كم قمرًا في خدمتك؟

إن كنت ممن يعتقدون أنك تستخدم نظام التموضع العالمي حين تقوم بفتح تطبيق الخرائط في هاتفك المحمول فقط فقطعًا أنت مُخطئ.

أحمد عبدالفتاح

هل فكرت يومًا أن إجابات أسئلة مثل: أين نحن؟ كم الوقت الآن؟ أين نعيش؟ ما شكل مدينتنا ؟ كم سرعتنا؟ ما الحالة المرورية ؟ هل هناك سيارة أجرة في الجوار يمكن طلبها؟ كم يحتاج السائق من الوقت ليصل إلي؟ كم ستكون تكلفة الرحلة؟ كيف أصل إلى ذلك العنوان؟ وما وسيلة المواصلات الأمثل للذهاب الى ذلك المكان؟ مرتبطة بمجموعة من الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض.

جهاز مزامنة العالم

الأقمار ليست مسؤولة فقط عن الإجابة عن هذه الأسئلة حتى أبسط العمليات التي تقوم بها يوميًا كاستخدام ماكينة صراف آلي أو تحويل بنكي أو حجز قطار أو طائرة كلها مرتبطة أيضًا بتلك الأقمار، التي تعرف بنظام التموضع العالمي أو GPS. إن كنت ممن يعتقدون أنك تستخدم نظام التموضع العالمي حين تقوم بفتح تطبيق الخرائط في هاتفك المحمول فقط فقطعًا أنت مُخطئ فنظام التموضع العالمي يتحكم في الكثير من مناحي حياتنا الحديثة. لا يلعب نظام التموضع فقط دور الملاح الذي يخبر أين نحن، بل تعدى ذلك ليكون ساعة العالم الحديث، التي يضبط توقيته بها أو ما يمكن تسميته “جهاز مزامنة العالم”.

كم الساعة الآن؟

منذ بداية الخليقة اتفق أن تكون الخرائط مسقطًا رأسيًا للأرض يرون عبرها الأرض، التي يعيشون فيها من أعلى. في العصور القديمة، عندما كان الطيران مجرد حلم لم يكن رسم تلك الخرائط بالأمر الهين لم يملك الأقدمون تصورًا متكاملًا حول شكل الأرض التي يعيشون عليها. عانت تلك الخرائط دائمًا من عدم الدقة ومع تطور الزمان والإمكانيات وتمكن البشر من رسم خرائطهم بشكل دقيق ظلت هناك معضلة السؤال الذي يسأله كل ناظر إلي خريطة: “أين أنا الآن علي تلك الخريطة؟” فما فائدة الخريطة إن لم تكن تعلم مكانك عليها؟ استخدم البشر على مَرّ تاريخهم تقنيات متعددة للإجابة علي ذلك السؤال إلا أن أكثر تلك الطرق فاعلية كانت عبر تحديد أي ثلاثة معالم – أو أكثر – محيطة بالراصد، وحساب مسافة الراصد عنها وتحديدها علي الخريطة ومطابقة تلك المعالم في الحقيقة مع صورها علي الخريطة للحصول علي مكان الراصد بدقة واتجاهه. مع مرور الزمن وتطوّر الإمكانيات ظلت الطريقة القديمة مستخدمة إلا أنه تمّ إحلال المعالم التقليدية الموجودة على الأرض بشواخص الإلكترونية موجودة في الفضاء الخارجي تعرف باسم الأقمار الصناعية.

 

أنظمة تحديد المواقع بشكل عام، وأشهرها نظام GPS المملوك لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نشأتها في العام ١٩٧٣، اعتمدت علي نفس النظرية القديمة، تحديد موقع الراصد بالنسبة لثلاثة أجسام أو أكثر في وقت معين. في كل مرة يحاول شخص ما استخدام هاتفه المحمول لمعرفة مكانه علي الخريطة فإن هوائي نظام GPS المُدمج في الهاتف يقوم بحساب المسافة بين الهاتف و٤ أقمار صناعية علي الأقل من مجمل ٢٤ قمرًا صناعيًا يطوفون حول الأرض وحساب وقت الرصد بدقة، لذا فكل قمر صناعي يحتوي علي ساعة ذرية، وهو ما دفع أنظمة تحديد المواقع إلى تعدي دورها الكلاسيكي من الإجابة علي سؤال: أين أنا الآن على تلك الخريطة؟ إلى الإجابة بدقة علي سؤال : كم الساعة الآن؟ وجود تلك الساعات الذرية جعل من أقمار وأنظمة تحديد المواقع الأداة الأسهل لمزامنة الوقت بدقة بين الأنظمة، التي تحتاج إلى تلك المزامنة كأنظمة أسواق المال والبنوك وخطوط الطيران والأرصاد الجوية.. إلخ. تطبيقات أنظمة تحديد المواقع في حياتنا لا نهائية. منذ إتاحة أنظمة تحديد المواقع للعامة في العام ٢٠٠٠ أصبحت تلك الأنظمة متداخلة مع حياة البشر علي كوكب الأرض بشكل أكبر وأكثر تأثيرًا علي حياتهم. حتى وإن كنت لا تملك هاتف ذكي محمول أو سيارة حديثة بها برنامج ملاحة فان عملية تحويل بنكية صغيرة أو حجز تذكرة قطار أو طائرة تعتمد بشكل مباشر على ذلك النظام وصولًا إلى أكثر العمليات تعقيدًا كقيادة سيارة ذاتية القيادة أو طائرة بدون طيار، فأنظمة الملاحة تعدت دورها التقليدي إلى ما يمكن تسميته ” جهاز مزامنة العالم”. أهمية تلك الأنظمة دفع الدول العظمى إلى التنافس على ملكية أنظمتها الخاصة فالاتحاد السوفيتي سابقًا تنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ السبعينيات على بناء نظامه الخاص (جلوناس) كما أن هناك نظام “جالليليو” المملوك للاتحاد الأوروبي، إلا أن نظام GPS يظل الأكثر شهرة واستخدامًا.

المُرشِد في دهاليز المدينة

كمراهق ولد وتربي في إحدى مدن القاهرة الجديدة كانت وسط المدينة بالنسبة لي عبارة عن ميدان التحرير وما يحتويه من محطة مترو أنور السادات وموقف الحافلات بالإضافة إلى شارع طلعت حرب ومحلات الملابس، التي يعج بها، ومع تجاوز سنوات المراهقة إلى الشباب وبدء مغامراتي لاكتشاف وسط المدينة بدأتُ أدرك أن وسط القاهرة أكبر من الميدان والشارع. كانت مشكلتي في اكتشاف شوارع وسط المدينة هي ازدواجية أسماؤها، أغلب الشوارع لها اسم قديم وآخر جديد. شارع رمسيس هو شارع الملكة نازلي. شارع رشدي هو شارع الساحة. شارع وميدان طلعت حرب هما شارع وميدان سليمان باشا. جدي مثلا كان لا يعترف بالأسماء الحديثة في حين أن من هم أصغر سنًا تذكر الأسماء الجديدة، ولافتات الشوارع النادرة الموجودة في وسط المدينة كذلك. كمهتم بالتقنية بدأتُ البحث عن حلول تقنية لتلك المشكلة ووجدتُ الحل في اختراع جديد حينها هو خرائط جوجل. كانت خرائط جوجل بالنسبة لي حل سحري فهي استطاعت ليس فقط أن ترشدني في متاهة شوارع وحواري وسط المدينة، لكنها أيضًا حَوَت أسماء الشوارع القديمة والجديدة جنبًا إلى جنب. أتذكر في إحدى المرات حينما كنتُ أجلس مع أصدقائي علي إحدى المقاهي في وسط المدينة، وكانت طاولتنا تقع في منتصف حارة سد لا يزيد طولها عن ١٠٠ متر وبدأ أحدنا في السؤال إن كانت تلك الحارة لها اسم معروف؟ لم يستطع عامل المقهى معرفة اسمها إلا أننا وجدنا إجابة سؤالنا في خرائط جوجل. حتى بعد سكني في وسط المدينة بشكل دائم ظلت خرائط جوجل مُرشِدي داخل شوارعه. حتى الآن وبعد مرور كل هذه السنوات لا أزل اكتشف أماكن جديدة في وسط المدينة بفضل تلك التقنية. من وسط المدينة، إلى باقي مناطق القاهرة، وحتى خارج القاهرة ومصر ظلت تلك الخرائط الإلكترونية رفيقي المفضل في جولات استكشاف المدن حول العالم.

ماذا عن خصوصيتنا؟

لعل السؤال الأكثر إلحاحًا في عصرنا الحالي في ظل كل تلك التقنيات التي نحيا بها ومعها على هذا الكوكب هل تأثرت خصوصيتنا بكل تلك التقنيات؟ هل نحن مراقبين؟ بداية ولتخيل كمية المعلومات التي تجمعها عنك تلك التقنيات دعونا نضرب مثالًا بتقنية مثل تحديد المواقع المتواجدة في أغلب هواتفنا المحمولة الآن، فإن كنتُ من مستخدمي هاتف ذكي مزود ببرامج جوجل وكنت تسمح لجوجل بتعقب موقعك – وهو إعداد يكون مُفعل تلقائيًا – إضغط علي هذا الرابط لتدرك أن جوجل تعرف وتسجل كل خطوة تخطوها تقريبًا. تصر شركات التقنية من جهتها على أن كل المعلومات، التي تجمعها عنك سرية، ولا تتشاركها مع أي جهة أيا كانت إلا أن الشواهد تقول عكس ذلك. على سبيل المثال تعترف شركة مثل جوجل بأنها تستخدم تلك المعلومات لتحسين الإعلانات التي تظهر للمستخدم وهو ما يعتبره البعض اختراقًا للخصوصية. كما أن قاعات المحاكم تعج بالقضايا، التي تطلب فيها سلطات التحقيق معلومات عن بعض الأشخاص من شركات التقنية، والتي تنجح في بعض الأحوال في التحصل عليها وفي بعض الأحيان لا تنجح. بعيدًا عما هو معروف لنا كمستخدمين لا يعلم أحد علي وجه التحديد إلى أين تنتهي كل تلك المعلومات، التي تجمعها عنّا تلك التقنيات إلا أن الثابت أن أغلبنا حاليًا يحمل داخل هاتفه الذكي وسيارته المزودة بنظام ملاحي ذكي وساعته الذكية أجهزة تعقب ترصد كل تحركاته وسكناته. بالتأكيد هي تساعدنا على جعل حياتنا أسهل إلا أنها في الوقت نفسه أصبحت مكشوفة لشركات التقنية ومن تتشارك معهم تلك المعلومات – أن وجد – وهو ما يهدد خصوصيتنا بالتأكيد.