينين أكثر أصالة يواجهون رخاوة وطراوة المجتمع بشجاعة ويتحملون الأذى والمطاردة، رفع رأسه وقال لي أنه أعطاني الحرية، ويعرف أني مسئول وذكي، وأن الله يحرسني، ولكن يكفي أني أرتاد المسجد والدروس والمحاضرات العامة، ولا حاجة للمزيد، أيضا لكي لا تشغلني أكثر عن دراستي خاصة أنه بعد إجازة ذلك الصيف تبدأ السنتين النهائيتين في “الثانوية العامة”.

لم أناقشه، احترمت كل ما رأيته يعاني في كبحه، كانت تلك واحدة من اللحظات التي كانت مؤهلة لكي تكون إحدى المواجهات المتوترة ولكنه قطع طريقا طويلا نحوي، شعرت نحوه بحب بالغ، وبتعاطف كبير مع مأزق الأبوة، تعاطف أخرجني من مخبأي لكي أضع نفسي مكانه وأتخيل خوفي على ابني وماذا كنت سأقرر لو كنت مكانه، غالبا كنت سأفعل مثله تماما. ولكن وقتها لم يكن لدي أدنى شك أو تردد في أني لن أمتثل لقراره وسأبدأ الدروس.

بالملابس والأحذية الرياضية نزلنا من بيت الشيخ، صلينا العشاء في مسجد قريب وذهبنا إلى الشارع الخالي الذي نلعب فيه الكرة أحيانا، لعبنا لدقائق وعدنا إلى بيوتنا نتظاهر بالتعب.

– “كنت فين يا عمرو؟”

– “كنت بالعب كورة”.

هل تحتسب عند الله كذبة؟

1995

هذه المرة أنهينا الدرس مبكرا ولعبنا مباراة حقيقة وطويلة. انتهينا من المباراة وكنا في غاية التعب، توجهنا إلى حيث البقالة القريبة واشترينا بعض المثلجات وجلسنا على الرصيف في الشارع الهاديء. قال أحدنا: “حاسس لما أرجع البيت إني هاكون باكذب برضه لما أقول لهم إني كنت بالعب كورة”.

ضحكنا، وفتحنا نقاشا دينيا حول الكذب، وحول “المعاريض” المباحة شرعا، تعني “المعاريض” ألا تقول الحقيقة، أن تخبيء الحقيقة المطلوبة، الحقيقة موضع التوتر، أن تبدي حقيقة أخرى أو تبدي جانبا منها يظهرها كأنها شيء أخر، بشرط ألا يسبب ذلك ضررا أو أذى بأحد.

بدأ نقاشنا الشرعي يتجاوز الأفكار التراثية ويتجه إلى بعض المزاح والتلاعب، بدأنا نتحدث عن شبه الكذب على الآباء بالكذب على الزوجات عند الغزل، هناك علاقة حب وتعلق يشوبها الخوف، لا بد من بعض الاختباء في اللغة، إرضاء الزوجة وتسكين قلقها بخصوص ما يعتقده الرجل بخصوص جمالها، سعادته معها، حبه لها، والعكس. هل يمكن أن نسحب ذلك على الآباء، ذلك الحب الذي يشوبه الخوف والغيرة من العلاقة مع “الآباء الآخرين”، هل يمكننا أن نعد الكذب على الآباء من ذلك القبيل.

انغمسنا أكثر وتحدثنا عن أن الكذب عليهم يمكن أن يكون من باب الكذب على الأعداء وقت الحرب، تلك الرغبة في السيطرة أحيانا يبدو أنها تتجاوز الحب، تبدو كرغبة محمومة في التحكم في تلك المخلوقات التابعة بالشكل الذي يرغبونه ويحقق لهم السعادة، أين هي إرادتنا إذن، إنها الحرب. البعض اقترح أن ذلك ينسحب على الشيخ أيضا لأنه أب آخر أو لأنه من جيل الآباء.

المنسوب للنبي محمد أن الكذب لا يجوز إلا في ثلاث حالات: الحرب، والأحاديث الحميمة بين الرجل وزوجته، والإصلاح بين الناس.

حتى الحالة الأخيرة تحدثنا أنها تنطبق على الآباء، لأن الكذب عليهم من قبيل إصلاح العلاقة بين الأجيال التي سيملؤها الصدق صراعات وتوترات. طبعا كمتدينين مخلصين أضفنا أننا سنلتزم بالضابط الشرعي أنه لا يجوز ذلك إن كان فيه أذى أو ضرر لهم. ضحكنا لأننا اكتشفنا أننا فيما يخص “الدروس السرية” نكذب لما فيه غالبا أذى وضرر محتمل لنا نحن، ولكننا طبعا كنا نمتلك شجاعة من يفكرون في إصلاح العالم.

2011

يوم 25 يناير اتصل بي أبي يسألني عن مكاني ويحاول أثنائي عن الاشتراك في المظاهرات: لا توجد ثورة بميعاد وهذه حركات انتحارية وأنا أعلم أنك تجيد تقدير الأمور ولا تحب المواقف الانتحارية.

طمأنته أنني سأقضي يومي في نوبة طويلة في غرفة أخبار الموقع الإلكتروني ل”المصري اليوم” لمتابعة اليوم.

توقف موقع “المصري اليوم” عن العمل في منتصف اليوم، قيل وقتها أنه بسبب الضغط الشديد على الموقع، فنزلت إلى ميدان التحرير وجلست على الأسفلت قليلا مع بعض الرفاق نتعجب من المشاركة الواسعة ذلك اليوم قبل أن تفض قوات الأمن الميدان. جرينا في الشوارع المحيطة بالميدان وانتظرنا بإصرار أن نتجمع لنعود، فاجأتنا عافيتنا وأعدادنا الكثيرة المستعدة لمواصلة التظاهر. تظاهرنا حتى الفجر كمجموعات صغيرة تطاردها قوات الأمن في الأحياء المحيطة بالميدان. أنهكنا أنفسنا وقوات الأمن ومن رجع منا إلى بيته واصل الصياح على الإنترنت أننا سنعود. عدت إلى البيت ومعي قفل باب المرحاض العمومي في ميدان التحرير، كسرناه استعدادا لاحتلال الميدان للاعتصام قبل أن يفرقونا. وضعت صورته على المدونة مع تدوينة بعنوان: كيف نشفى من الياسمين؟

كانت وسائل الإعلام قد أطلقت على ماحدث في تونس وإسقاط الرئيس زين العابدين بن علي “ثورة الياسمين”. وانطلقت الدعوة للتظاهر يوم 28 يناير.

اتصل بي أبي قبل انقطاع الاتصالات بكل شبكات المحمول والإنترنت ليلة 28 يناير، قال أن هذه المظاهرات كانت رسالة قوية وهذا يكفي وأن المزيد هو انتحار وتضييع لما تم كسبه وأن عليّ أن أتجنب النزول إلى الشارع، فأكدت له ذلك فعلا، بنبرة كذب مستسلمة تماما وواقفته أنها كانت رسالة قوية وتكفي، ولن نشارك بالتأكيد في مظاهرات 28 يناير.

نزل أخويّ من بيت أبي أثناء استحمامه استعدادا لصلاة الجمعة، وقابلتهم في مسجد كبير في ميدان الكيت كات بامبابة، مشينا من هناك حتى التقينا أول حشد كبير وانضمننا لهم وسرنا إلى ميدان التحرير في طريق متعرج قطعته اشتباكات ومحاولات من قوات الأمن لتفريقنا، وصلنا إلى ميدان التحرير بعد عشر ساعات تقريبا، قوات الأمن انسحبت تماما، قوات الجيش في الميدان وتحمي مقر البرلمان ومقر وزارة الداخلية القريبين من الميدان. ما العمل الآن؟ قلت لأخوي أن يعودا إلى البيت لطمأنة أبي وإخباره أنني سأبيت في الجريدة لمتابعة الأمور.

لم يرو لي أخويّ حتى الآن حالة أبي وأمي أمام التليفزيون وهما يتابعان صور قتى وجرحى ومبان محترقة وشوارع مظلمة تملأها فوضى مرحة لآلاف من الشباب وسط عربات أمن مخربة ومدرعات جيش مرتبكة. لم يرويا لي ما قاله أبي عني، بعد أن اتهمني أنني من حرضتهما على المشاركة في المظاهرات، قالا لي أن ما قاله يومها كان أعنف ما سمعاه منه على الإطلاق ولا أحب أن أعرفه.

ورغم ذلك كان ملتاعا وحانيا عندما اتصلت به على التليفون الأرضي أطمأنه أنني في مقر الجريدة، قال لي أن ما حدث يكفي جدا وخطاب مبارك الذي تراجع فيه أمام بعض مطالبنا يكفي جدا، وافقته وقلت له أن هذا صحيح ولكني ما زلت مقيما في الجريدة بشكل دائم لأننا في حالة طواريء ممتدة. كان يعلم أنني أكذب ولكن لم يكن أمامه أي خيار.

تحدثنا بعد كل خطاب لمبارك قدم فيه بعض الوعود، التي نراها كاذبة أو غير كافية، ووعدت أبي وعودا كاذبة وغير كافية أنني لن أشارك في أي مظاهرات قادمة وأنني أبتعد عن أي خطر.

كان موعد عقد قران أخي الأصغر، مصطفى، يوم 30 يناير وتأجل بسبب ما حدث، وقرروا عقده سريعا بعد ذلك بأيام لأن عدم الاستقرار بدا أنه سيطول. لم نحضر القران أنا وأخي الأوسط، محمود، لأنه تزامن مع موعد مظاهرة مليونية هامة للتأكيد على عزمنا عدم التراجع إلا بإسقاط مبارك. تقبل أخي الأصغر ذلك بل وأبدى لنا أسفه أنه لن يستطيع المشاركة في المليونية الهامة.

كذبنا أنا ومحمود على أبي وأمي وقلنا أننا لن نحضر لأن عملنا يحتم علينا متابعة المليونية، كان محمود بعد أن أنهى دراسة الطب قد بدأ في العمل في إنتاج الأفلام الوثائقية، ولكن هذا لم يكن كذبا تماما، كل العاملين في المهن المتصلة بالمجال العام إن لم يكونوا مشاركين كانوا منخرطين رغم أنفهم بأشكال متفاوتة ويجب أن يتابعوا ما يحدث عن قرب، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين.

وبالتوازي مع الكذب المطمئن المستمر للأهل لكي لنختبيء من قلقهم ورغبتهم في الاطمئنان، كنت أنا ومحمود من شبكة واسعة من المحرضين المعروفين على الإنترنت، في المدونات وفيسبوك وتويتر، نصيح بأعلى اصواتنا ندعو الناس للمشاركة واستكمال طريق الثورة.

على أطراف الميدان الهادئة وفي الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع رئيسي تمر منه مسيراتنا الحاشدة كنت أرى مكالمات الكذب والطمأنة تلك، حشود من المختبئين من آبائهم، ينهون مكالماتهم بأعين قلقة، ثم يعودون تلتمع أعينهم ويواصلون الهتاف وتحريض الناس على المشاركة بكل حماس.

2005

“أخويا الكبير

لما التزم

ربى دقنه وصلى في المسجد

البيت اتقلب

وبعدين لما بقى يساري

برضه البيت اتقلب

ولما مابقوش عارفين هو إيه

برضه البيت اتقلب

السؤال

البيت دا ملته إيه؟!”

عندما قرأ أبي المقاطع السابقة من شعر أخي محمود، ضحك بصوت عال وقال: “صحيح، البيت دا ملته إيه؟”. كان يرددها كثيرا ويضحك أو يبتسم كأنها نص يتساءل عن عقيدته المعلنة والواضحة، ويضيف أحيانا: “لما تخلّفوا ويبقى عندكم عيال هاتعرفوا البيت دا ملته إيه”.

لقد قمت بعدة تنظيرات بخصوص “ملة هذا البيت”، ملة هذا البيت كواحد من بيوت الشرائح الأقل ثروة من الطبقة الوسطى، هي النجاح وتأمين الحياة والبعد عن موضوعات الشغف والمغامرات. لتكن مهندسا لكن لا تدرس الفن، لتكن متدينا كمشايخ الأزهر أو كأبناء الطرق الصوفية الذين يدورون في الدوائر الآمنة لا سلفيا أو إخوانيا، إن أردت أن تمارس السياسة فلماذا لا تنضم للحزب الحاكم، فكر أن تصلحه من الداخل، لكن بعيدا عن المعارضة.

نظرية أخرى بخصوص ملة هذا البيت كموطن للأبوة، ملة هذا البيت هو الاستمرار لا الانقطاع، لماذا لا يكون أبناؤنا مثلنا؟ لماذا يريدون الذهاب بعيدا؟

بدا لي ذلك جذر الفكرة المحافظة، فكرة السلطة عن نفسها باعتبارها مصدر استمرارية الحياة الإنسانية في اتجاهها الراهن. الأبوة هي الضامن الأساسي لكي يكون الكائن الجديد إنسانا، إن مجموع الآباء ونوازعهم هم من يشكلون ما يتم تسميته بـ”المجتمع”، المجتمع الذي يفكر في نفسه كشيء موجود يريد أن يستمر، ليس لديه تبرير ولا تنظير لذلك، يحدث ذلك عبر حب ورعاية وامتلاك الكائنات الجديدة التي تصنعها الأبوة.

مسافة واسعة بين تنظيراتي التي رسمت صورة للأبوة باعتبارها موقف المحافظة المتخوف من الشغف والحيوية والمغامرة والموقف راغب في الاستمرار والأمان بوصفه هدفا، وبين صورة أبي الحيّة النابضة بالحيوية والتجارب والشغف دائم الحضور بالناس والأشياء. هي المسافة بين الفرد باعتباره أبا وبين ذلك الأب نفسه باعتباره فردا.

هل يمكن أن نقول لآباءنا أنكم لن تفهمون ما نريده بعيدا عنكم وعن رضاكم بنفس المنظور الذي يتبنوه ولكن معكوسا: عندما لن تعودوا آباء ستفهموننا؟

ننشر مختارات من نص “غرفة 304 أو كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عاما” بالإنجليزية ضمن مشروع 60pages ،يصدر باللغة العربية قريبا.

المساهمون