اختبار الملحق

مدينة ميديا

أين مخطوط الرواية؟

قبل سبعة شهور من بدء نشر ” أولاد حارتنا” في الأهرام، تولي نجيب محفوظ مسئولية جهاز الرقابة على السينما، وهو أصاب الكثيرين بالدهشة، إذ كيف لرجل يدعو للحرية وينادي بها ويتّخذ من الديموقراطية شعارًا ثابتًا له، ثم يرضي أن يكون رقيبًا على الفن، ويحدّ من حرية الفنانين؟ فَسَرَ محفوظ موقفه لرجاء النقاش:” أن الرقابة- كما فهمتها- ليست فنية، ولا تتعرَّض للفن أو قيمته، ووظيفتها- ببساطة – أن تحمي سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول في مشاكل دينية قد تؤدي إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده في حدود المعقول، وفيما عدا ذلك يحق للفنان أن يقول ما يشاء، ويعبِّر عن نفسه بالأسلوب الذي يراه مناسبًا”، وأضاف:” الرقابة ليست قيدًا على الفنان والرقيب ينبغي أن يكون صديقًا للفن لا عدوًا له، وأن دورنا كرقابة هو فى مساعدة شركات الإنتاج حتى لا تتعرض لخسارة مادية لا داعي لها، وبالتالي فإن أي ملاحظات فى السيناريوهات المقدمة لنّا يمكن حلها بالمناقشة والحوار، مع الأخذ في الاعتبار أن الأصل في الفن هو “الإباحة” أما “المنع” فهو مثل الطلاق أي أبغض الحلال. وطوال الفترة التي أمضيتها بالرقابة كنتُ مُنحازًا للفن، رغم أن الأجواء بها تحمل روح العداء للفن. لم أشعر، في لحظة من اللحظات، أنني أخون نفسي كأديب وفنان “. لم يكن محفوظ المثقف الأول، الذى يتولى مسئولية رقابية، تاريخيًا فقد سبقه العقاد الذي تولى أثناء الحرب العالمية في الفترة من 1939- 1945 جهاز الرقابة على المطبوعات، وأعلن العقاد أنه قَبَلَ المسئولية حتى يستطيع أن يمنع كتب الدعاية النازية والفاشية وغيرها من النظم الشمولية.

 

الإيمان مكتوب في رواية

 عندما سأل ستيورت محفوظ عن مخطوط الرواية أجابه: ” الأهرام لم تعد المخطوط الأصلي للرواية، فاستنتجت ضياعه، فلم أسأل عنه”. في أثناء الترجمة، طرح فيليب العديد من القضايا على محفوظ، حاول مناقشته في تصوراته الدينية والفنية. سأله محفوظ: ماذا في الروية يثير غضب الرأي العام؟ طرح فيليب ثلاث قضايا: تجسيد الأنبياء روائيًا، موت الجبلاوي في الرواية وكأنه تمثيل لموت الإله، وأخيرًا محاكاة القرآن على اعتبار أن الرواية تنقسم إلى 114 فصلًا (عدد سور القرآن). محفوظ قال لمترجمه عندما سرد له الاعتراضات ضاحكًا: “أعوذ بالله”، سأوضح لك الأمر. قال: ” الرواية بالمقدمة 115 فصلًا، هذا تقسيم، لم يكن في ذهني في أثناء الكتابة، كان في ذهني أن تكون الرواية من خمسة فصول رئيسية، أما التقسيم داخل الفصول فتمّ بعد أن انتهيتُ من الرواية، أرقام لمجرد تسهيل القراءة ليس إلا، وسور القرآن تحمل أسماء لا أرقام، كما أنها متفاوتة الطول”، يضيف محفوظ:”أما ما يتعلق بفكرة تجسيد الأنبياء، هو أمر مرفوض من معظم رجال الدين، وفي كل الأديان، وقد تعرض كازنتزاكس لهجوم شديد بسبب روايته “المسيح يصلب من جديد”. هم لا يريدون أن يتصوروا أن الأنبياء بشر مثلنا، يأكلون ويشربون، وردي عليهم من القرآن: “وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق”. رغم ذلك أنا لم أكن أقصد الأنبياء في روايتي، قاسم ليس هو النبي محمد، هو شاب ينتمي إلى قاهرة القرن التاسع عشر، ليس شابًا من مكة ينتمي إلى القرن السابع”. يضيف محفوظ: أما ما يتعلق بالجبلاوي، فالماركسيون هم الذين تصوروا في نقدهم أنني أدعو إلى موت الإله. الجبلاوي ليس هو الله المطلق الخالد، وإنما هو الإله في أذهان بعض البشر. لا يمكن أن يمثل الله شيئًا لأنه ليس كمثله شيء”. أضاف محفوظ: “عندما انتهيتُ من الرواية شعرت أنني وجدت إيماني”. تعددت النقاشات طوال أيام الترجمة، وفي كل لقاء يكشف محفوظ بعضًا من مصادر إلهامه. قال محفوظ إنه تأثر في الرواية بجورج برنارد شو تحديدًا في مسرحيته ” العودة إلى متوشولح”، التي تتضمن خمسة فصول عن تاريخ البشرية: ” إنه الكتاب الغربي الوحيد الذي يمكن إقامة علاقة بينه وبين أولاد حارتنا”.

صوفي وملحد في آن

فى عام 1981 صدرت ترجمة في طبعة أكاديمية محدودة وفقيرة. لم تبَع من الترجمة الإنجليزية للرواية سوي 400 نسخة طوال ثماني سنوات حتى حصول محفوظ على جائزة نوبل. عندما طلب منه نشر الترجمة مرة أخرى قام بمقارنة نسخة الأهرام، وطبعة دار الآداب، ليجد 961 اختلافًا بين النص الذي نشرته الأهرام ونص الرواية الصادر عن دار الآداب، وهي تمثل ما يقرب من 1241 كلمة ناقصة بخلاف آلاف الاختلافات في علامات الترقيم. استنتج ستيورت أن طبعة دار الآداب اعتمدت علي المخطوط الأصلي:”ربما باعه أحد من الأهرام لدار الآداب”، حسبما يقول. طبعة الأهرام بها العديد من الكلمات التي سقطت فى أثناء عملية الكتابة، كما أن طبعة الآداب بها فقرات كاملة محذوفة. النصان غير مكتملَين. محفوظ أبدى غضبه من طبعة دار الآداب، “ناقصة. ولم أشارك في مراجعتها” حسبما قال. الترجمة الإنجليزية قد تكون هي النص الوحيد المكتمل للرواية بعد مقارنتها بالنصَين، فضلًا عن مراجعة محفوظ بنفسه، ومساعداته في الترجمة التى وصفها محفوظ فى رسالة إلى المترجم:” إنك جدير بكل شكر، أولًا لترجمتك الرواية بأسلوب شهد له كل من قرأه بالجودة والجمال، وثانيًا بكتابة هذا المقال الجيد”. المقال الذي كتبه ستيورت قرأه محفوظ وأعجب به، وقال فى الرسالة: وجدتُ فيها حلًا موفقًا بين من اتهموا روايتي بالإلحاد ومن وصفوها بأنها عمل صوفي. وأعجبنى كذلك متابعتك لأصلها عند برنارد شو، وهذا يتفق مع إعجابي به وبعمله الكبير”الرجوع إلى متوشولح” بصفة خاصة. ولعل الدكتور (محمد) مندور كان الناقد الوحيد الذي ألمح إلى مثل هذه الفكرة عندما قال عني أنني نقلتُ فكرة تقليدية عن الله دون تعرض لله ذاته”. الحوار مع ستيورت يطرح السؤال أين ذهب مخطوط الرواية الأصلي؟

سألتُ رنا إدريس ابنه الكاتب سهيل إدريس صاحب دار الآداب الذي نشر الرواية، فأحالتني إلى والدتها عايدة إدريس، التي شهدت نشر الرواية فى الدار: “الرواية نُشرت من تجميع الدكتور سهيل إدريس لما نُشر في جريدة الأهرام، وبموافقة نجيب محفوظ الذي رفض التوقيع على عقد، إلا أننا نملك جميع الإيصالات الموقعة من قِبله بأنه استلم حقوقه كاملة من دار الآداب منذ الطبعة الأولى”. أبو السعود إبراهيم رئيس قسم المعلومات والأبحاث بالأهرام الأسبق، التحق بالعمل فى “الأهرام” عام 1965 أي بعد نشر “أولاد حارتنا” بحوالي ست سنوات كاملة، لكن طوال فترة عمله بالأرشيف لم تمر عليه أي مخطوطات لروايات نجيب محفوظ: “عادة كانت الأصول تذهب إلى قسم التصحيح، ثم إلى صاحب العمل نفسه ليراجع المراجعة النهائية، ولم يحدث أن جاءت روايات محفوظ إلى قسم المعلومات طوال فترة عملي”. أبوالسعود قام أيضًا بتصنيف مكتبة الأستاذ هيكل ووثائقه، وعلى خبرة ومعرفة كبيرة بما تضمه المكتبة من وثائق ومراجع يؤكد: “أكاد أجزم أن مكتبة الأستاذ هيكل لا تتضمن أي أصول لروايات محفوظ التي نشرت أثناء رئاسة الأستاذ للأهرام”. الفنان جميل شفيق أحد أقدم أعضاء شلة الحرافيش نفى أيضًا أن يكون محفوظ قد أطلعهم على أعماله المخطوطة قبل نشرها، أو تحدث فى أي مرة عن مخطوطاته:”كان لديه أسراره الخاصة التي يحرص عليها”، سألتُه: “هل تضمنت مكتبة الراحل عادل كامل أي مخطوطات لمحفوظ؟”، أجاب: “بعد أن قرر عادل كامل الهجرة، كتب لي توكيلًا خاصًا للتصرف فى أعماله، وقد حصلت بموجب هذا التوكيل على كل مخطوطات صاحب “مليم الأكبر”، وقد طلبها مني الروائى سليمان فياض ومنحته إياها، وكان من بينها رواية كاملة غير منشورة بعنوان”الله والجسد والشيطان”، لكن لم يكن من بين أوراق كامل أي مخطوطات لمحفوظ”.

كيف تراقب رقيبًا؟

قبل سبعة شهور من بدء نشر ” أولاد حارتنا” في الأهرام، تولي نجيب محفوظ مسئولية جهاز الرقابة على السينما، وهو أصاب الكثيرين بالدهشة، إذ كيف لرجل يدعو للحرية وينادي بها ويتّخذ من الديموقراطية شعارًا ثابتًا له، ثم يرضي أن يكون رقيبًا على الفن، ويحدّ من حرية الفنانين؟ فَسَرَ محفوظ موقفه لرجاء النقاش:” أن الرقابة- كما فهمتها- ليست فنية، ولا تتعرَّض للفن أو قيمته، ووظيفتها- ببساطة – أن تحمي سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول في مشاكل دينية قد تؤدي إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده في حدود المعقول، وفيما عدا ذلك يحق للفنان أن يقول ما يشاء، ويعبِّر عن نفسه بالأسلوب الذي يراه مناسبًا”، وأضاف:” الرقابة ليست قيدًا على الفنان والرقيب ينبغي أن يكون صديقًا للفن لا عدوًا له، وأن دورنا كرقابة هو فى مساعدة شركات الإنتاج حتى لا تتعرض لخسارة مادية لا داعي لها، وبالتالي فإن أي ملاحظات فى السيناريوهات المقدمة لنّا يمكن حلها بالمناقشة والحوار، مع الأخذ في الاعتبار أن الأصل في الفن هو “الإباحة” أما “المنع” فهو مثل الطلاق أي أبغض الحلال. وطوال الفترة التي أمضيتها بالرقابة كنتُ مُنحازًا للفن، رغم أن الأجواء بها تحمل روح العداء للفن. لم أشعر، في لحظة من اللحظات، أنني أخون نفسي كأديب وفنان “. لم يكن محفوظ المثقف الأول، الذى يتولى مسئولية رقابية، تاريخيًا فقد سبقه العقاد الذي تولى أثناء الحرب العالمية في الفترة من 1939- 1945 جهاز الرقابة على المطبوعات، وأعلن العقاد أنه قَبَلَ المسئولية حتى يستطيع أن يمنع كتب الدعاية النازية والفاشية وغيرها من النظم الشمولية.

 

حورب محفوظ بسبب منصبه الجديد، ومن أبرز الطرائف التي يحكيها فى مذكراته: “لقد اختلفت مع مثل هذه العقليات كثيرًا، فعندما ظهرت أغنية “يا مصطفى يا مصطفى” للمطرب الشهير بوب عزام، وتقول كلماتها: “يا مصطفى يا مصطفى، أنا بحبك يا مصطفى، سبع سنين في العطارين”، فوجئت بمراقب الأغاني يصدر قرارًا بمنعها، رغم أن الأغنية تذاع في الراديو، ويغنّيها الناس في الشارع، ولمّا سألته عن سبب قرار المنع أعطاني أغرب إجابة يمكن أن أسمعها في حياتي، إذ قال لي إن مؤلف الأغنية يقصد بها “مصطفى النحاس” وأن “سبع سنين” الواردة في الأغنية تشير إلى مرور سبع سنوات على قيام ثورة يوليو 1952، إلى هذا الحَدّ من ضيق الأفق كانت العقليات التي تعمل معي في جهاز الرقابة”. فى حوار مع محفوظ حول “القبلة” قال محفوظ أنه كرقيب كان يوافق على القبلات بأنواعها كافة، ما عدا واحدة، تلك التي تستقر على العنق، خصوصًا لو طال زمنها على الشاشة أكثر من دقيقة. سألوه في حوار صحفي: هذا عن الشاشة ماذا عن الواقع، ماذا تفعل كنجيب محفوظ الإنسان لو رأيت شابًا وفتاة يختلسان قبلة في الشارع؟ أجابهم: “أبدًا أُبعد وجهي الناحية الأخرى، وأبتسم وأقول: أوعدنا يا رب”. لم يبق محفوظ فى منصبه طويلًا، مجرد عام واحد فقط، بعد نشر “أولاد حارتنا”. رفض محفوظ أن يخوض معركة دفاعًا عن روايته” القاهرة الجديدة”، التي رفض الرقيب عبد الرحيم سرور أن يتم تحويلها إلى فيلم. اعتبر محفوظ أن هذه المعركة تخص المخرج وكاتب السيناريو، وليس له الحق فى أن يخوضها. استمر رفض الرقابة تقديم “القاهرة الجديدة”، و أيضا رواية ” السراب” لسنوات..قبل أن ينتصر الفن في النهاية!